المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ما يكون سببًا في ضعف الإِسلام، والحط من قدره، حتى - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٢٣

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: ما يكون سببًا في ضعف الإِسلام، والحط من قدره، حتى

ما يكون سببًا في ضعف الإِسلام، والحط من قدره، حتى يمحى أثره من الوجود، كما فعلت قريش في دار الندوة؛ إذ تدارست الرّأي في شأن النبي صلى الله عليه وسلم بحبسه، أو قتله، أو إجلائه من مكة، لهم العذاب الشديد يوم القيامة، ومكر هؤلاء المفسدين يظهر زيفه عن قريب لأولي البصائر، فإنه ما أسرّ أحد سريرة إلّا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه، وفلتات لسانه، وما أسرّ أحد سريرة إلا كساه الله تعالى رداءها إن خيرًا فخير، وان شرًّا فشر، فالمرائي لا يروج أمره، ولا يتّفق إلا على غبيّ. أمّا المؤمنون المتفرسون .. فلا يروج ذلك عليهم، بل ينكشف عن قريب، ويجازون عليه أشد الخزي والهوان.

وفي "التأويلات النجمية": يشير سبحانه بقوله: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ} إلى الذين يظهرون الحسنات بالمكر، ويخفون السيئات من العقائد الفاسدة ليحسبهم الخلق من الصالحين الصادقين. {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} ، وشدة عذابهم في تضعيف عذابهم، فإنهم يعذّبون بالسيئات التي يخفونها، ويضاعف لهم العذاب بمكرهم في إظهار الحسنات دون حقيقتها، كما قال تعالى:{وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} ؛ أي: مكرهم يبوّرهم ويهلكهم. انتهى.

‌11

- ثمّ ذكر سبحانه دليلًا آخر على صحة البعث والنشور بما يُرى في الأنفس، فقال:{وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {خَلَقَكُمْ} يا بني آدم إبتداء خلقًا إجماليًا في ضمن خلق أبيكم آدم عليه السلام {مِنْ تُرَابٍ} ، وقال قتادة: يعني آدم، والتقدير على هذا: والله خلق أباكم الأول، وأصلكم الذي ترجعون إليه من تراب، فالكلام حينئذ على حذف مضاف. وقال بعضهم: من تراب تقبرون وتدفنون فيه؛ أي: خلقكم من تراب لتكونوا متواضعين كالتراب. وفي الحديث: "إن الله جعل الأرض ذلولا تمشون في مناكبها، وخلق بني آدم من التراب ليذلهم بذلك، فأبوا إلّا نخوةً واستكبارًا، ولن يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبّة من خردل من كبر".

{ثُمَّ} خلقكم خلقًا تفصيليًا. {مِنْ نُطْفَةٍ} لتكونوا قابلين لكل كمال، كالماء الذي هو سر الحياة ومبدأ العناصر الأربعة، والنطفة هو الماء الصافي الخارج من بين الصلب والتّرائب، كما سيأتي. وقال بعضهم:{خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} يعني: آدم، وهو أصل البشر {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} أخرجها من ظهر آبائكم بالتناسل والتوالد.

وفي "التأويلات": يشير سبحانه بقوله: {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} إلى أنه خلقكم من

ص: 360

أسفل المخلوقات، وهي النطفة؛ لأن التراب نزل دركة المركبية، ثم دركة النباتية ، ثم دركة الحيوانية، ثم دركة الإنسانية، ثم دركة النطفة، فهي أسفل سافلي المخلوقات، وهي آخر خلق خلقه الله تعالى من أصناف المخلوقات، كما أن أعلى الشجرة آخر شيء يخلقه الله، وهو البذر الذي يصلح أن توجد منه الشجرة، فالبذر آخر صنف خلق من أصناف أجزاء الشجرة.

{ثُمَّ جَعَلَكُمْ} سبحانه {أَزْوَاجًا} ؛ أي: أصنافًا، أحمر وأبيض وأسود، أو ذكرانًا وإناثًا، وعن قتادة: جعل بعضكم زوجًا لبعض، فالذكر زوج الأنثى، وفي "التأويلات" يشير إلى ازدواج الروح والقالب فالروح من أعلى مراتب القرب، والقالب من أسفل دركات البعد، فبكمال القدرة والحكمة جمع بين أقرب الأقربين، وأبعد الأبعدين، ورتب للقالب في ظاهره الحواس الخمس، وفي باطنه القوى البشرية، ورتب للروح المدركات الروحانية، ليكون بالروح والقالب مدركًا لعوالم الغيب والشهادة كلها، وعالمًا بما فيها خلافة عن حضرة الربوبية عالم الغيب والشهادة. انتهى. {وَمَا} نافية {تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى} من حوامل حملًا، و {مِنْ} مزيدة في الفاعل لاستغراق النفي وتأكيده، والأنثى خلاف الذكر {وَلَا تَضَعُ}؛ أي: لا تلد أنثى من حوامل ولدًا في حال من الأحوال {إِلَّا} حال كونها متلبسة {بِعِلْمِهِ} تعالى، تابعةً لمشيئته، قال في "بحر العلوم": بعلمه في موضع الحال، والمعنى: ما يحدث شيء من حمل حامل، ولا وضع واضع إلا وهو عالم به، يعلم مكان الحمل ووضعه وأيامه وساعاته وأحواله من الخداج والتمام والذكورة والأنوثة وغير ذلك، فلا يخرج شيء عن علمه وتدبيره.

{وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ} {ما} : نافية، والتعمير إطالة العمر، والمعمر من أطيل عمره، ويقال للمعمر؛ ابن الليالي، وقوله:{مِنْ مُعَمَّرٍ} ؛ أي: من أحد، و {مِنْ} زائدة لتأكيد النفي، كما في من أنثى.

وسمي معمرًا باعتبار مصيره (1)، يعني: هو من باب تسمية الشيء بما يؤول إليه، والمعنى: وما يمد في عمر أحد وما يطول، {وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} والضمير راجع إلى المعمر، والنقصان من عمر المعمر محال، فهو من التسامح في العبارة

(1) روح البيان.

ص: 361

ثقة بفهم السامع، فيراد من ضمير المعمر ما من شأنه أن يعمر على الاستخدام. والمعنى: وما يمد في عمر أحد، ولا ينقص من عمر أحد، لكن لا معنى لا ينقص من عمره بعد كونه زائدًا، بل على معنى لا يجعل من الابتداء ناقصًا. {إِلَّا} وهو مثبت {فِي كِتَابٍ} عظيم ولوح محفوظ، أو في علم الله، أو في صحيفة كل إنسان.

واعلم: أن الزيادة والنقصان في الآية بالنسبة إلى عمرين كما عرفت، وإلا فمذهب أكثر المتكلمين وعليه الجمهور أن العمر يعني: عمر شخص لا يزيد ولا ينقص، وقيل: الزيادة والنقص في عمر واحد باعتبار أسباب مختلفة أثبت في اللوح، مثل أن يكتب فيه: إن حج فلان فعمره ستون، وإلا فأربعون، فإذا حج فقد بلغ الستين، وقد عمر، وإذا لم يحج فلا يجاوز الأربعين، فقد نقص من عمره الذي هو الغاية وهو الستون، وكذا إن تصدق، أو وصل الرحم فعمره ثمانون، وإلا فخمسون، وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:"الصدقة والصلة تعمران الديار، وتزيدان في الأعمار".

وقال سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما (1): وما يعمر من معمر إلا كتب عمره كم هو سنة، وكم هو شهرًا، وكم هو يومًا، وكم هو ساعة، ثم يكتب في كتاب آخر نقص من عمره يوم، نقص من عمره شهر، نقص سنة، حتى يستوفي أجله. وقال ابن جبير أيضًا: فما مضى من أجله فهو النقصان، وما يستقبله فهو الذي يعمره، فالهاء على هذا للمعمر، وعن سعيد أيضًا: يكتب عمره كذا وكذا سنة، ثم يكتب أسفل ذلك: ذهب يوم، ذهب يومان، حتى يأتي إلى آخره.

وعن قتادة: المعمر: من بلغ ستين سنة، والمنقوص من عمره: من يموت قبل الستين سنة. وقيل: إن الله كتب عمر الإنسان مئة سنة إن أطاع، وتسعين إن عصى، فأيُّهما بلغ فهو كتاب، وهذا مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم:"من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره - أي: يؤخر في عمره - فليصل رحمه".

والضمير على هذا يرجع إلى المعمَّر. وقيل: المعنى: وما يعمر من معمر؛ أي: هرم، ولا ينقص آخر من عمر الهرم إلا في كتاب، أي: بقضاء من الله

(1) الفتوحات.

ص: 362

عز وجل، وروي معناه عن الضحاك، فالضمير في عمره يرجع إلى معمر آخر غير الأول على حد: عنده درهم ونصفه؛ أي: نصف درهم آخر.

وقرأ الجمهور (1): {وَلَا يُنْقَصُ} بضم الياء وفتح القاف مبنيًا للمفعول. وقرأ يعقوب وسلّام وعبد الوارث وهارون كلاهما عن أبي عمرو: {ولا يَنقُص} بفتح الياء وضم القاف مبنيًا للفاعل. وقرأ الحسن (2) والأعرج والزهري: {من عمْره} بسكون الميم، وقرأ الباقون: بضمها، وهما لغتان، كالسحت والسحت، والنكر والنكر، والعمر: اسم لمدة عمارة البدن بالحياة.

{إِنَّ ذَلِكَ} المذكور من الخلق وما بعده، أو إن كتابة الأعمال والآجال {عَلَى اللَّهِ} سبحانه وتعالى {يَسِيرٌ} غير متعذر عليه، بل هو يسير لا يتعذر عليه منها شيء ولا يعسر لاستغنائه عن الأسباب، فكذلك البعث. اهـ. "قرطبي". وفي "بحر العلوم": إن ذلك إشارة إلى أن الزيادة والنقص على الله يسير، لا يمنعه منه مانع، ولا يحتاج فيه إلى أحد، ولا يعزب عنه كثير ولا قليل، ولا كبير ولا صغير.

ومعنى الآية: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ

} الخ؛ أي (3): واللهُ خلق الناس من النطفة، والنطفة من الغذاء، والغذاء ينتهي آخرًا إلى الماء والتراب، فهم من تراب صار نطفة، ثم جعلهم أصنافًا ذكرانًا وإناثًا بقدر معلوم؛ بحيث يكاد الفريقان يستويان عددًا، ولو لم يكن كذلك لفني الإنسان والحيوان؛ إذ حفظ النوع لا يتم إلا بتلك المساواة على وجه التقريب، ولا تكون المساواة إلا بتدبير وعلم، وإلى ذلك أشار بقوله:{وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} ؛ أي: ولا تحمل الأنثى ولا تضع إلا وهو عليم بذلك لا يخفى عليه، ولو لم يكن كذلك لم يتم التوازن في العدد بين الزوجين، فيفنى الإنسان والحيوان، ونحو الآية قوله:{اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)} .

{وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ

} إلخ؛ أي: لا أحد يقضى له بطول العمر

(1) البحر المحيط.

(2)

البحر المحيط.

(3)

المراغي.

ص: 363