المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فضلًا كبيرًا على سائر الأمم، وقد بين ذلك سبحانه بقوله: - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٢٣

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: فضلًا كبيرًا على سائر الأمم، وقد بين ذلك سبحانه بقوله:

فضلًا كبيرًا على سائر الأمم، وقد بين ذلك سبحانه بقوله:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} .

وأخرج ابن جرير وعكرمة عن الحسن أنه قال: لما نزل قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} قالوا: يا رسول الله، قد علمنا ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا، فأنزل الله سبحانه:{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47)} .

‌48

- ثم نهاه سبحانه عن طاعة أعداء الدين فقال: {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} من أهل مكة {وَالْمُنَافِقِينَ} من أهل المدينة. ومعناه: الدوام على عدم طاعتهم، أي (1): دم واثبت على ما أنت عليه من مخالفتهم، وترك إطاعتهم، واتباعهم.

وفي "الإرشاد": نُهي عن مداراتهم في أمر الدعوة، واستعمال لين الجانب في التبليغ، والمسامحة في الإنذار، كنى عن ذلك بالنهي عن طاعتهم مبالغةً في الزجر والتنفير عن المنهي عنه، بنظمه في سلكها، وتصويره بصورتها.

أي: لا تطعهم فيما يشيرون عليك به من المداهنة في الدين، وفي الآية تعريض لغيره من أمته؛ لأنه صلى الله عليه وسلم معصوم عن طاعتهم في شيء مما يريدونه، ويشيرون به عليه، وقد تقدم تفسير هذه الآية في أول السورة {وَدَعْ أَذَاهُمْ}؛ أي: واترك المجازاة لهم على إيذائهم إياك، ومؤاخذتهم به؛ أي: دع أن تؤذيهم مجازاةً لهم على ما يفعلونه من الأذى لك، فهو مصدر مضاف إلى المفعول، أو المعنى: لا تبال بإيذائهم لك بسبب تصلبك في الدعوة والإنذار، فهو مصدر مضاف إلى الفاعل، وهي منسوخة بآية السيف بالنظر إلى الكافر.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسمة، فقال رجل من الأنصار: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله، فأخبر بذلك، فاحمر وجهه فقال:"رحم الله أخي موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر".

وفي "التأويلات": {وَلَا تُطِعِ

} إلخ؛ أي: لا تتخلق بخلق من أخلاقهم، ولا توافق من أعرضنا عنه، وأغفلنا قلبه عن ذكرنا، وأضللناه من أهل الكفر والنفاق وأهل البدع والشقاق. {وَدَعْ أَذَاهُمْ} بالبحث والمناظرة على إبطالهم، فإنهم عن

(1) روح البيان.

ص: 68

سمع كلمات الحق لمعزولون، فتضيع أوقاتك، ويزيد إنكارهم.

{وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} في كل شؤونك، واعتمد عليه في أمورك خصوصًا في هذا الشأن، فإنه تعالى يكفيكهم، والعاقبة لك. {وَكَفَى بِاللَّهِ} سبحانه لمن استكفاه من جهة كونه {وَكِيلًا}؛ أي: موكولًا إليه الأمور في كل الأحوال، فهو فعيل بمعنى: المفعول، تمييز من فاعل كفى، وهو الله؛ إذ الباء صلة، والتقدير: وكفى الله من جهة الوكالة، فإن أهل الدارين لا يكفي كفاية الله فيما يحتاج إليه، فمن عرف أنه تعالى هو المتكفل بمصالح عباده، والكافي لهم في كل أمر .. اكتفى به في كل أمره، فلم يدبر معه، ولم يعتمد إلا عليه.

روي: أن الحجاج بن يوسف سمع ملبيًا يلبي حول البيت، رافعًا صوته بالتلبية، وكان إذ ذاك بمكة فقال: على بالرجل، فأتي به إليه، فقال: ممن الرجل؟ قال: من المسلمين، فقال: ليس عن الإِسلام سألتك، قال: فعمَّ سألت؟ قال: سألتك عن البلد، قال: من أهل اليمن، قال: كيف تركت محمد بن يوسف؟ - يعني: أخاه - قال: تركته عظيمًا جسيمًا لباسًا ركابًا خراجًا ولاجًا. قال: ليس عن هذا سألتك، قال: فعمَّ سألت؟ قال: سألتك عن سيرته، قال: تركته ظلومًا غشومًا، مطيعًا للمخلوق، عاصيًا للخالق. فقال له الحجاج: ما حملك على هذا الكلام، وأنت تعلم مكانه منى؟ قال: أترى مكانه منك أعز منى بمكاني من الله، وأنا وافد بيته، مصدِّق نبيه، فسكت الحجاج، ولم يحسن جوابًا، وانصرف الرجل من غير إذن، فتعلق بأستار الكعبة، وقال: اللهم بك أعوذ وبك ألوذ، اللهم فرجك القريب، ومعروفك القديم، وعادتك الحسنة، فخلص من يد الحجاج بسبب توكله على الله في قوله الخشن، وبعدم إطاعته وانقياده للمخلوق.

ومعنى الآية: أي ولا تطع (1) يا محمد قول كل كافر ولا منافق في أمر الدعوة، وألن الجانب في التبليغ، وارفق في الإنذار، واصفح عن آذاهم، واصبر على ما ينالك منهم، وفوِّض أمورك إلى الله، وثقْ به، فإنه كافيك جميع من دونك حتى يأتيك أمره وقضاؤه، وهو حسبك في جميع أمورك، وكالؤك وراعيك.

(1) المراغي.

ص: 69