الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البر: كل عمل خير يفضي بصاحبه إلى الجنة. قال أبو العالية: كانت اليهود تقبل قبل المغرب، وكانت النصارى تقبل قبل المشرق، فقال الله تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ
…
وَالْمَغْرِبِ} . يقول: هذا كلام الإيمان وحقيقة العمل. وقال مجاهد: ولكن البر ما ثبت في القلوب من طاعة الله عز وجل. وقال الثوري: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} ، الآية، قال: هذه أنواع البر كلها.
وقوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ} ، أي: بأنه لا إله إلا هو ولا رب سواه، وآمن باليوم بالآخر: وهو يوم القيامة، وصدق بوجود الملائكة الذين هم عباد الرحمن، وصدق بالكتاب أي: القرآن، وجميع الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء، وآمن بالنبيين كلهم.
…
{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} ، أي: أعطاه وهو محب له {ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} ، أي: فكها من الرق، وهي عامة في المكاتبين وفي العتق وفي فداء الأسير {وَأَقَامَ الصَّلاةَ} ، أي: وأتمها في أوقاتها على الوجه المرضي {وَآتَى الزَّكَاةَ}
أعطى زكاة ماله {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ} فيما بينهم وبين الله عز وجل، وفيما بينهم وبين الناس {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ} أي: في حالة الفقر
والمرض وفي القتال، {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا} في إيمانهم، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} بتركهم المحارم وفعلهم الطاعات.
قوله: {وَالصَّابِرِينَ} . قال أبو عبيدة: نصبها على تطاول الكلام ومن شأن العرب أن تغير الإعراب إذا طال الكلام، ومثله في سورة النساء:{وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} ، وفي سورة المائدة:{وَالصَّابِؤُونَ} . وقال الخليل: نصب على المدح.
وعن علي رضي الله عنه قال: (كنا إذا احمر البأس ولقي القوم القوم اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يكون أحد منا أقرب إلى العدو منه، يعني: إذا اشتد الحرب) .
قال الشعبي وغيره: نزلت هذه الآية في حيين من أحياء العرب، اقتتلوا في الجاهلية قبيل الإسلام بقليل، وكانت بينهما قتلى وجراحات، لم يأخذها بعضهم من بعض، حتى جاء الإسلام، وكان لأحد الحيين على الآخر طول في الكثرة والشرف، وكانوا ينكحون نساءهم بغير
مهور، فأقسموا: لنقتلن بالعبد منا الحر منهم، وبالمرأة منا الرجل
…
منهم، وبالرجل منا الرجلين منهم، وجعلوا جراحاتهم ضعفي جراحات أولئك، فرفعوا أمرهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأمر بالمساواة، فرضوا وأسلموا.
وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} ، أي: فرض عليكم
القصاص وهو المساواة والمماثلة في الجراحات والديات: الحر بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى، قال قتادة: كان أهل الجاهلية فيهم بغي وطاعة للشيطان، فكان الحي إذا كان فيهم عدة ومنعة، فقتل عبد قوم آخرين عبدًا لهم قالوا: لا تقتل به إلا حرًا، تعزيزًا لفضلهم على غيرهم في أنفسهم، وإذا قتلت لهم امرأة، قتلتها امرأة قوم آخرين قالوا: لا نقتل بها إلا رجلاً، فأنزل الله هذه الآية، يخبرهم أن العبد بالعبد، والأنثى بالأنثى، فنهاهم عن البغي. ثم أنزل الله تعالى ذكره في سورة المائدة بعد ذلك فقال:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} .
وقد اختلف العلماء في قتل الحر بالعبد، فذهب أبو حنيفة إلى أن الحر يقتل بالعبد لعموم آية المائدة، وذهب الجمهور إلى أنه لا يقتل الحر بالعبد وقالوا: لا يقتل المسلم بالكافر لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يقتل مسلم بكافر» . رواه البخاري. وقال أبو حنيفة: يقتل لعموم الآية. وقال الحسن وعطاء: لا يقتل الرجل بالمرأة لهذه الآية.
وخالفهم الجمهور لآية المائدة، ولقوله صلى الله عليه وسلم:«المسلمون تتكافأ دماؤهم» .
وذهب الأئمة الأربعة والجمهور إلى أن الجماعة يقتلون بالواحد.
قال البغوي: (ويجري القصاص في الأطراف كما يجري في النفوس، إلا في شيء واحد وهو: أن الصحيح السوي يقتل بالمريض والزمن، وفي الأطراف لو قطع يدًا شلاء أو ناقصة لا تقطع بها الصحيحة الكاملة) انتهى.
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن الرّبيّع بنت النضر عمته، كسرت ثنية جارية، فطلبوا إليها العفو فأبوا، فعرضوا الأرش فأبوا، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبوا إلا القصاص فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص فقال أنس بن النضر: يا رسول الله أتكسر ثنية الرّبيّع؟ لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها. فقال رسول صلى الله عليه وسلم: «يا أنس كتاب الله القصاص» . فرضي القوم فعفوا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره» .
وقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} . قال ابن عباس: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} ، يعني: فمن ترك له من أخيه شيء، يعني: أخذ الدية بعد استحقاق الدم، وذلك العفو. {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} ، يقول: فعلى الطالب اتباع بالمعروف إذا قبل الدية، {وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} ، يعني: من القاتل من غير ضرر ولا معك، يعني: المدافعة. وقوله تعالى: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} ، يعني: أخذ الدية في العمد. قال قتادة: رحم الله هذه الأمة وأطعمهم الدية، ولم تحل لأحد قبلهم، فكان أهل التوراة إنما
هو والقصاص وعفو ليس بينهم أرش، وكان أهل الإنجيل إنما هو عفو أمروا به، وجعل لهذه الأمة: القصاص، والعفو، والأرش.
وقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، أي: من قتل بعد أخذ الدية فله عذاب أليم. قال ابن جرير: يتحتم قتله حتى لا يقبل العفو. وقال
سعيد بن عروبة عن قتادة عن الحسن عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أعافي رجلاً قتل بعد أخذ الدية» . وروى أحمد عن أبي شريح الخزاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أصيب بقتل أو خبل فإنه يختار إحدى ثلاث: إما أن يقتص، وإما أن يعفو، وإما أن يأخذ الدية، وإن أراد الرابعة فخذوا على يديه، ومن اعتدى بعد ذلك فله نار جهنم خالدًا فيها» .
وقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . يقول تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} ، أي: بقاء قال أبو العالية: جعل الله القصاص حياة، فكم من رجل يريد أن يقتل فتمنعه مخافة أن يقتل. وقال قتادة: جعل الله هذا القصاص حياة ونكالاً وعظة لأهل السفه والجهل من الناس، وكم من جاهل قد هم بداهية لولا مخافة القصاص لوقع بها، ولكن الله حجز بالقصاص بعضهم عن بعض، وما أمر الله بأمر قط إلا وهو أمر صلاح في الدنيا والآخرة، ولا نهى عن أمر قط إلا وهو أمر فساد في الدنيا والدين، والله كان أعلم بالذي يصلح خلقه.
وقوله تعالى: {يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ} ، أي: العقول والأفهام.
…
{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . قال ابن زيد: لعلك تتقي أن تقتله فتقتل به.
قال ابن كثير: والتقوى اسم جامع لفعل الطاعات وترك المنكرات.
كانت الوصية فريضة في ابتداء الإسلام للوالدين، والأقربين على من مات وله مال، ثم نسخت بآية الميراث. وفي السنن وغيرها عن عمرو بن خارجة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب وهو يقول: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث» . وقال قتادة: قوله:
…
{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ} ، فجعلت الوصية للوالدين والأقربين، ثم نسخ ذلك بعد ذلك فجعل لهما نصيب مفروض، فصارت الوصية لذوي القرابة الذين لا يرثون، وجعل للوالدين نصيب معلوم، ولا تجوز وصية لوارث.
وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده» . قال ابن عمر: ما مرت عليّ ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك إلا ووصيتي عندي. وروى ابن أبي حاتم عن علي رضي الله عنه أنه دخل على رجل من قومه يعوده، فقال له أوصني، فقال له علي: إنما قال الله: {إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ} ، إنما تركت شيئًا يسيرًا فاتركه لولدك.
وقوله تعالى: {بِالْمَعْرُوفِ} ، قال ابن جرير:(وهو ما أذن الله فيه وأجازه في الوصية، مما يجوز الثلث، ولم يتعمد الموصي ظلم ورثته) . انتهى.
وعن حنظلة بن حِذْيَم بن حنيفة أن جده حنيفة أوصى ليتيم في حجره بمائة من الإِبل، فشق ذلك على بنيه، فارتفعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال حنيفة: إني
أوصيت ليتيم لي بمائة من الإِبل كنا نسميها المطية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا، لا، لا، الصدقة خمس، وإلا فعشر، وإلا فخمس عشرة، وإلا فعشرون، وإلا فخمس وعشرون، وإلا فثلاثون، وإلا فخمس وثلاثون، فإن كثرت فأربعون» . الحديث رواه أحمد.
وقال ابن عباس: لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«الثلث، والثلث كثير» . وقال الشعبي: إنما كانوا يوصون بالخمس أو الربع. وقال الحسن البصري: يوصي بالسدس، أو الخمس، أو الربع. وعن نافع أن ابن عمر لم يوص، وقال: أما مالي فالله أعلم ما كنت أصنع فيه في الحياة، وأما رباعي فما أحب أن يشرك ولدي فيها أحد. رواه ابن جرير.
يقول تعالى: فمن بدل الوصية فزاد فيها أو نقص {فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} ، والميت بريء منه، وقد وقع أجره على الله {إِنَّ اللهَ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ، أي: قد اطلع على ما أوصى به الميت وعلى ما غيره المبدل، لا تخفى عليه خافية.
وقوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً} ، أي: جورًا وعدولاً عن الحق، أي: ظلمًا. قال السدي وغيره: الجنف: الخطأ، والإثم: العمد {فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} ، قال مجاهد: معنى الآية: أن الرجل إذا حضر مريضًا وهو يوصي فرآه يميل إما بتقصير أو إسراف، أو وضع الوصية في غير موضعها، فلا حرج على من حضره أن يأمره بالعدل وينهاه عن الجنف، فينظر للموصى له والورثة. وقال ابن
عباس في قوله: {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً} ، يعني: إثمًا، يقول: إذا أخطأ الميت في وصيته أو حاف فيها، فليس على الأولياء حرج أن يردوا خطأه إلى الصواب. وقال قتادة في قوله:{فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً} قال: هو الرجل يوصي فيحيف في وصيته، فيردها الوالي إلى الحق والعدل. وقال أيضًا: من أوصى بجور أو جنف في وصيته، فردها والي المتوفي إلى كتاب الله وإلى العدل، فذاك له، أو إمام من أئمة المسلمين. وعن شهر بن حوشب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة، فإذا أوصى حاف في وصيته فيختم له بشر عمله فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة، فيعدل في وصيته، فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة» . قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ} الآية، رواه عبد الرزاق. يشير إلى قوله تعالى: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ * تِلْكَ
حُدُودُ اللهِ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} .
وقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فيه: الحث على ترك الإثم والميل، وفعل الإصلاح، ليحصل الغفران والرحمة. وبالله التوفيق.
* * *