المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بالصبر والتسليم والرضا، وإن يكن مخالفًا للشرع .. يجب عليه - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٢٣

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: بالصبر والتسليم والرضا، وإن يكن مخالفًا للشرع .. يجب عليه

بالصبر والتسليم والرضا، وإن يكن مخالفًا للشرع .. يجب عليه التوبة والاستغفار، والإنابة إلى الله تعالى من غير اعتراض على الله فيما قدر وقضى وحكم به، فإنه حكيم يفعل ما يشاء بحكمته، ويحكم ما يريد بعزته. انتهى.

‌37

- ثم ذكر الله سبحانه نبيه بما وقع منه؛ ليزيده تثبيتًا على الحق، وليدفع عنه ما حال في صدور ضعاف العقول، ومرضى القلوب فقال:{وَإِذْ تَقُولُ} . روي (1) أنه لما نزلت الآية المتقدمة .. قالت زينب وأخوها عبد الله: رضينا يا رسول الله؛ أي: بنكاح زيد، فأنكحها عليه الصلاة والسلام إياه، وساق إليها مهرها عشرة دنانير وستين درهمًا، وخمارًا، وملحفة، ودرعًا، وإزارًا، وخمسين مدًا من طعام، وثلاثين صاعًا من تمر، وبقيت بالنكاح معه مدةً، فجاء النبي عليه الصلاة والسلام يومًا إلى بيت زيد لحاجة، فأبصر زينب، فأعجبه حسنها، فوقع في قلبه محبتها بلا اختيار منه، والعبد غير ملوم على مثله ما لم يقصد المأثم، ونظرة المفاجأة التي هي النظرة الأولى مباحة، فقال عليه الصلاة والسلام عند ذلك:"سبحان الله، يا مقلب القلوب ثبت قلبي" وانصرف، وذلك أن نفسه كانت تمتنع عنها قبل ذلك لا يريدها، ولو أرادها لخطبها، وسمعت زينب التسبيحة، فذكرتها لزيد بعد مجيئه، وكان غائبًا ففطن، فأتى رسول الله تلك الساعة، فقال: يا رسول الله، إني أريد أن أفارق صاحبتي، فقال:"ما لك، أرأيت منها شيئًا؟ " قال: لا والله، ما رأيت منها إلا خيرًا، ولكنها تتعظم علي لشرفها، وتؤذيني بلسانها، فمنعه عليه الصلاة والسلام، وذلك قوله تعالى:{وَإِذْ تَقُولُ} ؛ أي: واذكر يا محمد قصة وقت قولك: {لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} بالتوفيق للإسلام الذي هو أجل النعم، وللخدمة والصحبة، وهو زيد بن حارثة {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} يا محمد بحسن التربية والإعتاق والتبني له، وكان من سبي الجاهلية، اشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية، وأعتقه وتبناه، وهو أول من أسلم من الموالي، وكان صلى الله عليه وسلم يحبه، ويحب ابنه أسامة، شهد بدرًا والخندق والحديبية، واستخلفه النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة حين خرج إلى بني المصطلق، وخرج أميرًا في سبع سرايا، وقتل يوم مؤتة - بضم الميم وبالهمزة ساكنة -: موضع معروف عند الكرك.

(1) روح البيان.

ص: 27

ومقول القول قوله: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ} ؛ أي: أمسك على نكاحك {زَوْجَكَ} زينب، واتركها فيه {وَاتَّقِ اللَّهَ} سبحانه في أمرها، ولا تطلقها ضرارًا، أو تعللًا بتكبرها، ولا تعجل بطلاقها. {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ}؛ أي: والحال أنك تضمر في قلبك وتستر الأمر الذي الله مظهره للناس، وهو نكاحها إن طلقها زيد. وقيل: حبها، وهو علم بأن زيدًا سيطلقها وسينكحها، يعني: أنك تعلم بما أعلمتك أنها ستكون زوجتك، وأنت تخفي في نفسك هذا المعنى، والله يريد أن ينجز لك وعده، ويبدي أنها زوجتك بقوله:{زَوَّجْنَاكَهَا} ، وكان من علامات أنها زوجته إلقاء محبتها في قلبه، وذلك بتحبيب الله تعالى، لا بمحبته بطبعه، وذلك ممدوح جدًا، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام:"حبب إلى من دنياكم ثلاث: الطيب والنساء وقرة عيني في الصلاة"، وأنه لم يقل أحببت، ودواعي الأنبياء من قبيل الإذن الإلهي؛ إذ ليس للشيطان عليهم سبيل.

قال في "الأسئلة المقحمة": قد أوحي إليه أن زيدًا يطلقها، وأنت تزوج بها، فأخفى عن زيد سر ما أوحي إليه؛ لأن السر يتعلق بالمشيئة والإرادة، ولا يجب على الرسل الإخبار عن المشيئة والإرادة، وإنما يجب عليهم الإخبار والإعلام عن الأوامر والنواهي، لا عن المشيئة، كما أنه كان يقول لأبي لهب: آمن بالله، وقد علم أن الله أراد أن لا يؤمن أبو لهب، كما قال تعالى:{سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3)} ؛ لأن ذلك الذي يتعلق بعذاب أبي لهب إنما هو من المشيئة والإرادة، فلا يجب على النبي إظهاره، ولا الإخبار عنه.

{وَتَخْشَى النَّاسَ} ؛ أي: تستحييهم، أو (1) تخاف لومهم وتعييرهم لك به، بأن يقولوا: أمر مولاه بطلاق امرأته، ثم تزوجها. وفي "التأويلات النجمية": أي: تخشى عليهم أن يقعوا في الفتنة بأن يخطر ببالهم نوع إنكار، أو اعتراض عليه، أو شك في نبوته، بأن النبي صلى الله عليه وسلم من تنزه عن مثل هذا الميل، وتتبع الهوى، فيخرجهم عن الإيمان إلى الكفر، فكانت تلك الخشية إشفاقًا منه عليهم، ورحمة بهم أنهم لا يطيقون سماع هذه الحالة، ولا يقدرون على تحملها. {وَاللَّهُ أَحَقُّ}؛ أي: والحال أن الله سبحانه أحق وأجدر وأولى {أَنْ تَخْشَاهُ} في كل حال، وتخاف منه،

(1) روح البيان.

ص: 28

وتستحييه.

وفي"كشف الأسرار": إنما عوتب صلى الله عليه وسلم على إخفاء ما أعلمه الله تعالى أنها ستكون زوجة له. قالت عائشة رضي الله عنها: لو كتم النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا من الوحي .. لكتم هذه الآية: {إِذْ تَقُولُ} الخ، وما نزل على رسول الله آية هي أشد عليه من هذه الآية.

وفي "التأويلات": يشير إلى أن رعاية جانب الحق أحق من رعاية جانب الخلق؛ لأن لله تعالى في إبداء هذا الأمر، وإجراء هذا القضاء حكمًا كثيرة، فالواجب على النبي صلى الله عليه وسلم إذا عرض له أمر أن، في أحدهما رعاية جانب الحق، وفي الآخر رعاية جانب الخلق، أن يختار رعاية جانب الحق على الخلق، فإن للحق تعالى في إجراء حكم من أحكامه، وإصفاء أمر من أوامره حكمًا كثيرة، كما قال تعالى في إجراء تزويج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب قوله:{لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} .

قال القرطبي: وقد اختلف في تأويل هذه الآية، فذهب قتادة وابن زيد وجماعة من المفسرين منهم ابن جرير الطبري وغيره إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم وقع منه استحسان لزينب بنت جحش، وهي في عصمة زيد بن حارثة، وكان حريصًا على أن يطلقها زيد، فيتزوجها هو، ثم إن زيدًا لما أخبره بأنه يريد فراقها، ويشكو منها غلظة قول، وعصيان أمر، وأذًى باللسان، وتعظمًا بالشرف قال له:"اتق الله فيما تقول عنها، وأمسك عليك زوجك"، وهو يخفي الحرص على طلاق زيد إياها، وهذا الذي كان يخفي في نفسه، ولكنه لزم ما يجب من الأمر بالمعروف. انتهى.

وحاصل معنى الآية: أي واذكر أيها الرسول حين قولك لمولاك الذي أنعم الله عليه فوفقه للإسلام، وأنعمته عليه بحسن تربيته وعتقه وتقريبه منك: أمسك عليك زوجك زينب، واتق الله في أمرها، ولا تطلِّقها ضرارًا، وتعللًا بتكبرها، وشموخًا بأنفها، فإن الطلاق يثنيها، وربما لا يجد بعدها خيرًا منها، وأنت تعلم أن الطلاق لا بد منه، بما ألهمك الله أن تمتثل أمره بنفسك؛ لتكون أسوةً لمن معك، ولمن يأتي بعدك، وإنما غلبك في ذلك الحيرة، وخشية أن يقولوا: تزوج محمد مطلقة متبناه، فأنت تخفي في نفسك ما الله مبديه من الحكم الذي ألهمك، وتخاف من اعتراض الناس، والله الذي أمرك بهذا كله أحق وحده بأن تخشاه، فكان عليك أن

ص: 29

تمضي في الأمر قدمًا؛ تعجيلًا لتنفيذ كلمته، وتقرير شرعه.

ثم زاد الأمر بيانًا بقوله: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا} ؛ أي: تخفي في نفسك ذلك الأمر مخافة من الناس، فلما قضى زيد من زوجته زينب وطرًا، ولم يبق له فيها حاجة، والمراد: قضى وبلغ وأتم وطره منها بنكاحها، والدخول بها بحيث لم يبق له فيها حاجة، وتقاصرت همته عنها، وطلقها وانقضت عدتها.

وفي "التأويلات"(1): أما وطر زيد منها في الصورة: استيفاء حظه منها بالنكاح، ووطره منها في المعنى: شهرته بين الخلق إلى قيام الساعة، بأن الله تعالى ذكره باسمه في القرآن، دون جميع الصحابة، وبأنه آثر النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه بإيثار زينب له.

وفي "الأسئلة المقحمة": كيف طلق زيد زوجته بعد أن أمر الله ورسوله بإمساكه إياها؟

والجواب: ما هذا الأمر للوجوب واللزوم، وإنما هو للاستحسان.

{زَوَّجْنَاكَهَا} يا محمد؛ أي: جعلناها زوجة لك، هلال ذي القعدة سنة أربع من الهجرة على الصحيح، وهي بنت خمس وثلاثين سنة، والمراد: الأمر بتزويجها، أو جعلها زوجته بلا واسطة عقد، ولا تقدير صداق، ولا شيء مما يعتبر في النكاح في حق أمته؛ أي: زوجناكها، ولم نحوجك إلى وليٍّ يعقد لك عليها تشريفًا لك ولها.

ويؤيده ما روى أنس رضي الله عنه: أنها كانت تفخر على سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وتقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سموات، وهو من خصائصه صلى الله عليه وسلم.

وروي أنها لما اعتدت .. قال رسول الله لزيد: "ما أجد أحدًا أوثق في نفسي منك، اخطب عليَّ زينب"، قال زيد: فانطلقت، فإذا هي تخمر عجينها، فقلت: يا زينب، أبشري، فإن رسول الله يخطبك، ففرحت وقالت: ما أنا بصانعة شيئًا حتى أؤامر ربي، فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن {زَوَّجْنَاكَهَا} ، فزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1) المراغي.

ص: 30

ودخل، وما أوْلَم على امرأة من نسائه ما أوْلَم عليها، ذبح شاة، وأطعم الناس الخبز واللحم، حتى امتد النهار، وجعل زيدٍ سفيرًا في خطبتها ابتلاء عظيم له، وشاهد على قوة إيمانه، ورسوخه فيه.

وقرأ الجمهور (1): {زَوَّجْنَاكَهَا} بنون العظمة، وقرأ جعفر بن محمد وابن الحنفية وأخواه الحسن والحسين وأبوهم علي:{زوجتكها} بتاء الضمير للمتكلم، ثم علل سبحانه ذلك بقوله:{لِكَيْ لَا يَكُونَ} ؛ أي: زوجناكها كيلا يكون فيما بعد {عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} ؛ أي: ضيق ومشقة وذنب {فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} ؛ أي: في تزوج زوجات الذين دعوهم أبناء، والأدعياء: جمع دعي، وهو الذي يدعى ابنًا من غير ولادة. {إِذَا قَضَوْا}؛ أي: إذا قضى الأدعياء {مِنْهُنَّ} ؛ أي: من زوجاتهم {وَطَرًا} ؛ أي: حاجة؛ أي: إذا لم يبق لهم فيهن حاجة، وطلقوهن، وانقضت عدتهن، فإن لهم في رسول الله أسوة حسنة.

وفيه (2) دليل على أن حكمه صلى الله عليه وسلم وحكم الأمة سواء إلا ما خصه الدليل. قال الحسن: كانت العرب تظن أن حرمة المتبنَّى كحرمة الابن، فبيَّن الله تعالى أن حلائل الأدعياء غير محرمة على المتبني، وإن أصابوهن؛ أي: وطؤوهن، بخلاف ابن الصلب، فإن امرأته تحرم على أبيه بنفس العقد عليها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد تبنى زيد بن حارثة، فكان يقال: زيد بن محمد، حتى نزل قوله سبحانه:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} .

والمعنى: أي فلما قضى زيد منها حاجته وملها، ثم طلقها .. جعلناها زوجًا لك لترتفع الوحشة من نفوس المؤمنين، ولا يجدوا في أنفسهم حرجًا من أن يتزوجوا نساءً كنَّ من قبلُ أزواجًا لأدعيائهم.

{وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ} ؛ أي: ما يريد تكوينه من الأمور {مَفْعُولًا} ؛ أي: مكونًا موجودًا في الخارج لا محالة، لا يمكن دفعه لأحد، ولو كان نبيًا، كما كان تزويج زينب، وكانت كالعارية عند زيد؛ أي: كان قضاء الله في زينب أن يتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاءً ماضيًا مفعولًا نافذًا لا محالة. قال بعضهم: في اعتقادنا أنَّ

(1) البحر المحيط.

(2)

روح البيان.

ص: 31