الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدرس السادس والثلاثون
[سورة آل عمران]
مدنية، وهي مائتا آية
…
روى مسلم عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه اقرءوا الزهراوين: البقرة وسورة آل عمران فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة» .
بسم الله الرحمن الرحيم
{الم (1) اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ (3) مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ (4) إِنَّ اللهَ لَا يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاء (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ
وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُوْلُواْ الألْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن
لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) } .
* * *
قال ابن إسحاق: قَدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نَجْران، ستون راكبًا، فيهم أربعة عَشرَ رجلاً من أشرافهم، في الأربعة عشر ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم: العاقب أمير القوم، وذو رأيهم وصاحب مشورتهم، والذي لا يصدرون إلا عن رأيه، واسمه عبد المسيح. والسيد، ثمالهم وهو صاحب رحلهم ومجتمعهم، واسمه الأيْهَم. وأبو حارثة بن علقمة أحد بني بكر بن وائل، أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم. قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فدخلوا عليه في مسجده حين صلى العصر عليهم في ثياب الحبرات، وقد حانت صلاتهم، فقاموا يصلون في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«دعوهم» . فصلوا إلى المشرق قال: فكلم منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو حارثة، والعاقب، والأيهم، وهو من النصرانية على دين الملك، مع اختلاف أمرهم يقولون: المسيح هو: الله، ويقولون: هو: ولد الله، ويقولون: هو: ثالث ثلاثة، إلى أن قال: فأنزل الله في ذلك من قولهم واختلاف أمرهم صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية.
وقال الربيع في قوله: {الم * اللهُ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} إنّ النصارى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فخاصموه في عيسى ابن مريم، وقالوا له: من أبوه؟ وقالوا له على الله الكذبَ والبهتانَ، لا إله إلا هو لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا. فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم:«كنتم تعملون أنه لا يكون له ولدًا إلا وهو يشبه أباه» ؟ قالوا: بلى. قال: «ألستم تعلمون أن ربَّنا حيّ لا يموت، وأنّ عيسى يأتي عليه الفناء» ؟ قالوا: بلى. قال: «ألستم تعلمون أن ربنا قَيِّمٌ على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه» ؟ قالوا: بلى! قال: «فهل يملك عيسى من ذلك شيئًا» ؟ قالوا: لا. قال: «أفلستم تعلمون أن الله عز وجل لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء» ؟ قالوا: بلى. قال: «فهل يعلم عيسى من ذلك شيئًا إلا ما عُلِّم» ؟ قالوا: لا. قال: «فإنّ ربنا صوّر عيسى في الرحم كيف شاء» . قال: «ألستم تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يُحدِث الحدَث» ؟ قالوا: بلى. قال: «ألستم تعلمون أن عيسى حملته امرأة كما تحمل المرأة، ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم غُذِّي كما يغذّى الصبيّ، ثم كان يَطعم الطعام، ويشرب الشرابَ ويُحدث الحدَث» ؟ قالوا: بلى. قال: «فكيف يكون هذا كما زعمتم» ؟ قال: فعرفوا، ثم أبوا إلا جحودًا. فأنزل الله عز وجل:{الم * اللهُ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} .
وقوله تعالى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} قال مجاهد: لما قبله من كتاب أو رسول.
قوله تعالى: {وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ * مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ} قال قتادة: هما كتابان أنزلهما الله فيهما بيان من الله وعصمة لمن أخذ به، وصدق به، وعمل بما فيه.
وقوله تعالى: {وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ} قال ابن إسحاق عن محمد بن جعفر: {وَأَنزَلَ
الْفُرْقَانَ} ، أي: الفصل بين الحق والباطل، فيما اختلف فيه الأحزاب من أمر عيسى وغيره.
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} ، أي: أن الله منتقم ممن كفر بآياته وجحد بها.
قال قتادة: قادرٌ والله ربُنا أن يصور عباده في الأرحام كيف يشاء، من ذكر، أو أنثى، أو أسود أو أحمر، تام خلقه وغير تام.
قال ابن عباس في قوله: {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} : المحكمات: ناسخه، وحلاله، وحرامه، وحدوده، وفرائضه وما يؤمن به ويعمل به. قال: {وَأُخَرُ
…
مُتَشَابِهَاتٌ} والمتشابهات منسوخة ومقدمة ومؤخرة وأمثاله وأقسامه، وما يؤمن به ولا يعمل به. وقيل: المتشابهات: فواتح السور.
قال البغوي: (فإن قيل: كيف فرق ها هنا بين المحكم والمتشابه وقد
جعل الله كل القرآن محكمًا في مواضع أخر. فقال: {الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} وجعله كله متشابهًا فقال الله: {نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً} . قيل: حيث جعل الكل محكمًا أراد أن الكل حق ليس فيه عبث ولا هزل، وحيث جعل الكل متشابهًا أراد أن بعضه يشبه بعضًا في الحق والصدق وفي الحسن، وجعل ها هنا بعضه محكمًا وبعضه متشابهًا) . انتهى.
وقال ابن زيد في قوله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} قال: هن جماع الكتاب.
وقال ابن كثير: أي: أصله الذي يرجع إليه عند الاشتباه.
وقوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} ، أي: ميل عن الهدى: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} قال ابن جريج: هم المنافقون. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} إلى قوله: {أُوْلُواْ الألْبَابِ} فقال: «إذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله فاحذروهم» . رواه أحمد وفي رواية البخاري: «فإذا
رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم» . وقال ابن إسحاق عن محمد بن جعفر: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} ، أي: ما تحرف منه وتصرف؛ ليصدقوا به ما ابتدعوا وأحدثوا، ليكون لهم حجة على ما قالوا وشبهة.
وقال السدي: {ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ} قال: إرادة الشرك. وقال مجاهد: الشبهات بها أَهلكوا وأُهلكوا. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قومًا يتدارءون فقال: «إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، إنما أنزل كتاب الله ليصدق بعضه بعضًا، فلا تكذبوا بعضه
ببعض، فما علمتم منه فقولوا به، وما جهلتم فكِلوه إلى عالِمه» . رواه أحمد. وقال ابن عباس:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللهُ} ، يعني: تأويله يوم القيامة إلا الله. وقالت عائشة في قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} كان من رسخوهم في العلم، أن آمنوا بمحكمه ومتشابهه ولم يعلموا تأويله. وقال ابن إسحاق عن محمد بن جعفر:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ} الذي أراد ما أراد، {إِلا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} ثم ردوا تأويل المتشابه على ما عرفوا من تأويل المحكمة التي لا تأويل لأحد فيها إلا تأويل واحد، فاتسق بقولهم الكتاب، وصدق بعضه بعضًا، فنفذت به الحجة وظهر به الغدر، وزاح به الباطل ودمغ به الكفر. وروى ابن جرير وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل من الراسخ في العلم؟ قال: «من برت يمينه، وصدق لسانه، واستقام قلبه، وعف بطنه وفرجه، فذلك الراسخ في العلم» .
وقال ابن إسحاق عن محمد بن جعفر: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} أي: لا تمل قلوبنا وإن ملنا بأجداثنا: {وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً} ، وعن أم سلمة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر في دعائه أن يقول: «اللهم يا مُقَلِّبَ القلوب ثَبِّتْ قلبي على دينك» قالت قلت: يا رسول الله، وإن القلب ليتقلب؟ قال:«نعم، ما خلق الله من بشر من بني آدم إلا وقلبه بين أصبعين من أصابعه، فإن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه» . فنسأل الله ربنا ألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة، إنه هو الوهاب. قالت قلت: يا رسول الله ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي؟ قال: «بلى قولي: اللهم رب النبي محمد اغفر لي ذنبي، وأذهب غيظ قلبي، وأجرني من مضلات الفتن» . رواه ابن جرير وغيره. وعن أبي عبد الله الصنابحي أنه صلى وراء أبي بكر الصديق المغرب قال: فدنوت منه حتى أن ثيابي لتكاد تمس ثيابه، فسمعته يقرأ بأم القرآن وهذه الآية في الركعة الثالثة. رواه عبد الرزاق.
وقوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ} ، أي: يوم القيامة {إِنَّ اللهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} ، أي: فاغفر لنا واعف عنا وارحمنا، وثبتنا في الدنيا على الدين، وفي الآخرة على الصراط. وقد قال الله تعالى:{يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} . والله الموفق.
* * *