المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الغدر والخيانة. {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ}؛ أي: قبلها الإنسان عند عرض تلك الأمانة - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٢٣

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: الغدر والخيانة. {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ}؛ أي: قبلها الإنسان عند عرض تلك الأمانة

الغدر والخيانة.

{وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ} ؛ أي: قبلها الإنسان عند عرض تلك الأمانة عليه، والمراد بالإنسان: الجنس، بدليل قوله:{إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} ؛ أي: تكلفها والتزمها مع ما فيه من ضعف البنية، ورخاوة القوة؛ لأن الحمل إنما يكون بالهمة، لا بالقوة.

وقال بعضهم: المراد بالإنسان: آدم عليه السلام. وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: مثلت الأمانة كالصخرة الملقاة، ودعيت السموات والأرض والجبال إليها، فلم يقربوا منها، وقالوا: لا نطيق حملها، وجاء آدم من غير أن يدعى، وحرك الصخرة، وقال: لو أمرت بحملها لحملتها، فقلنا له: احمل، فحملها إلى ركبتيه، ثم وضعها، وقال: لو أردت أن ازداد لزدت، فقلنا له: احمل، فحملها إلى حقوه، ثم وضعها وقال: لو أردت أن ازداد لزدت، فقلنا له: احمل، فحملها حتى وضعها على عاتقه، فأراد أن يضعها، فقال الله: مكانك، فإنها في عنقك، وعنق ذريتك إلى يوم القيامة.

{إِنَّهُ} ؛ أي: إن الإنسان {كَانَ ظَلُومًا} لنفسه بمعصية ربه؛ حيث لم يف، ولم يراع حقها. وقيل: المراد بظلمه لها: إتعابه إياها. {جَهُولًا} بكنه عاقبتها. وجملة {إِنَّ} اعتراض وُسِّط بين الحمل وغايته للإيذان من أول الأمر بعدم وفائه بما عهد تحمله؛ أي: إنه كان مفرطًا في الظلم، مبالغًا في الجهل؛ أي: بحسب غالب أفراده الذين لم يعملوا بموجب فطرتهم السليمة، أو عهودهم يوم الأرواح، دون من عداهم من الذين لم يبدِّلوا فطرة الله، وجروا على ما اعترفوا بقولهم: بلى.

‌73

- واللام في قوله: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ} - الذين ضيعوا الأمانة بعدما قبلوها {وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} - الذين خانوا في الأمانة بعدم قبولها رأسًا - لامُ العاقبة متعلقة بـ {حَمَلَهَا} ، وجملة قوله:{إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} معترضة؛ لأن التعذيب، وإن لم يكن غرضًا له من الحمل، لكان لما ترتب عليه بالنسبة إلى بعض أفراده ترتب الأغراض على الأفعال المعللة بها .. أبرز في معرض الغرض، وهذا إشارة إلى الفريق الأول؛ أي: كان عاقبة حمل الإنسان لها أن يعذِّب الله هؤلاء من أفراده لخيانتهم الأمانة، وخروجهم عن الطاعة بالكلية. قال في "بحر العلوم": ويجوز أن تكون اللام علة لـ {عَرَضْنَا} ؛ أي: عرضنا عليه ليظهر نفاق المنافقين، وإشراك

ص: 154

المشركين، فيعذبهما الله تعالى.

{وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} الذين حفظوا الأمانة، وراعوا حقها. قال في "الإرشاد": وهذا إشارة إلى الفريق الثاني؛ أي: كان عاقبة حمله لها أن يتوب الله على هؤلاء من أفراده؛ أي: يقبل توبتهم لعدم خلعهم ربقة الطاعة عن رقابهم بالمرة، وتلافيهم فرط منهم من فرطات، قلما يخلو الإنسان عنها بحكم جبليته، وتداركهم لها بالتوبة والإنابة، أو عرضنا عليه ليظهر إيمان المؤمن، فيتوب الله عليه؛ أي: يعود عليه بالمغفرة والرحمة إن حصل منهم تقصير في بعض الطاعات.

وقرأ الأعمش (1): {فيتوب} بالرفع على جعل العلة قاصرة على ما قبله، وذهب صاحب "اللوامح" أن الحسن قرأ:{ويتوب} : بالرفع، ذكره أبو حيان في "البحر".

{وَكَانَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {غَفُورًا رَحِيمًا} ؛ أي: كثير المغفرة والرحمة للمؤمنين من عباده إذا قصروا في شيء مما يجب عليهم، أو كان (2) غفورًا للظلوم، رحيمًا على الجهول؛ لأن الله سبحانه وعد عباده بأنه يغفر الظلم جميعًا إلا الظلم العظيم الذي هو الشرك.

وإجمال الآية (3): أي إنا لم نخلق السموات والأرض على عظم أجرامها، وقوة أسرها، مستعدةً لحمل التكاليف بتلقي الأوامر والنواهي، والتبصر في شؤون الدين والدنيا، ولكن خلقنا الإنسان على ضعف منَّته، وصغر جرمه مستعدًا لتلقيها، والقيام بأعبائها، وهو مع ذلك قد غلبت عليه الانفعالات النفسية الداعية إلى الغضب، فكان ظلومًا لغيره، وركِّب فيه حب الشهوات، والميل إلى عدم التدبر في عواقب الأمور، ومن ثَمَّ كلفناه بتلك التكاليف لتكسر سورة تلك القوى، وتخفف من سلطانها عليه، ونكبت من جماحها حتى لا توقعه في مواقع الردى. ثم بين عاقبة تلك التكاليف، فقال: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ

} الخ. أي: وكان عاقبة حمل الإنسان لهذه الأمانة أن يعذب من خانها وأبى الطاعة.

(1) البحر المحيط.

(2)

المراح.

(3)

المراغي.

ص: 155

والانقياد لها من المنافقين والمنافقات، والمشركين والمشركات، ويقبل توبة المؤمنين والمؤمنات إذا رجعوا إليه وأنابوا، لتلافيهم ما فرط منهم من الجهل، وعدم التبصر في العواقب، وتداركهم ذلك بالتوبة.

ثم علل قبوله لتوبتهم فقال: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} ؛ أي: وكان ستارًا لذنوب عباده، كثير الرحمة بهم، ومن ثَمَّ قبل توبة من أناب إليه، ورجع إلى حظيرة قدسه، وأخلص له العمل، وتلافى ما فرِّط منه من الزلات، وأثابه على طاعته بالفوز العظيم. نسألك اللهم أن تتوب علينا، وتغفر لنا ما فرط منا من الزلات، وتثيبنا بالفوز العظيم في الجنات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.

الإعراب

{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)} .

{إِنَّ الَّذِينَ} : ناصب واسمه. {يُؤْذُونَ اللَّهَ} : فعل وفاعل ومفعوله. {وَرَسُولَهُ} : معطوف على الجلالة، والجملة صلة الموصول. {لَعَنَهُمُ اللَّهُ}: فعل ومفعول وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إِنَّ} ، وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {فِي الدُّنْيَا}: متعلق بـ {لَعَنَهُمُ} . {وَالْآخِرَةِ} : معطوف على {الدُّنْيَا} . {وَأَعَدَّ} : فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على الله. {لَهُمْ}: متعلق بـ {أَعَدّ} . {عَذَابًا} : مفعول به. {مُهِينًا} : صفة {عَذَابًا} ، وجملة {أَعَدَّ} في محل الرفع معطوفة على جملة {لَعَنَهُمُ}. {وَالَّذِينَ}: مبتدأ. {يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ} : فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول، {وَالْمُؤْمِنَاتِ}: معطوف على {الْمُؤْمِنِينَ} . {بِغَيْرِ} : متعلق بـ {يُؤْذُونَ} وهو مضاف، {مَا}: اسم موصول في محل الجر مضاف إليه. {اكْتَسَبُوا} : فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: بغير الذنب الذي اكتسبوه، أو {مَا} مصدرية، والجملة الفعلية صلته، والمصدر المنسبك منها مضاف إليه لـ {غَيْرِ}؛ أي: بغير اكتسابهم وجرمهم. {فَقَد} {الفاء} : رابطة الخبر بالمبتدأ لما في المبتدأ من العموم. {قد} : حرف تحقيق. {احْتَمَلُوا} : فعل وفاعل. {بُهْتَانًا} : مفعول به. {وَإِثْمًا} : معطوف على {بُهْتَانًا} . {مُبِينًا} : صفة. {كَانَ} والجملة الفعلية في محل الرفع خبر

ص: 156

المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على جملة {إِنَّ} .

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)} .

{يَا أَيُّهَا} : منادى نكرة مقصودة. {النَّبِيُّ} : صفة لأي، وجملة النداء مستأنفة {قُلْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد صلى الله عليه وسلم. {لِأَزْوَاجِكَ}: متعلق بـ {قُلْ} ، وجملة القول جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ}: معطوفان على {أَزْوَاجِكَ} . {يُدْنِينَ} : فعل مضارع وفاعل؛ لأن النون ضمير النسوة. {عَلَيْهِنَّ} : متعلق بـ {يُدْنِينَ} ، أو حال مقدمة على صاحبها، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قُلْ} ، وقيل: هو مجزوم بلام الأمر المحذوفة؛ أي: ليدنين. {مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} : متعلق بـ {يُدْنِينَ} . {ذَلِكَ أَدْنَى} : مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. {أَن}: حرف نصب ومصدر. {يُعْرَفْنَ} : فعل مضارع مغيَّر الصيغة مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة، ونون النسوة نائب فاعل، والمصدر المنسبك من الفعل مجرور بحرف جر محذوف تقديره: أي ذلك أدنى وأقرب إلى معرفتهن. {فَلَا} : {الفاء} : عاطفة، {لا}: نافية. {يُؤْذَيْنَ} : فعل مضارع مغيَّر الصيغة، ونائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة {يُعْرَفْنَ}. {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}: فعل ناقص واسمه وخبره. {رَحِيمًا} : خبر ثان له، والجملة مستأنفة.

{لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60)} .

{لَئِنْ} : {اللام} : موطئة للقسم، {إن}: حرف شرط. {لَمْ} : حرف جزم. {يَنْتَهِ} : فعل مضارع مجزوم بـ {لَّمْ} ، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وهي الياء. {الْمُنَافِقُونَ}: فاعل. {وَالَّذِينَ} : معطوف على {الْمُنَافِقُونَ} ، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها فعل شرط لها، وجواب {إن} الشرطية محذوف دل عليه جواب القسم، تقديره: إن لم ينتهوا نغرينك بهم، وجملة {إن} الشرطية معترضة لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين القسم وجوابه. {فِي قُلُوبِهِمْ}: خبر مقدم. {مَرَضٌ} : مبتدأ مؤخر، والجملة صلة الموصول. {وَالْمُرْجِفُونَ}: معطوف على {الْمُنَافِقُونَ} {فِي الْمَدِينَةِ} : متعلق بـ {مرجفون} . {لَنُغْرِيَنَّكَ} : {اللام} : موطئة

ص: 157

للقسم مؤكدة للأولى، وكُرِّرت لإفادة أن المذكور جواب القسم لتقدمه على الشرط، كما هو القاعدة عندهم. {نغرينك}: فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، ونون التوكيد الثقيلة حرف لا محل لها من الإعراب، وفاعله ضمير مستتر وجوبًا، تقديره: نحن، يعود على الله، والكاف: مفعول به. {بِهِمْ} : متعلق بـ {نغرينك} ، والجملة الفعلية جواب القسم، وجملة القسم مع جوابه مستأنفة لا محل لها من الإعراب. {ثُمَّ}: حرف عطف وترتيب وتراخ. {لَا} : نافية. {يُجَاوِرُونَكَ} : فعل وفاعل ومفعول، معطوف على {نغرينك}. {فِيهَا}: متعلق بـ {يجاورون} ، أو حال من فاعل {يجاورون} {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ. {قَلِيلًا} : ظرف زمان متعلق بـ {يجاورون} ؛ لأنه صفة لزمان محذوف؛ أي: زمانًا قليلًا، أو منصوب على المصدرية؛ لأنه صفة لمصدر محذوف. إلا جوارًا قليلًا.

{مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)} .

{مَلْعُونِينَ} : حال من فاعل {يُجَاوِرُونَكَ} ، أو حال من مقدر حذف هو وعامله. تقديره: ثم يخرجون ملعونين. {أَيْنَمَا} : اسم شرط جازم يجزم فعلين، في محل النصب على الظرفية المكانية، مبني على الفتح لشبهه بالحرف شبهًا معنويًا، والظرف متعلق بالجواب {ما} زائدة زيدت لتأكيد معنى الكلام. {ثُقِفُوا}: فعل ماضٍ مغيَّر الصيغة، ونائب فاعل في محل الجزم بـ {أَيْن} على كونه فعل شرط لها. {أُخِذُوا}: فعل ماض مغيَّر الصيغة، ونائب فاعل في محل الجزم بـ {أَيْن} على كونه جواب الشرط لها، وجملة الشرط مستأنفة. {وَقُتِّلُوا}: فعل ماض مغيَّر الصيغة، ونائب فاعل معطوف على {أُخِذُوا}. {تَقْتِيلًا}: مفعول مطلق مؤكد لعامله. {سُنَّةَ اللَّهِ} : مفعول مطلق مؤكد لعاملة المحذوف، تقديره: سنَّ الله ذلك الأخذ والقتل في الذين نافقوا من قبل. {فِي الَّذِينَ} : متعلق بـ {سُنَّةَ اللَّهِ} ، أو بعامله المحذوف. {خَلَوْا}: فعل وفاعل، صلة الموصول. {مِنْ قَبْلُ}: متعلق بـ {خَلَوْا} . {وَلَنْ تَجِدَ} : {الواو} : عاطفة، {لَن تجد}: ناصب وفعل مضارع منصوب بـ {وَلَنْ تَجِدَ} ، وفاعله ضمير مستتر يعود على محمد. {لِسُنَّةِ اللَّهِ}: متعلق بـ {تَبْدِيلًا} . و {تَبْدِيلًا} : مفعول به لـ {تَجدَ} ، والجملة معطوفة على جملة {سن} المحذوفة.

ص: 158

{يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63)} .

{يَسْأَلُكَ النَّاسُ} : فعل ومفعول به وفاعل. {عَنِ السَّاعَةِ} : متعلق بـ {يَسْأَلُكَ} ، والجملة الفعلية مستأنفة مسوقة لحكاية حال المستهزئين من المشركين واليهود {قُلْ}: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة {إِنَّمَا}: أداة حصر. {عِلْمُهَا} : مبتدأ. {عِنْدَ اللَّهِ} : ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول {قُلْ}. {وَمَا}: الواو: عاطفة، {مَا}: اسم استفهام للإنكار مبتدأ، وجملة {يُدْرِيكَ} خبره، والجملة الاسمية مستأنفة؛ أي: أيُّ شيء مدر إياك وقت مجيئها؛ أي: لا تعلمه. {لَعَلَّ السَّاعَةَ} : ناصب واسمه. {تَكُونُ} : فعل مضارع ناقص، واسمها ضمير يعود على {السَّاعَةَ} {قَرِيبًا}: خبرها؛ أي: شيئًا قريبًا، وجملة {تَكُونُ} في محل الرفع خبر {لَعَلَّ} ، وجملة {لَعَلَّ} في محل نصب مفعول ثانٍ لـ {يُدْرِيكَ} ، والتقدير: وما يدريك قرب قيام الساعة.

{إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66)} .

{إِنَّ اللَّهَ} : ناصب واسمه. {لَعَنَ الْكَافِرِينَ} : فعل وفاعل مستتر يعود على الله. {الْكَافِرِينَ} : مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إِنَّ} ، وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {وَأَعَدَّ}: فعل ماض، وفاعل مستتر، معطوف على {لَعَنَ}. {لَهُمْ}: متعلق بـ {أَعَدَّ} . {سَعِيرًا} : مفعول به. {خَالِدِينَ} : حال من {الْكَافِرِينَ} . {فِيهَا} متعلق بـ {خَالِدِينَ} . {أَبَدًا} ظرف زمان متعلق بـ {خَالِدِينَ} أيضًا. {لَا} : نافية. {يَجِدُونَ} : فعل وفاعل. {وَلِيًّا} : مفعول به. لـ {يَجِدُونَ} ، {وَلَا نَصِيرًا}: معطوف على {وَلِيًّا} ، وجملة {لَا يَجِدُونَ} حال ثانية من {الْكَافِرِينَ}. {يَوْمَ}: ظرف زمان متعلق بـ {يَقُولُونَ} ، أو بمحذوف، تقديره: اذكر، أو متعلق بـ {لَا يَجِدُونَ}. {تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ}: فعل مضارع مغيَّر الصيغة ونائب فاعل، والجملة الفعلية في محل الجر بإضافة {يَوْمَ} إليه. {فِي النَّارِ}: متعلق بـ {تُقَلَّبُ} . {يَقُولُونَ} : فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، أو حال من ضمير {وُجُوهُهُمْ}. {يَا لَيْتَنَا}:{يا} : حرف نداء، والمنادى محذوف، تقديره: يا قوم، أو يا هؤلاء. {ليتنا}: ناصب واسمه،

ص: 159

وجملة {أَطَعْنَا اللَّهَ} خبر {لَيْتَ} جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {وَأَطَعْنَا} : فعل وفاعل. {الرَّسُولَا} : مفعول به، والجملة معطوفة على جملة {أَطَعْنَا اللَّهَ} .

{وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)} .

{وَقَالُوا} : فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {رَبَّنَا}: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالُوا}. {إِنَّا}: ناصب واسمه. {أَطَعْنَا سَادَتَنَا} : فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر {إِنّ} ، وجملة {إِنّ} في محل النصب مقول {قَالُوا}. {وَكُبَرَاءَنَا}: معطوف على {سَادَتَنَا} ، {فَأَضَلُّونَا}:{الفاء} : عاطفة. {أضلونا} : فعل وفاعل ومفعول، معطوف على {أَطَعْنَا}. {السَّبِيلَا}: مفعول ثان لـ {أَضَلُّونَا} ، وزيادة الألف لإطلاق الصوت، جعلت فواصل الآي كقوافي الشعر، وفائدتها الوقف، والإشارة إلى أن الكلام قد انقطع. {رَبَّنَا}: منادى مضاف حذف منه حرف النداء للتخفيف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالُوا}. {آتِهِمْ}: فعل دعاء، وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول أول؛ لأنه بمعنى: أعطي. {ضِعْفَيْنِ} : مفعول ثانٍ لـ {آتِهِمْ} . {مِنَ الْعَذَابِ} : صفة لـ {ضِعْفَيْنِ} ، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قَالُوا} على كونها جواب النداء. {وَالْعَنْهُمْ}: فعل دعاء، وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به، معطوف على {آتِهِمْ}. {لَعْنًا}: مفعول مطلق. {كَبِيرًا} : صفة {لَعْنًا} .

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)} .

{يَا أَيُّهَا} {يا} : حرف نداء. {أي} : منادى نكرة مقصودة، وجملة النداء مستأنفة. {الَّذِينَ}: صفة لـ {أي} . {آمَنُوا} : صلة الموصول. {لَا} ناهية جازمة. {تَكُونُوا} : فعل ناقص واسمه، مجزوم بـ {لَا} الناهية. {كَالَّذِينَ}: جار ومجرور خبر {تَكُونُوا} ، وجملة {تَكُونُوا} جواب النداء، لا محل لها من الإعراب. {آذَوْا مُوسَى}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة صلة الموصول. {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ}:{الفاء} : عاطفة. {بَرَّأَهُ اللَّهُ} : فعل ماض ومفعول به وفاعل، معطوف على جملة {آذَوْا

ص: 160

مُوسَى}. {مِمَّا} : جار ومجرور، متعلق بـ {بَرَّأَ} ، ويجوز أن تكون {ما} مصدرية، أو موصولة، {قَالُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {مَا} الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: مما قالوه فيه، أو من مضمون قولهم: إن قلنا: إنها مصدرية. {وَكَانَ} : فعل ناقص، واسمه مستتر يعود على موسى. {عِنْدَ اللَّهِ}: متعلق بـ {وَجِيهًا} . و {وَجِيهًا} : خبر {كان} ، وجملة {كان} مستأنفة.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} .

{يَا أَيُّهَا} : منادى نكرة مقصودة. {الَّذِينَ} : صفة لأي، وجملة النداء مستأنفة. {آمَنُوا}: صلة الموصول. {اتَّقُوا اللَّهَ} : فعل وفاعل ومفعول به، والجملة جواب النداء لا محل لها من الإعراب. {وَقُولُوا}: فعل وفاعل، معطوف على {اتَّقُوا}. {قَوْلًا}: مفعول مطلق. {سَدِيدًا} : صفة {قَوْلًا} . {يُصْلِحْ} : فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله مجزوم بالطلب السابق. {لَكُمْ}: متعلق بـ {يُصْلِحْ} . {أَعْمَالَكُمْ} : مفعول به، والجملة الفعلية جملة جوابية لا محل لها من الإعراب. {وَيَغْفِرْ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله تعالى، معطوف على جملة {يُصْلِحْ} {لَكُمْ} متعلق بـ {اللَّهَ}. {ذُنُوبَكُمْ}: مفعول به. {وَمَنْ} : {الواو} : استئنافية. {مَنْ} : اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشوط، أو الجواب، أو هما. {يُطِعِ}: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على {مَنْ} الشرطية، مجزوم بـ {مَن} الشوطية على كونها فعل شرط لها. {اللَّهَ}: لفظ الجلالة مفعول به. {وَرَسُولَهُ} : معطوف عليه. {فَقَدْ} : {الفاء} : رابطة الجواب وجوبًا لاقترانه بـ {قَدْ} . {قَدْ} : حرف تحقيق. {فَازَ} : فعل ماضٍ، وفاعله مستتر في محل الجزم بـ {مَن} الشرطية على كونها جوابًا لها. {فَوْزًا}: مفعول مطلق. {عَظِيمًا} : صفة {فَوْزًا} ، وجملة {مَن} الشرطية مستأنفة.

{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)} .

{إِنَّا} : ناصب واسمه {عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} : فعل وفاعل ومفعول به، والجملة

ص: 161

في محل الرفع خبر {إِنَّا} ، وجملة {إِنَّا} مستأنفة. {عَلَى السَّمَاوَاتِ}: متعلق بـ {عَرَضْنَا} . {وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ} : معطوفان على {السَّمَاوَاتِ} . {فَأَبَيْنَ} : {الفاء} : عاطفة. {أَبَيْنَ} : فعل ماض مبني على السكون لاتصاله بضمير رفع متحرك، والنون فاعل، والجملة معطوفة على جملة {عَرَضْنَا}. {أَنْ}: حرف نصب ومصدر {يَحْمِلْنَهَا} : فعل وفاعل ومفعول به في محل النصب بـ {أَن} المصدرية مبني على السكون لاتصاله بنون الإناث، والجملة الفعلية مع {أَن} المصدرية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ {أبين}؛ أي: فأبين حملهن إياها. {وَأَشْفَقْنَ} : {الواو} : عاطفة. {أَشْفَقْنَ} : فعل ماض وفاعل، مبني على السكون. {مِنْهَا}: متعلق بـ {أَشْفَقْنَ} ، والجملة الفعلية معطوفة على جملة {أَبَيْنَ}. {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ}: فعل ومفعول به وفاعل، والجملة معطوفة على محذوف، تقديره: فعرضناها على الإنسان، وحملها الإنسان. {إِنَّهُ}: ناصب واسمه. {كَانَ} : فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على الإنسان. {ظَلُومًا}: خبرها الأول. {جَهُولًا} : خبر ثانٍ لها، وجملة {كَانَ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.

{لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)} .

{لِيُعَذِّبَ} : {اللام} : حرف جر وتعليل. {يُعَذِّبَ} : فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي. {اللَّهُ} : فاعل. {الْمُنَافِقِينَ} : مفعول به {وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} : معطوفات على {الْمُنَافِقِينَ} ، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لتعذيب الله المنافقين الخ، الجار والمجرور متعلق بـ {حَمَلَهَا} ، وقيل: بـ {عَرَضْنَا} ، واللام لام التعليل، أو لام العاقبة على الخلاف المار فيه. {وَيَتُوبَ}: معطوف على {يُعَذِّبَ} . {اللَّهُ} : فاعل. {عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} : متعلق بـ {يَتُوبَ} . {وَالْمُؤْمِنَاتِ} : معطوف على {الْمُؤْمِنِينَ} . {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} : فعل ناقص واسمه وخبره. {رَحِيمًا} : خبر ثانٍ لها، وجملة {كَانَ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. والله أعلم.

التصريف ومفردات اللغة

{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ} يقال: آذى يؤذي أذى وأذيَّة وإذاية، ولا يقال: إيذاءً،

ص: 162

كما في "القاموس"، ولكن شاع بين أهل التصنيف استعماله، كما في "التنبيه" لابن كمال.

{يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} من الإدناء من الدنو، وهو القرب. والجلابيب: جمع جلباب. وفي "القاموس" وغيره: الجلباب، والجلبَّاب - بتشديد الباء - الأولى: ثوب أوسع من الخمار دون الرداء، تلويه المرأة على رأسها، وتبقي منه ما ترسله إلى صدرها، كما في "الكشاف".

{لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ} الانتهاء: الانزجار عما نهي عنه. {وَالْمُرْجِفُونَ} قال في "الأساس": وأرجفوا في المدينة بكذا: إذا أخبروا به على أن يوقعوا في الناس الاضطراب من غير أن يصح عندهم، وهذا من أراجيف الغواة، وتقول: إذا وقعت المخاويف كثرت الأراجيف. وجاء في غيره ما نصه: أرجف: خاض في الأخبار السيئة والفتن، قصد أن يهيج الناس، وأرجف القوم بالشيء وفيه: خاضوا فيه، وأرجفت الريح الشجر: حركته، وأرجفت الأرض بالبناء للمجهول: زلزلت، وأصل الإرجاف: التحريك، مأخوذ من الرجفة، وهي الزلزلة، ووصفت به الأخبار الكاذبة لكونها متزلزلة غير ثابتة، وسمي البحر رجافًا لاضطرابه، ومنه قول الشاعر:

الْمُطْعِمُوْنَ اللَّحْمَ كُلَّ عَشِيَّةٍ

حَتَّى تَغِيْبَ الشَّمْسُ فِيْ الرَّجَّافِ

{لَنُغْرِيَنَّكَ} يقال: غرى بكذا؛ أي: لهج به ولصق، وأصل ذلك من الغراء، وهو ما يلصق به الشي، وقد أغريت فلانًا بكذا إغراءً ألهجته به.

{مَلْعُونِينَ} قال في "الأساس" و"اللسان": لعنه أهله: طردوه وأبعدوه وهو لعين؛ أي: طريد، وقد لعن الله إبليس: طرده من الجنة، وأبعده من جوار الملائكة، ولعنت الكلب والذئب طردتهما، ويقال للذئب: اللعين، ولعنه وهو ملعَّن؛ أي: مكثر لعنه، وتلاعن القوم وتلعنوا والتعنوا والتعن فلان: لعن نفسه، ورجل لُعَنَةٌ ولُعْنَةٌ، كضُحَكَة وضُحْكَة، ولا تكن لعانًا طعانًا، ولاعن امرأته ولاعن القاضي بينهما: أوقع بينهما اللعان.

{أَيْنَمَا ثُقِفُوا} ؛ أي: وجدوا وأدركوا. قال الراغب: الثقف الحذق في إدراك الشيء وفعله، يقال: ثقفت كذا: إذا أدركته ببصرك لحذق في النظر، ثم قد تجوِّز به، فاستعمل في الإدراك، وإن لم يكن معه ثقافة.

ص: 163

{يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ} ؛ أي: القيامة؛ أي: عن وقت قيامها، والساعة في الأصل: جزء من أجزاء الزمان، ويعبَّر بها عن القيامة تشبيهًا بذلك لسرعة حسابها.

{سَعِيرًا} ؛ أي: نارًا مسعورة شديدة الاتقاد، يقال: سعر النار وأسعرها وسعرها: أوقدها.

{سَادَتَنَا} جمع تكسير على وزن فعلة بفتحتين؛ لأن أصله سودة، وهو شائع في وصف لمذكر عاقل صحيح اللام، نحو كامل وكملة، وساحر وسحرة، وسافر وسفرة، وبارٌّ وبررة، وقال تعالى:{وَجَاءَ السَّحَرَةُ} ، {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)} فخرج بالوصف الاسم، نحو: واد وباز، وبالتذكير نحو: حائض وطالق، وبالعقل نحو: سابق ولاحق صفتي فرسين وبصحة اللام نحو: قاضٍ وغازٍ، فلا يجمع شيء من ذلك على فعلة بفتحتين باطرادٍ، وشذ في غير فاعل نحو: سيد وسادة، فوزنها: فعلة، ويجوز أن يكون جمعًا لسائد، نحو: فاجر وفجرة، وكافر وكفرة، وهو أقرب إلى القياس، كما رأيت على أن صاحب "القاموس" لم يلتزم بالقاعدة، فقال: والسائد: السيد أو دونه، والجمع: سادة وسيايد.

وقرأ ابن عامر: {سادتنا} ، فجمعه ثانيًا بالألف والتاء، وهو غير مقيس أيضًا.

{وَكُبَرَاءَنَا} جمع: كبير، وهو مقابل الصغير، والمراد: الكبير رتبةً وحالًا.

{فَأَضَلُّونَا} يقال: أضله الطريق، وأضله عن الطريق بمعنًى واحد؛ أي: أخطأ به عنه.

{فَبَرَّأَهُ اللَّهُ} أصل البراءة: التفصِّي مما تكره مجاورته؛ أي: فأظهر براءة موسى عليه مما قالوا في حقه.

{وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} الوجيه: سيد القوم ذو الجاه والوجاهة. وفي "الوسيط": وجه الرجل يوجه وجاهة فهو وجيه: إذا كان ذا جاه وقدر.

{قَوْلًا سَدِيدًا} مستقيمًا مائلًا إلى الحق، من سد يسد سدادًا من باب ضرب: صار صوابًا ومستقيمًا، فإنَّ السداد الاستقامة، يقال: سدد السهم نحو الرمية: إذا لم يعدل به عن سمتها، وخص القول الصدق بالذكر، وهو ما أريد به وجه الله ليس فيه شائبة غيرٍ وكذب أصلًا؛ لأن التقوى صيانة النفس عما تستحق به العقوبة من فعل

ص: 164

أو ترك، فلا يدخل فيها.

{عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} يقال: عرض لي أمر كذا؛ أي: ظهر. وعرضت له الشيء: أظهرته وأبرزته إليه، وعرضت الشيء على البيع، وعرض الجند: إذا أمرهم عليه، ونظر ما حالهم. والأمانة: ضد الخيانة، والمراد بها هنا: التكاليف الشرعية، والأمور الدينية المرعية.

{فَأَبَيْنَ} ؛ أي: امتنعن من حملها، والإباء: شدة الامتناع، كما مر في مبحث التفسير.

{وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} ؛ أي: خفن منها. قال في "المفردات": الإشفاق: عناية مختلطة بخوف؛ لأن الشفق يحب المشفق عليه، ويخاف ما يلحقه، فإذا عدي بـ {من} فمعنى الخوف فيه أظهر، وإذا عدِّي بـ {على} فمعنى العناية فيه أظهر.

{ظَلُومًا} والظلم: وضع الشيء في غير موضعه المختص به؛ إما بنقصان أو بزيادة، وإما بعدول عن وقته أو مكانه، ومن هذا: ظلمت السقاء: إذا تناولته في غير وقته، ويسمى ذلك اللبن: الظلم، وظلمت الأرض: إذا حفرتها، ولم تكن موضعًا للحفر، وتلك الأرض يقال لها: المظلومة، والتراب الذي يخرج منها ظليم. والظلم يقال في مجاوزة الحد الذي يجري مجرى النقطة في الدائرة، ويقال فيما يكثر ويقل من التجاوز، ولذا تستعمل في الذنب الصغير والكبير، ولذا قيل لآدم في تقدمه: ظالم، وفي إبليس ظالم، وإن كان بين الظلمين بون بعيد.

قال بعض الحكماء: الظلم ثلاثة:

أحدها: بين الإنسان وبين الله سبحانه، وأعظمه الكفر والشرك والنفاق.

والثاني: ظلم بينه وبين الناس.

والثالث: ظلم بينه وبين نفسه، وهذه الثلاثة في الحقيقة للنفس، فإن الإنسان أول ما يهم بالظلم، فقد ظلم نفسه.

{جَهُولًا} والجهل: خلو النفس من العلم، وهو على قسمين: ضعيف: وهو الجهل البسيط، وقوي: وهو الجهل المركب الذي لا يدري صاحبه أنه لا يدري، فيكون محرومًا من التعلم، وكذا كان قويًا. وقال بعضهم: الإنسان ظلوم ومجهول؛

ص: 165

أي: من شأنه الظلم والجهل، كما يقال: الماء طهور؛ أي: من شأنه الطهارة. واعلم أنَّ الظلومية والجهولية صفتا ذم عند أهل الظاهر؛ لأنهما في حق الخائنين في الأمانة، فمن وضع الغدر والخيانة موضع الوفاء والأداء .. فقد ظلم وجهل. اهـ "روح".

البلاغة

وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:

فمنها: التأكيد بإن، وبفعلية الخبر في قوله:{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} إلخ.

ومنها: ذكر الخاص بعد العام في قوله: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ} ، {وَالْمُرْجِفُونَ}: هم من المنافقين، فعمم ثم خصص زيادة في التقبيح والتشنيع عليهم. ومنها: التأكيد بالمصدر.

ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} ؛ لأنه في الأصل إلصاق الشيء بالشيء، فاستعير هنا للتسليط.

ومنها: الإتيان بالمصدر مع الفعل للتأكيد في قوله: {وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} ، وفيه أيضًا: جناس الاشتقاق.

ومنها: الإتيان بعنوان السيادة والكبر في قوله: {سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا} لتقوية الاعتذار، وإلا فهم في مقام التحقير والإهانة.

ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {لَعْنًا كَبِيرًا} ؛ لأن الأصل في الكبير أن يستعمل في الأجرام، ثم استعير هنا للمعاني.

ومنها: التحسر والتفجع بطريق التمني في قوله: {يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} .

ومنها: المجاز المرسل في قوله: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّار} فأطلق الجزء وأراد الكل؛ أي: أجسامهم، وفيه أيضًا تخصيص الوجوه بالذكر؛ لأناقة الوجه على جميع الأعضاء، وهو مثابة المقابلة.

ص: 166

ومنها: التشبيه في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} .

ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: {وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} ، وفي قوله:{فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} .

ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ} مثَّل للأمانة في ضخامتها وعظمها وتفخيم شأنها بأنها من الثقل، بحيث لو عرضت على السموات والأرض والجبال، وهي من القوة والشدة بأعلى المنازل .. لأبت عن حملها، وأشفقت منها، وهو تمثيل رائع لتهويل شأن الأمانة.

ومنها: المقابلة اللطيفة بين قوله: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ} ، وبين قوله:{وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} ، وفي ختم السورة بهذه الآية من البدائع ما يسميه علماء البديع: ردَّ العجز على الصدر؛ لأن بدء السورة كان في ذم المنافقين، وختامها كان في بيان سوء عاقبة المنافقين، فحسن الكلام.

ومنها: العدول إلى صيغة الماضي في قوله: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا} مع كونه معطوفًا على يقولون قبله؛ للإشعار بأن قولهم ليس مستمرًا، كقولهم السابق، بل هو ضرب اعتذار أرادوا به ضربًا من التشفي بمضاعفة عذاب الذين ألقوهم في تلك الورطة.

ومنها: الالتفات من التكلم إلى الغيبة الذي هو الاسم الجليل في قوله: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ} لتهويل الخطب وتربية المهابة.

ومنها: الإظهار في موضع الاضمار ثانيًا في قوله: {وَيَتُوبَ اللَّهُ} لإبراز مزيد الاعتناء بأمر المؤمنين والمؤمنات توفية لكل من مقامي الوعيد والوعد حقه.

ومنها: الاعتراض بقوله: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} بين الحمل وغايته للإيذان من أول الأمر بعدم وفائه بما عهده وتحمله.

ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.

تنبيه: ذكر سبحانه في هذه السورة الكثير من شؤون الزوجية، وكيف تعامل الزوجات، وقد رأينا أن نذكر هنا مسألتين كثر الخوض فيهما من أرباب الأديان

ص: 167

الأخرى، ومن نابتة المسلمين الذين تعلموا في مدارسهم، وسمعوا كلام المبشرين، ظنًا منهم أنهم وجدوا مغمزًا في الإِسلام، وأصابوا هدفًا يصمي الدين، ويجعل معتنقيه مضغة في أفواه السامعين، وأنى لهم ذلك، وليتهم فكروا وتأملوا قبل أن يتكلموا:

أَرَى الْعَنْقَاءَ تَكْبُرُ أَنْ تُصَادَا

فَعَانِدْ مَنْ تُطِيْقُ لَهُ عِنَادَا

1 -

تعدد زوجاته صلى الله عليه وسلم وكثرتهن، بينما لم يبحْ مثل ذلك لأمته.

2 -

إباحة تعدد الزوجات لعامة المسلمين، ومن ثم وجب علينا أن نميط اللثام عن الأسباب التي دعت إلى كل منهما.

أسباب تعدد زوجاته صلى الله عليه وسلم

قبل أن ندخل في تفاصيل البحث نذكر لك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم عاش مع خديجة خمسًا وعشرين سنة، لم يتزوج سواها، وكانت سنه إذ ذاك ناهزت الخمسين، وكان قد تزوجها في شرخ شبابه؛ إذ كانت سنه وقتئذ خمسًا وعشرين سنة، وكانت سنها أربعين، وعاشا معًا عيشًا هنيئًا، شعاره الإخلاص والوفاء، وكانت من أكبر أنصاره على الكفار الذين سخروا منه، وألحقوا به ضروبًا شتى من الأذى، ولم يشأ أن يتزوج غيرها مع ما كان يبيحه له عرف قومه، بل ظل وفيًا لها حتى توفيت، فحزن عليها حزنًا شديدًا، وسمي عام وفاتها: عام الحزن، ولم ينقطع عن ذكراها طوال حياته.

والآن حق علينا أن نذكر لك الأسباب التي حدت النبي صلى الله عليه وسلم إلى التعدد، وهي قسمان: أسباب عامة، وأسباب خاصة.

الأسباب العامة

1 -

إن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم عامة للرجال والنساء، ومن التشريع ما هو مشترك بين الوجل والمرأة، وما هو خاص بأحدهما، وكل يحتاج في تلقينه إلى عدد ليس بالقليل؛ لتفوق المرسل إليهم، وكثرتهم، وقصر زمن حياة الرسول، وكثرة الأحكام وإلا لم يحصل التبليغ على الوجه الأتم. ومن الأحكام المتعلقة بالنساء ما تستحي المرأة أن تعرفه من الرجل، ويستحي الرجل من تبليغه للمرأة، ألا ترى إلى ما روي

ص: 168

عن عائشة رضي الله عنها أن أسماء بنت يزيد الأنصاري قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: كيف أغتسل من الحيض؟ قال: "خذي فرصة ممسكة - قطعة قطن - فتوضئي" قالها ثلاثًا، وهو في كل ذلك يقول:"سبحان الله" عند إعادتها السؤال، ثم أعرض عنها بوجهه استحياء، فأخذتها عائشة، وأخبرتها بما يريد النبي صلى الله عليه وسلم.

ومن ثمَّ وجب أن يتلقى الأحكام الخاصة بالنساء من الرسول صلى الله عليه وسلم عدد كثير منهن، وهن يبلِّغن ذلك إلى النساء، ولا يصلح للتلقي عنه إلا أزواجه؛ لأنهن لهن خصائص تمكنهن من معرفة أغراض النبي صلى الله عليه وسلم دون تأفُّف ولا استحياء، يرشد إلى ذلك قوله:"خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء" يريد عائشة رضي الله عنها والعرب تقول: امرأة حمراء؛ أي: بيضاء.

2 -

إن المصاهرة من أقوى عوامل التآلف والتناصر، كما هو مشاهد معروف، والدعوة في أول أمرها كانت في حاجة ماسة، إلى الإكثار من ذلك؛ لاجتذاب القبائل إليه، ومؤازرتهم له لذود عوادي الضالين، وكفِّ أذاهم عنه، ومن ثَمَّ كان أكثر زوجاته من قريش سيدة العرب.

3 -

إن المؤمنين كانوا يرون أنَّ أعظم شرف، وأمتن قربة إلى الله تعالى مصاهرتهم لنبيه، وقربهم منه، فمن ظفر بالمصاهرة .. فقد أدرك ما يرجو، ألا ترى أن عمر رضي الله عنه أسف جد الأسف حين فارق رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته، وقال: لا يعبأ بعدها بعمر، ولم ينكشف عنه الهم حتى روجعت، وأنَّ عليًا كرم الله وجهه على اتصاله برسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق النسب، وشرف اقترانه بالزهراء، رغب في أن يزوجه أخته أم هانىء بنت أبي طالب؛ ليتضاعف شرفه ولم يمنعها من ذلك إلا خوفها أن تقصِّر في القيام بحقوق الرسول مع خدمة أبنائها.

الأسباب الخاصة

1 -

تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بعد خديجة سودة بنت زمعة أرملة السكران بن عمرو الذي أسلم، واضطر إلى الهجرة إلى بلاد الحبشة هربًا من اضطهاد المشركين، ومات هناك، وأصبحت امرأته بلا معين، وهي أرمل رجل مات في سبيل الدفاع عن الحق، فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وفاء لرجل غادر الأهل والأوطان احتفاظًا بعقيدته، وقد شاركته هذه الزوجة في أهوال التغريب والنفي، وحماية لها من أهلها أن يفتنوها؛

ص: 169

لأنها مع زوجها على غير رغبتهم.

2 -

تزوج ميمونة بنت الحارث الهلالية، وعمرها زهاء خمسين عامًا، وكان زواجه منها سببًا في دخول خالد بن الوليد في دين الله، وهو المجاهد الكبير، والبطل العظيم، وهو الذي غلب الروم على أمرهم فيما بعد، وله في الإِسلام أيام غر محجلة إلى أن زواجها بالنبي صلى الله عليه وسلم يسر لذوي قرباها وسيلة للعيش، فطعموا من جوع، وأمنوا من مخوف، وأثروا بعد فاقة.

3 -

تزوج جويرية، وكان أبوها الحارث بن ضرار سيد بني المصطلق بن خزاعة، جمع قبل إسلامه جموعًا كثيرة لمحاربة النبي صلى الله عليه وسلم، ولما التقى الجمعان عرض عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم الإِسلام فأبوه، فحاربهم حتى هزموا، ووقعت جويرية في سهم ثابت بن قيس، فكاتبها على سبع أواق من الذهب، فلم تر معينًا لها غير النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءت إليه، وأدلت بنسبها، وطلبت حريتها، فتذكر النبي صلى الله عليه وسلم ما كان لأهلها مع العز والسؤدد، وما صاروا إليه بسوء التدبير والعناد، فأحسن إليها وإلى قومها بأداء ما عليها من نجوم، ثم تزوجها، فقال المسلمون بعد أن اقتسموا بني المصطلق: إن أصهار رسول الله لا يسترقون، وأعتقوا من بأيديهم من سبيهم، وعلى إثر ذلك أسلم بنو المصطلق شكرًا لله على الحرية بعد ذل الكفر والأسر.

4 -

تزوج السيدة عائشة مكافأة لأبي بكر الصديق؛ إذ كان شديد التمسك برسول الله صلى الله عليه وسلم، مولعًا بالتقرب منه، فكان ذلك قرة عين لها ولأبويها، وفخرًا لذوي قرباها، وكان عبد الله بن الزبير - ابن أختها - يفاخر بني هاشم بذلك.

5 -

تزوج أم المؤمنين حفصة بنت عمر مكافأة لزوجها الذي توفي مجروحًا في وقعة بدر، وفي تلك الحقبة كانت السيدة رقية بنت الرسول صلى الله عليه وسلم وزوج عثمان قد توفيت، فعرض عمر ابنته على عثمان، فأعرض عنها رغبة في أم كلثوم بضعة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ليستديم له بذلك الشرف، فعز هذا على عمر، وأنفت نفسه، فشكاه إلى أبي بكر، فقال له: لعلها تتزوج من هو خير منه، ويتزوج من هي خير منها له. [يريد زواج عثمان بأم كلثوم، وزواج حفصة بالنبي صلى الله عليه وسلم].

6 -

تزوج صفية بنت حيي بن أخطب سيد بني النضير، وكانت قد وقعت في السبي مع عشيرتها، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها رأفة بها؛ إذ ذلت بعد عزة،

ص: 170

واسترقت، وهي السيدة الشريفة عند أهلها، وتأليفًا لقومها حتى يدخلوا في كنف الإسلام، وينضووا تحت لوائه.

7 -

تزوَّج زينب بنت جحش الأسدية لإبطال عادة جاهلية كانت متأصلة عند العرب، وهي التبني، بتنزيل الدعيِّ منزلة الابن الحقيقيِّ، وإذ أراد الله سبحانه إبطال هذه العادة .. جعل رسوله صلى الله عليه وسلم أسوةً حسنةً في هذا، فسعى في تزويج زيد مولاه بعد أن أعتقه بزينب ذات الحسب والمجد، فأنفت هي وأخوها عبد الله، وأبت أن تكون زوجًا لدعيٍّ غير كفء، فنزل الله سبحانه:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} فرضيا بقضاء الله ورسوله، غير أنها كانت نافرة من هذا القرآن، مترفعة عن زيد، ضائقة به ذرعًا، فآثر فراقها، فسأل الرسول صلى الله عليه وسلم الإذن في ذلك، فقال له:"أمسك عليك زوجك واتق الله"، وأخفى في نفسه ما الله مبديه من تزوجه منها بعد زيد، وخشي أن يقول الناس: تزوج محمد من زوجة زيد ابنه، ولما لم يبق لزيد فيها شيء من الرغبة .. طلَّقها، فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم إبطالًا لتلك العادة، وهي إعطاء المتبنى حكم الابن، وقد تقدم تفصيل هذا في أثناء التفسير بشيء من البسط والإيضاح.

ومما سلف يستبين لك أن ما يتقوَّله غير المنصفين من الغربيين من أن النبي صلى الله عليه وسلم خول لنفسه ميزة لم يعطها لأحد من أتباعه، لا وجه له من الصحة، فإن زواجه بأمهات المؤمنين كان لأغراضٍ اجتماعية اقتضتها الدعوة، ودعا إليها حب النصرة، ولا سيما إذا علم أنَّه لم يتزوج بكرًا قط إلا عائشة، وأنه تزوج من أمهات من كن في سن الكهولة أو جاوزتها.

أسباب إباحة تعدد الزوجات في الإِسلام

يجدر بذوي الحصافة في الرأي أن ينظروا إلى الأسباب التي دعت أن يبيح الإِسلام تعدد الزوجات، دون أن ينقموا عليه ذلك، ويرموه بالقسوة، فإن في بعضها ما هو موجب للتعدد، لا مجيز له فحسب، وهاك أهم الأسباب:

1 -

قد تصاب المرأة أحيانًا بمرض مزمن، أو مرض معد يجعلها غير قادرة على القيام بواجبات الزوجية، فيضطر الرجل إلى أن يقترف ما ينافي الشرف والمروءة، ويغضب الله ورسوله إن لم يبح له أن يتزوج أخرى.

ص: 171

2 -

دل الاستقراء على أن عدد النساء يربو على عدد الرجال، لما يعانيه هؤلاء من الأعمال الشاقة التي تنهك القوى، وتضوي الأجسام، ولا سيما الحروب الطاحنة، فإذا منع التعدد .. لا يجد بعض النساء أزواجًا يحصنونهن ويقومون بشؤونهن، فيكثر الفساد، ويلحق الأسر العار، وتعضهن الحياة بأنيابها.

3 -

حضت الشريعة الإِسلامية على كثرة النسل؛ لتقوى شوكة الإِسلام، وتعلو سطوته، وتنفذ كلمته، حتى ترهبه الأعداء، وتتقيه الأمم المناوئة له، ولا يمكن الوصول إلى ذلك إلا بإباحة تعدد الزوجات؛ لأن المنع مفض إلى تناقص النسل، ولا أدل على ذلك من أن عقلاء الأمم في الغرب أشفقوا على أممهم لما اعتراها من نقص في النسل بسبب منع التعدد من ناحية، وإحجام كثير من شبانهم عن الزواج، والاجتزاء بالسفاح فرارًا من حقوق الزوجية، وأعباء الأولاد من ناحية أخرى، ومن ثمَّ لجأ كثير من الدول الغربية إلى اربتاط بعضهم ببعض بالحلف والعهود والمواثيق، طلبًا لنيل فائدة التكاثر، وبذلك تبقى لهم السيادة الدولية.

4 -

دل الإحصاء في كثير من البلاد الغربية على أنَّ حظر تعدد الزوجات أدى إلى كثرة الأولاد غير الشرعيين، مما حدا بعض المفكِّرين إلى النظر في توريثهم.

5 -

كان من نتائج منع التعدد انتشار كثير من الأمراض الفتاكة التي أصابت الرجال والنساء والأطفال، حتى عجز الطب عن مكافحتها، وتغلغل الداء، وعز الدواء، مما جعل بعض البلاد تسن القوانين التي تمنع عقد الزواج إلا بعد إحضار صك رسميِّ بخلو الزوجين من الأمراض المعدية، والأمراض التي تجعل النسل ضعيفًا ضاويًا، لا يستطيع الكفاح في الحياة.

والله سبحانه وتعالى أعلم

* * *

ص: 172

خلاصة ما حوته هذه السورة الكريمة من أغراض ومقاصد

وجملة ما تضمنت هذه السورة:

1 -

الأمر بتقوى الله سبحانه، وعدم طاعة الكافرين والمنافقين.

2 -

وجوب اتباع ما ينزل به الوحي مع ضرب المثل لذلك.

3 -

إبطال العادة الجاهلية، وهي إعطاء المتبنى حكم الابن، وبيان أن الدين منه براء.

4 -

إبطال التوريث بالحلف، والتوريث بالهجرة، وإرجاع التوريث إلى الرحم والقرابة.

5 -

ذكر النعمة التي أنعم بها عليهم في وقعة الخندق بعد أن اشتدَّ بهم الخطب.

6 -

تخيير النبي نساءه بين شيئين: الفراق إذا أردن زينة الحياة الدنيا، والبقاء معه إذا أحببن الله ورسوله والدار الآخرة.

7 -

التشديد عليهن بمضاعفة العذاب إذا ارتكبن الفواحش، ونهيهن عن الخضوع في القول، وأمرهن بالقرار في البيوت، وتعليمهن كتاب الله وسنة رسوله، ونهيهن عن التبرج.

8 -

قصة زينب بنت جحش وزيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

9 -

ما أحل الله سبحانه لنبيه من النساء وتحريم الزواج عليه بعد ذلك.

10 -

النهي عن إيذاء المؤمنين للنبي صلى الله عليه وسلم إذا دخلوا بيته لطعام ونحوه.

11 -

الأمر بكلام أمهات المؤمنين من وراء حجاب إذا طلب منهن شيء، إلا الآباء والأبناء والأرقاء.

12 -

أمرهن بإرخاء الجلباب إذا خرجن لقضاء حاجة.

13 -

تهديد المنافقين وضعاف الإيمان والمرجفين في المدينة.

ص: 173

14 -

سؤال المشركين عن الساعة متى هي؟

15 -

النهي عن إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم، حتى لا يكونوا كبني إسرائيل الذين آذوا موسى.

16 -

عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال.

والله سبحانه وتعالى أعلم

* * *

ص: 174