الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدرس الثاني والعشرون
{وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً
وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) وَاذْكُرُواْ اللهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) } .
لما ذكر تعالى أحكام الصيام وعطف بذكر الجهاد، شرع في بيان المناسك فقال:{وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} . قال ابن عباس: من أحرم بحج أو عمرة فليس له أن يحل حتى يتمها. تمام الحج يوم النحر، إذا رمى جمرة العقبة وزار البيت، فقد حل من إحرامه كله، وتمام العمرة إذا طاف بالبيت وبالصفا والمروة، فقد حل.
وقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} . قال مجاهد: الحصر الحبس، كأنه يقول: أيما رجل اعترض له في حجته وعمرته فإنه يبعث بهديه من حيث يحبس. وقال قتادة: هو الخوف والمرض والحابس إذا أصابه ذلك بعث بهديه، فإذا بلغ الهدي محله حل. وعن هشام بن عروة عن أبيه قال: كل شيء حبس المحرم فهو إحصار. وقال ابن عباس: مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ شاة.
وقوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} ، أي: الحرم.
قال ابن كثير: (إن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية لما حصرهم كفار قريش عن الدخول إلى الحرم، حلقوا وذبحوا هديهم خارج الحرم. فأما في حال
الأمن والوصول إلى الحرم، فلا يجوز الحلق، حتى يبلغ
الهدي محله، ويفرغ الناسك من أفعال الحج والعمرة، إن كان قارنًا، أو من فعل أحدهما إن كان مفردًا أو متمتعًا، كما ثبت في الصحيحين عن حفصة أنها قالت: يا رسول الله ما شأن الناس أحلّوا من العمرة ولم تحل أنت من عمرتك؟ فقال: «إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر» .
وقوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} ، عن كعب بن عجرة قال:(حملت إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي فقال: «ما كنت أرى أن الجهل بلغ بك هذا، أما تجد شاة» ؟ قلت: لا. قال: «صم ثلاثة أيام، وأطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام، واحلق رأسك» . فنزلت فيّ خاصة وهي لكم عامة) . رواه البخاري وغيره.
وفي رواية لأحمد وغيره: «يؤذيك هوام رأسك» ؟ قلت: نعم. قال: «فاحلقه وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك نسيكة» .
قال ابن كثير: (وقوله: {فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ، أي: فإذا تمكنتم من أداء المناسك، فمن
كان منكم متمتعًا بالعمرة إلى الحج، وهو يشمل من أحرم بهما أو أحرم بالعمرة أولاً، فلما فرغ منها
أحرم بالحج، وهذا هو التمتع الخاص وهو المعروف في كلام الفقهاء. والتمتع العام يشمل القسمين كما دلت عليه الأحاديث الصحاح) . انتهى.
وقوله تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ، أي: فليذبح ما تيسر من الهدي وأقله شاة. {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} ، أي: في أيام المناسك. قال عطاء وغيره: الأولى أن يصومها قبل يوم عرفة في العشر، أو من حين يحرم، قاله ابن عباس وغيره. وقال العوفي عن ابن عباس: إذا لم يجد هديًا فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج قبل يوم عرفة، فإذا كان يوم عرفة الثالث فقد تمّ صومه، وسبعة إذا رجع إلى أهله.
وهل يجوز صيامها أيام التشريق؟ فيه قولان للعلماء والراجح الجواز، لما روى البخاري عن ابن عمر وعائشة قالا:(لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي) .
وقوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} قال ابن عباس: هم أهل الحرم. وقال طاوس: المتعة للناس لا لأهل مكة، من لمن يكن أهله من الحرم. وقال مكحول في قوله ذلك:
…
{لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} . قال: من كان دون الميقات. واختار ابن جرير: أنهم أهل الحرم، ومن كان منه على مسافة لا يقصر فيها الصلاة.
وقوله تعالى: {وَاتَّقُواْ اللهَ} ، أي: فيما أمركم ونهاكم، {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} ، لمن خالف أمره وارتكب نهيه.
قال ابن عباس: لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في شهور الحج، من أجل قول الله تعالى:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} . وقال ابن عمر: هي: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة. قال ابن جرير: وصح إطلاق الجمع على شهرين وبعض الثالث للتغليب.
وقوله تعالى: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} يقول: من أحرم بحج أو عمرة.
وقوله: {فَلَا رَفَثَ} ، أي: من أحرم بحج أو عمرة فليجتنب الرفث وهو الجماع. وكان ابن عمر يقول: الرفث: إتيان النساء، والتكلم بذلك للرجال والنساء، إذا ذكروا ذلك بأفواههم. وقال ابن عباس: الرفث: التعريض بذكر الجماع، وهي العرابة في كلام العرب، وهو أدنى الرفث. وقال عطاء: الرفث الجماع وما دونه من قول الفحش. وقال طاوس: هو أن يقول للمرأة إذا حللت أصبتك.
وقوله: {وَلَا فُسُوقَ} . قال ابن عباس وغيره: هي المعاصي. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» .
وقوله تعالى: {وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} . قال مجاهد: قد بين الله أشهر الحج، فليس فيه جدال بين الناس. وقال ابن عباس:{وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} . قال: المراء في الحج. وقال ابن مسعود في قوله: {وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} . قال: أن
تماري صاحبك حتى تغضبه، وكذا قال ابن عباس وغيره، وقال ابن عمر: الجدال في الحج السباب والمنازعة، وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قضى نسكه وسلم المسلمون من لسانه ويده، غفر له ما تقد من ذنبه» . رواه أحمد.
وقوله تعالى: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ} ، لمّا نهاهم عن إتيان القبيح حثهم على فعل الجميل، وأخبرهم أنه عالم به وسيجزيهم عليه أوفر الجزاء يوم القيامة.
وقوله تعالى: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} . روى البخاري وغيره عن ابن عباس قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزوجون، ويقولون: نحن المتوكلون فأنزل الله: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ
…
التَّقْوَى} .
وقوله تعالى: {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} ، لمّا أمرهم بالزاد للسفر في الدنيا، أرشدهم إلى زاد الآخرة، وهو استصحاب التقوى، كما قال تعالى:{يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ} . وقال مقاتل: لما نزلت هذه الآية:
{وَتَزَوَّدُواْ} قام رجل من فقراء المسلمين فقال: يا رسول الله ما نجد ما نتزوده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«تزود ما تكف به وجهك عن الناس، وخير ما تزودتم التقوى» . رواه ابن أبي حاتم.
وقوله: {وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} ، أي: العقول، والأفهام، أي: احذروا عقابي وعذابي لمن خالفني وعصاني.
روى البخاري وغيره عن ابن عباس قال: (كانت عكاظ ومجنة وذوى المجاز أسواقًا في الجاهلية، فتأثموا أن يتّجروا في الموسم فنزلت: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} في مواسم الحج) . وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية: لا حرج عليكم في الشراء والبيع قبل الإحرام وبعده. وروى أحمد وغيره عن أبي أمامة التيمي قال: قلت لابن عمر: إنا نكري فهل لنا من حج؟ قال: أليس تطوفون بالبيت، وتأتون بالمعروف، وترمون الجمار، وتحلقون رءوسكم؟ قال: قلنا: بلى. فقال ابن عمر: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني فلم يجبه حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أنتم حجاج» .
وقوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} . روى أحمد وأهل السنن عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الحج عرفات، - ثلاثًا - فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك» . الحديث.
وفي حديث جابر الطويل: (فلم يزل واقفًا - يعني: بعرفة - حتى غابت الشمس وبدت الصفرة قليلاً، حتى غاب القرص، وأردف أسامة خلفه. ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شنق للقصواء الزمام، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله، ويقول بيده اليمنى: «أيها الناس السكينة السكينة» . كلما أتى جبلاً أرخى لها قليلاً حتى تصعد، حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئًا، ثم اضطجع حتى طلع الفجر فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب الْقَصْوَاءَ حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة، فدعا الله وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفًا حتى أسفر جدًا فدفع قبل أن تطلع الشمس) . الحديث رواه مسلم.
وروى أحمد عن جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل عرفات موقف وادفعوا عن عرفة، وكل مزدلفة موقف وادفعوا عن محسر، وكل فجاج مكة منحر، وكل أيام التشريق ذبح» .
وقوله تعالى: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} ، أي: واذكروه بالتوحيد والتعظيم كما هداكم لدينه، ومناسك حجه. {وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ} ، أي: وقد كنتم من قبل هذا الهدى لمن الضالين الجاهلين بدينهم.
وقوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . قال أهل التفسير: كانت قريش وحلفاؤها ومن دان بدينها وهم الحمس، يقفون بالمزدلفة ويقولون: نحن أهل الله، وقطان حرمه، فلا نخلف الحرم، ولا نخرج منه، ويتعظمون أن يقفوا مع سائر العرب بعرفات، فإذا أفاض الناس من عرفات أفاض الحمس من المزذلفة، فأمرهم الله أن يقفوا بعرفات، ويفيضوا منها
إلى جمع مع سائر الناس. وقال الضحاك بن مزاحم: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ
…
النَّاسُ} ، قال: هو إبراهيم. وروى عن ابن عباس ما يقتضي أن المراد بالإفاضة ها هنا هي: الإِفاضة من المزدلفة إلى منى لرمي الجمار. والله أعلم.
وقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ، كثيرًا ما يأمر الله بذكره واستغفاره بعد قضاء العبادات، كما ورد ذلك في أدبار الصلوات وغيرها، ومن ذلك:«اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغور الرحيم» . وكان صلى الله عليه وسلم يستغفر بعد السلام ثلاثًا؛ وفائدة الاستغفار الذل والانكسار بين يدي الجبار، كما في سيد الاستغفار:«اللهم أنت ربي لا إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قالها في ليلة فمات في ليلته دخل الجنة، ومن قالها في يومه فمات دخل الجنة» . رواه البخاري.
قوله عز وجل: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) وَاذْكُرُواْ اللهَ فِي أَيَّامٍ
مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) } .
يأمر تعالى بذكره دائمًا والإكثار منه بعد قضاء المناسك. قال سعيد ابن جبير عن ابن عباس: كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم فيقول الرجل منهم: كان أبي يطعم ويحمل الحمالات ويحمل الديات ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم، فأنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم:{فَاذْكُرُواْ اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} .
وقوله تعالى: {فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} ، أي: حظ ونصيب، قال ابن عباس: كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف فيقولون: اللهم اجعله عام غيث، وعام خصب، وعام ولاد حسن، لا يذكرون من أمر الآخرة شيئًا، فأنزل الله فيهم:{فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} ، وكان يجيء بعدهم آخرون من المؤمنين فيقولون: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، فأنزل الله:
…
{أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} .
وقوله تعالى: {وَاذْكُرُواْ اللهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ} . قال ابن عباس: الأيام المعدودات: أيام التشريق، والأيام المعلومات: أيام العشر. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تصوموا هذه الأيام - يعني: أيام منى - فإنها أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل» . رواه ابن جرير. وقال ابن عباس وغيره: الأيام المعدودات أربعة أيام: يوم النحر، وثلاثة بعده.
وقوله تعالى: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} . قال قتادة: قوله: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} ، أي: من أيام التشريق
{فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} ، ومن أدركه الليل بمنى من اليوم الثاني من قبل أن ينفر، فلا نفر له حتى تزول الشمس من الغد، {وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} ، يقول: ومن تأخر إلى اليوم الثالث من أيام التشريق {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} . قال ابن مسعود: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} ، أي: غفر له. {وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} قال: غفر له. وقال أبو العالية: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} ، قال: ذهب إثمه كله إن اتقى فيما بقي. وقال قتادة: ذكر لنا أن ابن مسعود كان يقول: من اتقى في حجه غفر له ما تقدم من ذنبه ، أو ما سلف من ذنوبه.
وقوله تعالى: {وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} ، أي: اتقوا الله بفعل ما أمركم به وترك ما نهاكم عنه، {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} فيجزيكم بأعمالكم. والله أعلم.
* * *