الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقول تعالى: يا أيها الناس وحدوا ربكم الذي خلقكم، وخلق الذين من قبلكم، لعلكم تتقون: لكي تنجوا من العذاب.
وقال بعض المفسرين: لعلكم تتقون: حال من الضمير في اعبدوا؛ كأنه قال: اعبدوا ربكم راجين أن تدخلوا في سلك المتقين الفائزين بالهدى والفلاح، المسترجين لجوار الله تعالى، ولعل في الأصل للترجي، وهي في كلام الله تعالى للتحقيق، وقيل: لعل هنا للأطماع كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} .
وقال ابن جرير: معنى ذلك: اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم؛ لتتقوه بطاعته، وتوحيده، وإفراده بالربوبية والعبادة. وقال ابن عباس: كل ما ورد في القرآن من العبادة فمعناها التوحيد.
يقول تعالى: اعبدوا ربكم خالقكم، وخالق من قبلكم، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً، أي: بساطًا وَالسَّمَاء بِنَاء، سَقْفاً مرفوعاً، وأنزل من السماء، أي: من السحاب، ماء فأخرج به من الثمرات رزقًا لكم،
طعامًا لكم وعلفًا لدوابكم، فلا تجعلوا لله أنداداً، أي: أمثالاً تعبدونها كعبادة الله، وأنتم تعلمون أنه واحد لا خالق معه. قال ابن عباس: فلا تجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون، أي: لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر، وأنتم تعملون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره، وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من التوحيد، هو الحق الذي لا شك فيه؟
قال ابن كثير: الخالق لهذه الأشياء هو المستحق للعبادة.
يقول تعالى: وإن كنتم في ريب، أي: شك مما نزلنا على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم فأتوا بسورة من مثله، أي: مثل القرآن، وادعوا شهداءكم واستعينوا بآلهتكم التي تعبدونها من دون الله إن كنتم صادقين أن محمداً تقوله من تلقاء نفسه. كما قال تعالى:{أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ} ، وقال تعالى:{قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} ، وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ
قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} . ثم تحدّاهم بسورة واحدة فعجزوا.
وقوله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} يقول تعالى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ} ، أي: فيما مضى، ولن تفعلوا أبداً، وهذه معجزة أخرى، {فَاتَّقُواْ النَّارَ} ، أي: فآمنوا واتركوا المعاصي لتنجوا من النار، {الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} . قال ابن عباس يعني: حجارة الكبريت؛ لأنها أكثر التهاباً، {أُعِدَّتْ} : هيئت، {لِلْكَافِرِينَ} : الذين هم أهلها كما قال تعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} ، وقال تعالى:{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعنا وجبة فقلنا: ما هذه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا حجر ألقي به من شفير جهنم منذ سبعين سنة، الآن وصل إلى قعرها» . رواه مسلم.
لما ذكر تعالى ما أعده لأعدائه الكافرين عطف بذكر حال أوليائه المؤمنين، فقال تعالى:{وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ} بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} من الأفعال والأقوال. قال معاذ: العمل الصالح الذي فيه أربعة
أشياء: العلم، والنية، والصبر، والإخلاص، {أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} جمع جنة والجنة البستان الذي فيه أشجار مثمرة، {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} ، أي: من تحت
أشجارها، ومساكنها. وفي الحديث:«إن أنهار الجنة تجري في غير أخدود» ، {كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ} قال ابن عباس وغيره: إنهم أتوا بالثمرة في الجنة فلما نظروا إليها قالوا: هذا الذي رزقنا من قبل الدنيا. وقال عكرمة: معناه، مثل الذي كان بالأمس. وقال مجاهد: يقولون: ما أشبهه به، وأتوا به متشابهًا. قال ابن عباس وغيره: متشابهًا في الألوان مختلفًا في الطعوم. وقال ابن عباس: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسامي. وقال يحيى بن أبي كثير: عشب الجنة الزعفران، وكثبانها المسك، ويطوف عليهم الولدان بالفواكه فيأكلونها، ثم يؤتون بمثلها فيقول لهم أهل الجنة: هذا الذي آتيتمونا آنفًا به؟ فتقول لهم الولدان: كلوا، فاللون واحد والطعم مختلف. وهو قول الله تعالى:{وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً} .
وقوله تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ} ، أي: من الحور والآدميات {مُّطَهَّرَةٌ} ، أي: من الغائط والبول، والحيض والنفاس، والبصاق والمخاط، والمني والولد، وكل قذر. قال الحسن: هنَّ عجائزكم الغمص العمش، طهرن من قذرات الدنيا.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
…
وقوله تعالى: {وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ، أي: دائمون لا يموتون فيها ولا يخرجون منها: وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا هل من مشمر للجنة؟ وأن الجنة لا خطر لها، وهي ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانه تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وثمرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة، ومقام أبد في دار سليمة، وفاكهة وخضرة، وحبرة ونعمة في محلة عالية بهية» . قالوا: نعم يا رسول الله نحن المشمرون لها. قال: «قولوا إن شاء الله» . قال القوم: إن شاء الله.
قال قتادة: إن الله لا يستحي من الحق أن يذكر شيئًا ما قل أو كثر، وإن الله
حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت، قال أهل الضلالة: ما أراد الله من ذكر هذا؟ فأنزل الله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ} بمحمد والقرآن، {فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ} يعني المثل هو {الْحَقُّ} الصدق {مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا} ، أي: شيء {أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا} المثل {مَثَلاً} وعن ابن عباس وغيره: لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين يعني قوله تعالى:
{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} ، وقوله:{أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ} الآيات الثلاث، قال المنافقون: الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال. فأنزل الله هذه الآية إلى قوله تعالى: {هُمُ الْخَاسِرُونَ} .
وقوله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ} أجابهم الله في قولهم: ماذا أراد الله بهذا مثلاً، فقال: يضل به كثيرًا من الكفار، وذلك أنهم يكذبونه فيزدادون ضلالاً، ويهدي به كثيرًا من المؤمنين، فيصدقونه فيزيدهم هدى إلى هداهم، وإيمانًا إلى إيمانهم: كما قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ وَمَا هِيَ إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} وكذلك قال ها هنا: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ} . قال ابن عباس: يعني: المنافقين.
وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} هذا وصف من الله تعالى للفاسقين المذكورين ها هنا بأنهم الذين ينقضون، أي: يخالفون ويتركون عهد الله،
أمر الله الذي عهد إليهم في كتبه وعلى ألسنة رسله من بعد ميثاقه توكيده، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل من الأرحام وغيرها، ويفسدون في الأرض بالكفر والظلم والمعاصي أولئك هم الخاسرون بأعياضهم الفساد عن الصلاح والعقاب عن الثواب. كما
يقول تعالى: كيف تكفرون بالله وتعبدون معه غيره! وكنتم أمواتًا في أصلاب آبائكم، فأحياكم، ثم يميتكم عند انقضاء آجالكم، ثم يحييكم للبعث، ثم إليه ترجعون، فيجازيكم بأعمالكم. وهذه الآية كقوله تعالى:{قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} . وكقوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيبَ
…
فِيهِ} .
وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} يقول تعالى: هو الله ربكم الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا؛ لكي تنتفعوا، فاعبدوه وحده لا شريك له. كما قال تعالى:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} .
وقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} قال ابن عباس وغيره: أي ارتفع، {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} : خلقهن مستويات لا فطور فيها،
ولا صدوع، {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، فإن بالعلم يصح الخلق، ويحكم الفعل.
قال البغوي: قرأ أبو جعفر، وأبو عمرو، والكسائي، وقالون،
…
(وهو، وهي) بسكون الهاء إذا كان قبل الهاء: واوٌ، أو فاء، أو لام. زاد الكسائي وقالون:(ثم هو) . وقالون: (أن يملَّ هو) .
وهذه الآية كقوله تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} ، وقال مجاهد في قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} قال: خلق الله الأرض قبل السماء، فلما خلق الأرض ثار منها دخان، فلذلك حين يقول:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ} {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} قال: بعضهن فوق بعض، وسبع أرضين، يعني: بعضها تحت بعض. والله أعلم.
* * *