الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مجيئه، فجعل استقبالهم لذلك انتظارًا له منهم؛ أي: فهل ينتظر هؤلاء المشركون من قومك بعد تكذيبك إلا أن أنزل بهم من العذاب على شركهم بي وتكذيبهم رسولي، مثل ما أنزلت بمن قبلهم من أمثالهم الذين كذبوا رسلهم؛ لأنه لن {تَجِدَ} أيها المخاطب، أو يا محمد {لِسُنَّتِ اللَّهِ} سبحانه، وعادته في تعذيب الأمم المكذبة. {تَبْدِيلًا}؛ أي: تغييرًا بأن يضع موضع العذاب الرحمة والعفو، {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا}؛ أي: نقلًا عن المستحق إلى غيره؛ بأن ينقله من المكذبين إلى غيرهم؛ أي: وهذه سنة الله في كل مكذب، فلا تغيّر ولا تبدّل، ولن يجعل الرحمة موضع العذاب، ولن يحوّل العذاب من نفس إلى أخرى، كما قال:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ونفي وجدان التبديل والتحويل عبارة عن نفي وجودهما بالطريق البرهاني، وتخصيص كل منهما بنفي مستقل لتأكيد انتفائهما.
وفي "الفتوحات": إن قلت (1): التبديل: تغيير الشيء عمّا كان عليه مع بقاء مادّته، والتحويل: نقله من مكان إلى آخر، فكيف قال ذلك مع أنّ سنة الله لا تبدّل ولا تحوّل؟
قلتُ: أراد بالأول أنّ العذاب لا يبدّل بغيره، وبالثاني أنه لا يحوّل عن مستحقّه إلى غيره، وجمع بينهما هنا تتميمًا لتهديد المسيء؛ لقبح مكره في قوله تعالى:{وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} اهـ "كرخي".
وفي الآية (2) تنبيه على أنّ فروع الشرائع وإن اختلفت صورها، فالغرض المقصود منها لا يختلف ولا يتبدّل، وهو تطهير النفس وترشيحها للوصول إلى ثواب الله تعالى وجواره، كما في "المفردات".
44
- والهمزة في قوله: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} للاستفهام الإنكاري، أو التقريري، وهو الظاهر من دخول همزة الاستفهام على حرف النفي، وعبارة "الصاوي" هنا: والاستفهام الإنكاري بمعنى النفي، ونفي النفي: إثبات.
والمعنى: بل ساروا في الأرض، ومرَّوا على ديار قوم صالح وقوم لوط وقوم شعيب وغيره، فنظروا آثار ديارهم. انتهى. وهي داخلة على محذوف يقتضيه
(1) الفتوحات.
(2)
روح البيان.
(3)
السياق، والواو عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أقعد مشركوا مكة في مساكنهم، ولم يسيروا، ولم يذهبوا في نواحي الأرض إلى جانب الشام واليمن والعراق للتجارة. {فَيَنْظُرُوا} ويعرفوا بمشاهدة آثار ديار الأمم الماضية العاتية، {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ} كانوا {مِنْ قَبْلِهِمْ}؛ أي: على أي حالة كان أخذهم، فإنهم هلكوا، لما كذبوا الرسل، وآثار هلاكهم باقية في ديارهم {وَكَانُوا}؛ أي: والحال أنّ الذين من قبلهم كعاد وثمود وسبأ كانوا {أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} ، وأطول منهم أعمارًا، وأكثر منهم أموالًا، فما نفعهم طول المدى، وما أغنى عنهم شدة القوى، وكثرة الغنى، وتقدم الكلام على نظير هذه الجملة في سورة الروم، وهناك قال:{كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} استئناف إخبار عما كانوا عليه، وهنا قال: وكانوا؛ أي: وقد كانوا، فالجملة حال، فهما مقصدان ذكره أبو حيان.
وهذه الجملة مسوقة (1) لتقرير معنى ما قبلها، وتأكيده؛ أي: أقعدوا ولم يسيروا في الأرض، فينظروا ما أنزلنا بعاد وثمود ومدين وأمثالهم من العذاب لما كذبوا الرسل، فإن ذلك هو من سنة الله في المكذبين التي لا تبدل ولا تحول، وآثار عذابهم، وما أنزل الله بهم موجودةٌ في مساكنهم، ظاهرة في منازلهم، والحال وآثار أولئك قد كانوا أشد منهم قوة جسم، وأطول أعمارًا، وأكثر أموالًا، وأكبر أبدانًا.
والخلاصة: أقعد هؤلاء المشركون بالله في مساكنهم، ولم يسيروا في الأرض التي أهلكتا فيها أهلها بكفرهم بنا، وتكذيبهم رسلنا أثناء رحلاتهم التي يسلكونها إلى طريق الشام في تجاراتهم، فينظروا على أي حالة كان أخذهم، ألم نهلكهم ونخرب مساكنهم، ونجعلهم مثلًا لمن بعدهم، فيتعظوا لهم، ويزدجروا عما هم عليه من الشرك بعبادتهم الآلهة من الأوثان والأصنام.
ثم بين أنهم إذا صاروا على تمردهم وعنادهم .. فهم لا يفلتون من عقابه، فقال:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ} تقرير لما يفهم مما قبله عن استئصال الأمم السابقة، واللام (2) و {من} لتأكيد النفي المستفاد من {ما} والمعنى: استحال من كل الوجوه أن يعجز الله سبحانه شيء ويسبقه ويفوته {فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا} تأكيد آخر لـ {ما} النافية، ففي الكلام ثلاث تأكيدات {في الأرض}؛ أي: ما كان ليسبقه
(1) الشوكاني.
(2)
روح البيان.