الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
68
- ثم ذكر أنم يدعون ربهم على طريق التشفي ممن أوردهم هذا المورد الوخيم أن يضاعف لهم العذاب؛ إذ كانوا سبب ضلالهم ووقوعهم في بلواهم، وإن كانوا يعلمون أن ذلك لا يخلصهم مما هم فيه، فقالوا:{رَبَّنَا} ؛ أي: يا مالك أمرنا. تصدير الدعاء بالنداء المكرر للمبالغة في الجؤار، واستدعاء الإجابة {آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ}؛ أي: مثلي العذاب الذي أوتيناه؛ لأنهم ضلوا وأضلوا، فضعف لضلالهم في أنفسهم عن طريق الهداية، وضعف لإضلالهم غيرهم عنها {وَالْعَنْهُمْ}؛ أي: واطردهم عن رحمتك {لَعْنًا كَبِيرًا} ؛ أي: طردًا شديدًا عظيمًا، وأصل الكبير والعظيم أن يستعملا في الأعيان، ثم استعير للمعاني، كما هنا.
أي: ربنا عذبهم مثلي عذابنا الذي تعذبنا به، مثلًا على ضلالهم، ومثلًا على إضلالهم إيانا، واخزهم خزيًا عظيمًا، واطردهم من رحمتك.
وقرأ الجمهور: {كَثِيرًا} بالثاء المثلثة؛ أي: لعنًا كثير العدد، عظيم القدر، شديد الموقع؛ أي: العنهم اللعن علي إثر اللعن؛ أي: مرة بعد مرة، ويشهد للكثرة قوله تعالى:{أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} ، واختار هذه القراءة أبو حاتم وأبو عبيد والنحاس لمناسبتها للسياق، وقرأ ابن مسعود وأصحابه وحذيفة بن اليمان وابن عامر وعاصم ويحيى بن وثاب والأعرج بخلاف عنه:{كَبِيرًا} بالياء الموحدة؛ أي: كبيرًا في نفسه، شديدًا عليهم ثقيل الموقع.
69
- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله {لَا تَكُونُوا} في أن تؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قيل: نزلت في شأن زينب، وما سمع فيه من مقالة الناس، كما سبق. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قسم النبي صلى الله عليه وسلم قسمًا، فقال رجل: إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فغضب حتى رأيت الغضب في وجهه، ثم قال:"يرحم الله موسى، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر".
{كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} عليه السلام، كقارون وأشياعه وغيرهم من سفهاء بني إسرائيل، هو قولهم: إنَّ به أدرة، أو برصًا، أو عيبًا، وفيه تأديب للمؤمنين، وزجر لهم عن أن يدخلوا في شيء من الأمور التي تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ}؛ أي: فأظهر الله سبحانه براءة موسى عليه السلام: {مِمَّا قَالُوا} في حقه؛ أي: من مضمون ما قالوا، ومؤدَّاه الذي هو الأمر المعيب، فإن البراءة تكون من العيب، لا
من القول، وإنما الكائن من القول التخلص. {وَكَانَ} موسى عليه السلام {عِنْدَ اللَّهِ} سبحانه {وَجِيهًا}؛ أي: ذا جاهٍ ومنزلة ودرجة وقدر، فكيف يوصف بعيب ونقيصة. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: وجيهًا أي حَظِيًّا، لا يسأل الله شيئًا إلا أعطاه، وفيه إشارة إلى أن موسى عليه السلام كان في الأزل عند الله مقضيًّا له بالوجاهة، فلا يكون غير وجيه بتعيير بني إسرائيل إياه، كما قيل:
إِنْ كُنْتُ عِنْدَكَ يَا مَوْلَايَ مُطَّرَحًا
…
فَعِنْدَ غَيْرِكَ مَحْمُوْلٌ عَلَى الْحِدَقِ
واختلفوا فيما أوذي به موسى (1)، فروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة، ينظر بعضهم إلى سوأ بعض، وكان موسى عليه السلام يغتسل وحده، فقالوا: والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر. قال: فذهب مرة يغتسل، فوضع ثوبه على حجر، ففر الحجر بثوبه، قال: فجمح - أسرع - موسى بأثره يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتى نظرت بنو إسرائيل إلى سوأة موسى، فقالوا: واللهِ ما بموسى من بأس، فقام الحجر حتى نظروا إليه. قال: فأخذ ثوبه، فطفق الحجر ضربًا". قال أبو هريرة: والله إن بالحجر ندبًا - أثرًا - ستة أو سبعة من ضرب موسى الحجر. أخرجه البخاري ومسلم.
قال في "إنسان العيون": كان موسى عليه السلام إذا غضب يخرج شعر رأسه من قلنسوته، وربما اشتعلت قلنسوته نارًا لشدة غضبه، ولشدة غضبه لما فر الحجر بثوبه .. ضربه مع أنه لا إدراك له، ووُجِّه بأنه لما فرَّ .. صار كالدابة، والدابة إذا جمحت بصاحبها يؤدبها بالضرب. انتهى.
وقيل في إذاية موسى عليه السلام: إن قارون دفع إلى زانية مالًا عظيمًا على أن تقول على رأس الملأ من بني إسرائيل: إني حامل من موسى بالزنا، فأظهر الله نزاهته عن ذلك، بأن أقرت الزانية بالمصانعة بينها وبين قارون، وفعل بقارون ما فعل من الخسف، كما فصِّل في سورة القصص.
ومعنى الآية (2): يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله، لا تؤذوا الرسول بقولٍ يكرهه، ولا بفعلٍ لا يحبه، ولا تكونوا أمثال الذين آذوا موسى نبيَّ الله، فرموه
(1) الخازن.
(2)
المراغي.