المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

يخرجن بالليل لحاجتهن، وكان ناس من المنافقين يتعرضون لهن، فيؤذين، - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٢٣

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: يخرجن بالليل لحاجتهن، وكان ناس من المنافقين يتعرضون لهن، فيؤذين،

يخرجن بالليل لحاجتهن، وكان ناس من المنافقين يتعرضون لهن، فيؤذين، فشكوا ذلك، فقيل ذلك للمنافقين، فقالوا: إنما نفعله بالإماء، فنزلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ

} الآية، ثم أخرج نحوه عن الحسن ومحمد بن كعب القرظي.

التفسير وأوجه القراءة

‌57

- ولما ذكر الله سبحانه ما يجب لرسوله من التعظيم .. ذكر هنا الوعيد الشديد للذين يؤذونه، فقال:{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ} سبحانه وتعالى (1) بفعل ما يكرهه، وارتكاب ما لا يرضاه بترك الإيمان به، ومخالفة أمره، ومتابعة هواهم، ونسبة الولد والشريك إليه تعالى، والإلحاد في أسمائه وصفاته، ونفي قدرته على الإعادة، وسب الدهر، ونحت التصاوير تشبيهًا بخلق الله تعالى. وقال ابن عباس (2) رضي الله عنهما: هم اليهود والنصارى والمشركون، فأما اليهود فقالوا: عزير ابن الله، ويد الله مغلولة، وقالوا: إن الله فقير ونحن أغنياء، وأما النصارى فقالوا: المسيح ابن الله، وثالث ثلاثة، وأما المشركون فقالوا: الملائكة بنات الله، والأصنام شركاؤه.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله عز وجل: "كذبني ابن آدم، ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته، وأما شتمه إياي .. فقوله: اتخذ الله ولدًا، وأنا الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد" أخرجه البخاري.

وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله عز وجل: "يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي أقلب الليل والنهار". متفق عليه.

معنى هذا الحديث: أنه كان من عادة العرب في الجاهلية أن يذموا الدهر، ويسبوه عند النوازل؛ لاعتقادهم أن الذي يصيبهم من أفعال الدهر، فقال الله تعالى: أنا الدهر؛ أي: أنا الذي أحل بهم النوازل، وأنا فاعل لذلك الذي تنسبونه إلى الدهر في زعمكم.

(1) روح البيان.

(2)

الخازن.

ص: 131

وقيل: هم أصحاب التصاوير. عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله عز وجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو شعيرة" متفق عليه.

وقيل: الكلام على حذف مضاف، والتقدير: إن الذين يؤذون أولياء الله، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله سبحانه وتعالى: "من آذى لي وليًا .. فقد آذنته بالحرب"، وقال تعالى:"من أهان لي وليًا .. فقد بارزني بالمحاربة" فمعنى إذاية الله سبحانه: هو مخالفة أمر الله تعالى، وارتكاب معاصيه، ذكر ذلك على ما يتعارفه الناس بينهم؛ لأن الله تعالى منزه عن أن يلحقه أذى من أحد.

{وَ} يؤذون {رَسُولَهُ} محمدًا صلى الله عليه وسلم بقولهم: شاعر ساحر كاهن مجنون، وطعنهم في نكاح صفية الهارونية، وهو الأذى القولي، وكسر رباعيته، وشج وجهه الكريم يوم أحد، ورمي التراب عليه، ووضع القاذورات على ظهر النبوة، قاله ابن عباس رضي الله عنهما.

ويجوز أن يكون المراد بإيذاء الله ورسوله (1): إيذاء رسول الله خاصة بطريق الحقيقة، وذكر الله لتعظيمه، والإيذان بجلالة مقداره عنده تعالى. وأن إيذاءه صلى الله عليه وسلم إيذاء له تعالى لما قال:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} ؛ أي: فمن آذى رسوله .. فقد آذى الله.

{لَعَنَهُمُ اللَّهُ} ؛ أي: طردهم الله سبحانه وتعالى، وأبعدهم من رحمته {فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} بحيث لا يكادون ينالون فيهما شيئًا من رحمة الله، جعل ذلك اللعن في الدنيا والآخرة، لتشملهم اللعنة فيما، بحيث لا يبقى وقت من أوقات محياهم ومماتهم إلا واللعنة واقعة عليهم، ومصاحبة لهم.

{وَأَعَدَّ لَهُمْ} ؛ أي: هيأ لهم من ذلك {عَذَابًا مُهِينًا} يصيبهم في الآخرة خاصةً؛ أي: نوعًا من العذاب يهانون فيه، فيذهب بعزهم وكبرهم.

قال في "التأويلات": لما استحق المؤمنون بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، والصلاة عليه صلاة الله .. فكذلك الكافرون استحقوا بمخالفة الرسول وإيذائه لعنة الله، فلعنة

(1) روح البيان.

ص: 132

الدنيا هي الطرد عن جناب الله، والحرمان من الإيمان، ولعنة الآخرة: الخلود في النيران، والحرمان من الجنان، وهذا حقيقة قوله:{وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} .

قال في "فتح الرحمن": يحرم أذى النبي صلى الله عليه وسلم بالقول والفعل بالاتفاق، واختلفوا في حكم من سبه - والعياذ بالله - من المسلمين، فقال أبو حنيفة والشافعي: هو كفر كالردة، يقتل ما لم يتب. وقال مالك وأحمد: ويقتل ولا تقبل توبته؛ لأن قتله من جهة الحد لا من جهة الكفر. وأما الكافر إذا سبه صريحًا بغير ما كفر به، من تكذيبه ونحوه، فقال أبو حنيفة: لا يقتل؛ لأن ما هو عليه من الشرك أعظم، ولكن يؤدب ويعزر. وقال الشافعي: ينتقض عهده، فيخير الإِمام فيه بين القتل والاسترقاق والمن والفداء، ولا يرد مأمنه؛ لأنه كافر لا أمان له، ولو لم يشترط عليه الكف عن ذلك، بخلاف ما إذا ذكره بسوء يعتقده ويتدين به، كتكذيب ونحوه، فإنه لا ينتقض عهده بذلك إلا باشتراط. وقال مالك وأحمد: يقتل ما لم يسلم. واختار جماعة من أئمة مذهب أحمد: أن سابَّه صلى الله عليه وسلم يقتل بكل حال، منهم: الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وقال: هو الصحيح من المذهب. وحكم من سب سائر أنبياء الله وملائكته حكمُ من سب نبينا صلى الله عليه وسلم، وأما من سب الله سبحانه وتعالى والعياذ بالله - من المسلمين بغير الارتداد عن الإِسلام، ومن الكفار بغير ما كفروا به من معتقدهم في عزير والمسيح ونحو ذلك، فحكمه حكم من سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم. نسأل الله العصمة والهداية، ونعوذ به من السهو والزلل والغواية، إنه الحافظ الرقيب.

ومعنى الآية (1): أن الذين يؤذون الله سبحانه، فيرتكبون ما حرمه من الكفر وسائر المعاصي، ومنم اليهود الذين قالوا: يد الله مغلولة، والنصارى الذين قالوا: المسيح ابن الله، والمشركون الذين قالوا: الملائكة بنات الله، والأصنام شركاؤه. تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، ويؤذون رسوله كالذين قالوا: هو شاعر، هو كاهن، هو مجنون، إلى نحو ذلك من مقالاتهم الشنيعة .. طردهم الله سبحانه في الدنيا والآخرة من رحمته، وأبعدهم من فضله في الدنيا، فجعلهم يتمادون في غيهم، ويدسون أنفسهم، ويستمرئون سبل الغواية والضلالة التي ترديهم في النار، وبئس

(1) المراغي.

ص: 133