الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأحكام، وخشي عقاب الله تعالى قبل حلوله، ومعاينة أهواله، فإنه سبحانه عظيم الرحمة، أليم العذاب، كما قال:{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)} . فبشِّر هذا الذي اتبع أحكام الدين، وخاف العقاب بمغفرة ما فرط منه من الزلّات، وأجرٍ كريم، ونعيم مقيم لا يستطاع وصفه مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ونحو الآية قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ
(12)}
.
12 -
ولما ذكر سبحانه وتعالى الرسالة، وهي أحد الأصول الثلاثة التي بها يصير المكلف مؤمنًا .. ذكر الحشر، وهو أحد الأصول الثلاثة، والثالث هو التوحيد، فقال:{إِنَّا} من مقام كمال قدرتنا، والجمع للتعظيم ولكثرة الصفات، وقال بعضهم: جمع الضمير لما في إحياء الموتى من حظ الملائكة، وينافيه الحصر الدالة عليه قوله:{نَحْنُ} قال في "البحر": كرّر الضمير لتكرير التأكيد، {نُحْيِ الْمَوْتَى}؛ أي: نبعثهم بعد مماتهم، ونجازيهم على حسب أعمالهم، فيظهر حينئذ كمال الإكرام، والانتقام للمبشّرين والمنذرين من الأنام، وقال الحسن والضحاك: أي: نحييهم بالإيمان بعد الجهل، والأول أولى، وقد أطلق النبي صلى الله عليه وسلم لفظ الموتى على كل غنيِّ مترف، وسلطان جائر، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم:"أربع يمتن القلب: الذنب على الذنب، وكثرة مصاحبة النساء وحديثهن، وملاحاة الأحمق تقول له، ويقول لك، ومجالسة الموتى" قيل: يا رسول الله، وما مجالسة الموتى؛ قال:"كل غني مترف، وسلطان جائر".
وفي "التأويلات النجمية": نحيي قلوبًا ماتت بالقسوة بما نمطر عليها من صوب الإقبال والزلفة انتهى. فالإحياء إذًا مجاز عن الهداية، {نَكْتُبُ}؛ أي: نحفظ ونثبت في اللوح المحفوظ، يدل عليه آخر الآية، أو يكتب رسلنا، وهم الكرام الكاتبون، وإنما أسند إليه تعالى ترهيبًا، ولأنه الآمر به، {مَا قَدَّمُوا}؛ أي: ما أسلفوا من خير أو شر، وإنما (1) أخر الكتابة مع أنها مقدمة على الإحياء؛ لأنها ليست مقصودة لذاتها، وإنما تكون مقصودة لأمر الإحياء، ولولا الإحياء والإعادة لما ظهر للكتابة فائدة أصلًا، {وَآثَارَهُمْ}؛ أي: ونكتب آثارهم؛ أي: ما أبقوه من
(1) روح البيان.
الحسنات التي لا ينقطع نفعها بعد الموت، كمن سن سنة حسنة، وكعلم علّموه، أو كتاب ألفوه، أو حبيس وقفوه، أو بناء شيء من المساجد والرباطات والقناطر، أو من السيئات التي تبقى بعد موت فاعلها، كوظيفة وظّفها بعض الظلمة على المسلمين مسانهة أو مشاهرة، كخراج وغرامة ومكوس وعشور، وسكة أحدثها فيها تخسيرهم وشيء فيه صد عن ذكر الله تعالى من ألحان وملاهي ونحوها، قال مجاهد وابن زيد: ونظيره قوله تعالى: {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13)} ؛ أي: بما قدم من أعماله، وأخَّر من آثاره، فعلى العدول أن يرفعوا الأحداث التي فيها ضرر بيِّن للناس في دينهم ودنياهم، وإلا فالراضي كالفاعل، وكل مجزي بعمله.
وقرأ الجمهور (1): {وَنَكْتُبُ} على البناء للفاعل، وقرأ زر ومسروق: على البناء للمفعول، وقيل: المراد بالآية: آثار المشائين إلى المساجد، وبه قال جماعة من الصحابة والتابعين. قال النحاس: وهو أولى ما قيل في الآية؛ لأنها نزلت في ذلك، كما مر في أسباب النزول، ويجاب عنه بأن الاعتبار بعموم الآية، لا بخصوص سببها، وعمومها يقتضي كتب جميع آثار الخير والشر، والله تعالى لا يترك الجزاء على الخطى، سواء كانت في حسنة، أو في سيئة.
{وَكُلَّ شَيْءٍ} من الأشياء كائنًا ما كان، سواء كان ما يصنعه الإنسان، أو غيره، وهو منصوب بفعل مضمر يفسّره قوله:{أَحْصَيْنَاهُ} ؛ أي: ضبطناه وبينّاه وكتبناه وحفظناه وعددناه وأثبتناه {فِي إِمَامٍ} ؛ أي: أصل عظيم الشأن. {مُبِينٍ} ؛ أي: مظهر لجميع الأشياء مما كان، وما سيكون، وهو اللوح المحفوظ، سمِّي إمامًا؛ لأنه يؤتم به ويتبع، وقالت فرقة: أراد صحائف الأعمال، وفي ذكر الإحصاء ترغيب وترهيب، فإن المحصي لم يصح منه الغفلة في حال من الأحوال، فعلى العاقل أن يراقب نفسه في كل وقت ونفس وحركة وسكتة.
وقرأ الجمهور (2): {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ} بنصب {كل} على الاشتغال، وقرأ أبو السمال: بالرفع على الابتداء.
(1) الشوكاني.
(2)
البحر المحيط.