الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في الصحيحين عن أم سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع جلبة خصم بباب حجرته، فخرج إليهم فقال:«ألا إنما أنا بشر، وإنما أقضي بنحو مما أسمع، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار، فليحملها أو يذرها» .
وعن قتادة: بن النعمان قال: كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق: بشر وبشير ومبشر، وكان بشير رجلاً منافقًا، وكان يقول: الشعر يهجو به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ينحله بعض العرب، ثم يقول: قال فلان: كذا، وقال فلان: كذا، فإذا سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الشعر قالوا: والله ما يقول هذا الشعر إلا الخبيث، فقال:
أو كلما قال الرجال قصيدة
…
أصموا وقالوا ابن الأبيرق قالها
قال: وكانوا أهل بيت فاقة وحاجة في الجاهلية والإسلام، وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير، وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت قافلة من الشام بالدرمك، ابتاع الرجل منهم فخص به نفسه، فأما العيال فإنما طعامهم التمر والشعير. فقدمت قافلة من الشام، وابتاع عمي رفاعة بن زيد حملاً من الدرمك، فجعله في مشربة له، وفي المشربة سلاح له درعان وسيفاهما وما يصلحهما، فعدا عديّ من تحت الليل فنقب المشربة وأخذ الطعام والسلاح، فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي تعلم أنه قد عديّ علينا في ليلتنا هذه فنقبت مشربتنا، فذهب بسلاحنا وطعامنا. قال: فتجسسنا في الدار وسألنا، فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة، ولا نرى فيما نراه إلا على بعض طعامكم.
قال: وقد كان بنو أبيرق قالوا: ونحن نسأل في الدار: والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل، رجل منا له صلاح وإسلام، فلما سمع بذلك لبيد اخترط سيفه ثم أتى بني أبيرق فقال: والله ليخالطنكم هذا السيف ولتبين هذه السرقة، قالوا: إليك عنا أيها الرجل، فوالله ما أنت بصاحبها. فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها، فقال عمي: يا ابن أخي لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له.
قال قتادة: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقلت: يا رسول الله إن أهل بيت منا أهل جفاء، عمدوا إلى عمي رفاعة فنقبوا مشربة له وأخذوا سلاحه وطعامه، فليردوا علينا سلاحنا، فأما الطعام فلا حاجة لنا به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«سأنظر في ذلك» . فلما سمع بذلك بنو
أبيرق أتوا رجلاً منهم يقال له أسير بن عروة، فكلموه في ذلك، واجتمع إليه ناس من أهل الدار، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا
رسول الله إن قتادة بن النعمان وعمه عمدوا إلى أهل بيت منا، أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت.
قال قتادة: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته فقال: «عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح، ترميهم بالسرقة على غير بينة ولا ثبت» ؟ ! قال: فرجعت ولوددت أني خرجت من بعض مالي، ولم أكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك. فأتيت عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الله المستعان. فلم يلبث أن نزل القرآن: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلَا تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً} ، يعني: بني أبيرق، {وَاسْتَغْفِرِ اللهَ} ، أي: مما قلت لقتادة: {إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} ، {وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ} أي: بني أبيرق، {إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ} إلى قوله:{ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَّحِيماً} ، أي: أنهم إن يستغفروا الله يغفر لهم. {وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} قولهم للبيد. {وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ} ، يعني: أسيرًا وأصحابه. {وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}
إلى قوله: {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} ، فلما نزل القرآن أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح فرده إلى رفاعة.
قال قتادة: فلما أتيت عمي بالسلاح، وكان شيخًا قد عسا في الجاهلية، وكنت أرى إسلامه مدخولاً، فلما أتيته بالسلاح قال: يا ابن أخي هو في سبيل الله. قال: فعرفت أن إسلامه كان صحيحًا. فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين، فنزل
على سلاقة بنت سعد بن سمية، فأنزل الله فيه:{وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} إلى قوله: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً بَعِيداً} . فلما نزل على سلاقة رماها حسان بن ثابت بأبيات من شعر فأخذت رحله فوضعته على رأسها، ثم خرجت فرمته بالأبطح، ثم قالت:(أهديت إليّ شعر حسان، كنت تأتيني بخير) . رواه ابن جرير وغيره.
عن ابن عباس قوله: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَّحِيماً} ، قال: أخبر الله عباده بحلمه، وعفوه، وكرمه، وسعة رحمته، ومغفرته، فمن أذنب ذنبًا صغيرًا كان أو كبيرًا،
ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا، ولو كانت ذنوبه أعظم من السماوات والأرض والجبال.
وقوله تعالى: {وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً} ، كقوله:{وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} .
وقوله تعالى: {وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} ، وهذا عام في بني أبيرق وفي غيرهم.
عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام، والصلاة، والصدقة» ؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «إصلاح ذات البين» ، قال:«وفساد ذات البين هي: الحالقة» . رواه أحمد وغيره.
وقال مجاهد في قوله: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} ، قال: من آلهة الباطل.
قال البغوي: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} أي: يخالفه، {مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} من التوحيد والحدود، {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} ، أي: غير طريق المؤمنين، {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} ، أي: نكله في الآخرة إلى ما تولى في الدنيا، {وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً}
قال ابن كثير: أي: إذا سلك هذه الطريق جازيناه على ذلك، بأن نحسنها في صدره ونزينها له استدراجًا له، كما قال تعالى:{فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} ، وقال تعالى:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} . انتهى. والله أعلم.
* * *