الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدرس التاسع
{أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ (79) وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللهِ عَهْداً فَلَن يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلا اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ
وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ
إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ
…
إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ
…
الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ (86) } .
* * *
قوله عز وجل: {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ
…
مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ
…
يَعْلَمُونَ (75) } .
يقول تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ} أيها المؤمنون، {أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ} يصدقوكم ويطيعوكم، {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنهم كاذبون، ومع هذا يخالفونه عمدًا، كما قال تعالى:{فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} . قال ابن عباس: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ} هم الذين سألوا موسى رؤية ربهم فأخذتهم الصاعقة. وقال السدي: هي التوراة حرّفوها.
قال ابن كثير: وهذا الذي ذكره السدي أعم مما ذكره ابن عباس.
وقال ابن زيد: {يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} . قال التوراة التي أنزلها الله عليهم، يحرفونها، يجعلون الحلال فيها حرامًا، والحرام فيها حلالاً، والحق فيها باطلاً، والباطل فيها حقًا؛ إذا جاءهم المحق برشوة، أخرجوا له كتاب الله، وإذا جاءهم المبطل برشوة، أخرجوا له ذلك الكتاب، فهو فيه محق، وإذا جاءهم أحد يسألهم شيئًا، ليس فيه حق ولا رشوة ولا شيء، أمروه بالحق، فقال الله لهم:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} .
قوله عز وجل: {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ
عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلَا
تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ (78) } .
قال ابن عباس: {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا} ، أي: أن صاحبكم رسول الله، ولكنه إليكم خاصة. {وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ} : لا تحدثوا العرب بهذا، فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم، فكان منهم، فأنزل الله:{وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ} ، أي: تقرّون بأنه نبي، وقد علمتم أنه قد أخذ له الميثاق عليكم باتباعه، وهو يخبرهم أنه النبي الذي كنا ننتظر ونجد في كتابنا، اجحدوه ولا تقرّوا به.
يقول الله تعالى: {أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} . وقال السدي: هؤلاء ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا. وقال أبو العالية: {أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ} ، يعني: بما أنزل عليكم في كتابكم من بعث محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ} ، يقول تعالى:{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} أي: من اليهود أميون، لا يحسنون القراءة والكتابة. قال مجاهد: الأمي الذي لا يحسن الكتابة.
وقوله تعالى: {لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ} ، قال ابن عباس: يعني: غير عارفين بمعاني الكتاب. {وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ} ، أي: ولا يدرون ما فيه. وقال مجاهد: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا
أَمَانِيَّ} . قال: أناس من اليهود لم يكونوا يعلمون من الكتاب شيئًا، وكانوا يتكلمون بالظن بغير ما في كتاب الله.
قال الزجاج: {وَيْلٌ} كلمة تقولها العرب لكل واقع في هلكة. قال ابن كثير: هؤلاء صنف آخر من اليهود، وهم الدعاة إلى الضلال بالزور والكذب على الله، وأكل أموال الناس بالباطل. قال ابن عباس:{فَوَيْلٌ لَّهُم} ، يقول: فالعذاب عليهم من الذين كتبوا بأيديهم من ذلك الكتاب، {وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} يقول: مما يأكلون به أموال الناس.
يقول تعالى: {وَقَالُواْ} ، أي: اليهود، {لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} قال ابن عباس: اليهود قالوا: لن تمسنا النار إلا أربعين ليلة، وهي مدة عبادتهم العجل. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«اجمعوا إليَّ من كان من اليهود ها هنا» ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«من أبوكم» ؟ قالوا: فلان. قال: «كذبتم، بل أبوكم فلان» فقالوا صدقت وبررت. ثم قال لهم: «هل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه» ؟ قالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من أهل النار» ؟ فقالوا: نكون فيها يسيرًا ثم تخلفونا فيها. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اخسئوا، والله لا نخلفكم فيها أبدًا» . ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه» ؟ قالوا: نعم يا أبا القاسم. قال: «هل جعلتم في هذه الشاة سمًا» ؟ فقالوا: نعم؟ قال: «فما حملكم
على ذلك» ؟ فقالوا: أردنا إن كنت كاذبًا أن نستريح منك، وإن كنت نبيًا لم يضرك) . رواه البخاري بنحو وغيره.
وقوله تعالى: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللهِ عَهْداً} ، أي: أن لا يعذبكم إلا هذه المدة، {فَلَن يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ} ؟ قال ابن مسعود: عهدًا بالتوحيد. {أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} ، أي: بل تكذبون على الله وتفترون؟ ثم قال: {بَلَى} : إثبات لما ذكر من خلود النار. {مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ، أي: ليس الأمر كما تمنيتم، بل الأمر أنه:{مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً} ، يعني: الشرك. {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} مات ولم يتب، {فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ، وهذا المقام شبيه بقوله تعالى: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللهِ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً * وَمَن يَعْمَلْ
مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيراً} .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه» . وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهم مثلاً: «كمثل قوم نزلوا بأرض فلاة فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق، فيجيء بالعود والرجل يجيء بالعود، حتى جمعوا سوادًا وأججوا نارًا، فأنضجوا ما قذفوا فيها» . رواه الإمام أحمد.
يقول تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلا اللهَ} أي: أخلصوا له العبادة، كما قال تعالى:{وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلَا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} ، {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} ، أي: وصيناهم ببر الوالدين، والإحسان إليهما. {وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً} ، قال ابن عباس: أمرهم أيضًا بعد هذا الخلق، أن يقولوا:{لِلنَّاسِ حُسْناً} : أن يأمروا بلا إله إلا الله، من يقلها ورغب عنها، حتى يقولوها كما قالوها، فإن ذلك قربة من الله جل ثناؤه. وقال الحسن البصري: فالحسنى من القول: أن يأمر بالمعروف، وينهى عن
المنكر، ويصلح ويعفوا ويصفح، وقال الحسن أيضًا: لين القول من الأدب الحسن الجميل، والخلق الكريم، وهو مما ارتضاه الله وأحبه.
وقوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ} .
قال ابن جرير: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن يهود بني إسرائيل، أنهم نكثوا عهده، ونقضوا ميثاقه، بعد ما أخذ الله ميثاقهم على الوفاء له بأن لا يعبدوا غيره، وأن يحسنوا إلى الآباء والأمهات، ويصلوا الأرحام، ويتعطفوا على الأيتام، ويؤدوا حقوق أهل المسكنة إليهم، ويأمروا عباد الله بما أمرهم الله به، ويحثّوهم على طاعته، ويقيموا الصلاة بحدودها وفرائضها، ويؤتوا زكاة أموالهم، فخالفوا أمره في ذلك كله، وتولوا عنه معرضين، إلا من عصمه الله منهم، فوفى الله بعهده وميثاقه.
يقول تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ} ، أي: لا يسفك بعضكم دم بعض، {وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ} : لا يخرج بعضكم بعضًا من داره، {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ} بهذا العهد، {وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} : على ذلك يا معشر اليهود. {ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء} يعني: يا هؤلاء، {تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} بالمعصية والظلم.
{وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} . قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير، أو عكرمة عن ابن عباس:{ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ} الآية، قال: أنبأهم الله بذلك من فعلهم، وقد حرم عليهم في التوراة سفك دمائهم، وافترض عليهم فيها فداء أسراهم، فكانوا فريقين: طائفة منهم بنو قينقاع وهم حلفاء الخزرج، والنضير وقريظة وهم حلفاء الأوس، فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب، خرجت بنو قينقاع مع الخزرج، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس، يظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه، حتى تسافكوا دماءهم بينهم، وبأيديهم التوراة يعرفون فيها ما
عليهم وما لهم، والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان، ولا يعرفون جنةً ولا نارًا، ولا بعثًا ولا قيامةً، ولا كتابًا ولا حلالاً ولا حرامًا، فإذا وضعت الحرب أوزارها، افتدوا أسراهم تصديقًا لما في التوراة، وأخذًا به بعضهم من بعض، يفتدي بنو قينقاع ما كان من أسراهم في أيدي الأوس، ويفتدي النضير وقريظة ما
كان في أيدي الخزرج منهم، ويطلبون ما أصابوا من دمائهم، وقتلوا من قتلوا منهم فيما بينهم، مظاهرة لأهل الشرك عليهم. يقول الله تعالى ذِكره، حيث أنبأهم بذلك:{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} ، أي: تفادونهم بحكم التوراة وتقتلونهم؟ وفي حكم التوراة: ألا يقتل، ولا يخرج من داره، ولا يظاهر عليه من يشرك بالله ويعبد الأوثان من دونه، ابتغاء عرض الدنيا، ففي ذلك من فعلهم مع الأوس والخزرج، فلما بلغني، نزلت هذه القصة.
وقال مجاهد في قوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} يقول: إن وجدته في يد غيرك فديته، وأنت تقتله بيدك.
…
{فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ، فكان خزي بني قريظة القتل والسبي، وخزي بني النضير الجلاء والنفي من منازلهم.
{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} في النار. {وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ} السرمدي {وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ} نعوذ بالله من ذلك.
* * *