الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال قتادة في قوله: {إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} : ذكر الله أهل بيتين صالحين، ورجلين صالحين، ففضلهم على العالمين، فكان محمد من آل إبراهيم. وقال الحسن: فضلهم على العالمين بالنبوة على الناس كلهم، كانوا هم الأنبياء الأتقياء المصطفين لربهم.
وقوله تعالى: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ} ، أي: من ولد بعض، {وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} . قال قتادة: قوله: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ} يقول: في النية، والعمل، والإخلاص، والتوحيد له. وقال في جامع البيان:{ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ} ، أي: أنهم ذرية واحدة متشبعة بعضها من بعض. انتهى. ولا منافاة بين القولين.
قال ابن إسحاق: تزوج زكريا وعمران أختين، فكانت أم يحيى عند زكريا وكانت أم مريم عند عمران، فهلك عمران وأم مريم حامل بمريم،
فهي جنين في بطنها. قال: وكانت فيما يزعمون قد أمسك عنها الولد حتى أسنّت، وكانوا أهل بيت من الله جل ثناؤه بمكان، فبينا هي في ظل شجرة نظرت إلى طائر يطعم فرخ له، فتحركت نفسها للولد، فدعت الله أن يهب لها ولدًا فحملت بمريم، وهلك عمران، فلما عرفت أن في بطنها جنينًا جعلته لله نذيرة، والنذيرة: أن تعبده لله فتجعله حبسًا في الكنيسة، لا ينتفع به بشيء من أمور الدنيا. قال الشعبي في قوله:{إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} جعلته في الكنيسة وفرغته للعبادة. وقال الكلبي: قالت: اللهم لك عليّ إن رزقتني ولدًا أن أتصدق به على بيت المقدس، فيكون من سدنته وخدمته.
وقال الربيع: كانت امرأة عمران حررت لله ما في بطنها، وكانت على رجاء أن يهب لها غلامًا، لأن المرأة لا تستطيع ذلك - يعني: القيام على الكنيسة، لا تبرحها وتكنسها - لما يصيبها من الأذى. وقال السدي: ظنت أن ما في بطنها غلامًا فوهبته لله، فلما وضعت إذ هي جارية فقالت تعتذر إلى الله: رب إني وضعتها أنثى وليس الذكر كالأنثى. تقول: إنما يحرر الغلمان بقول الله {وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} ، فقالت: إني سميتها مريم. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «كل مولود من ولد آدم له طعنة من الشيطان وبها يستهل الصبي، إلا ما كان من مريم ابنة عمران وولدها، فإن أمها قالت حين وضعتها: إني أعيذها
…
بك وذريتها من الشيطان الرجيم، فضرب دونها حجاب فطعن في الحجاب» . رواه ابن جرير وغيره.
قال ابن جرير: قال الله عز وجل: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً} تقبل الله من أمها ما أرادت بها للكنيسة، وآجرَها فيها وأنبتها، قال: نبتت في غذاء الله. وقال السديّ: قال الله عز وجل: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً} ، فانطلقت بها أمها في خِرَقها حين ولدتها إلى المحراب وكان الذين يكتبون التوراةَ إذا جاءوا إليهم بإنسان يجرّبونه اقترعوا عليه أيهم يأخذه فيعلمه. وكان زكريا أفضلهم يومئذٍ وكان بينهم، وكانت خالة مريم تحته. فلما أتوا بها اقترعوا عليها، وقال لهم زكريا: أنا أحقكم بها، تحتي خالتها، فأبوا فخرجوا إلى نهر الأردنّ، فألقوا أقلامهم التي يكتبون بها أيهم يقوم قلمه فيكفلها. فجرت الأقلام، وقام قلم زكريا على قرنته كأنه في طين فأخذ الجارية. وذلك قول الله عز وجل:{وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} ، فجعلها زكريا معه في بيته، وهو: المحراب.
وقوله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً} ، قال الربيع: جعل زكريا دونها سبعة أبواب، فكان يدخل عليها فيجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء.
وقوله تعالى: {قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ إنَّ اللهَ يَرْزُقُ
مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ، أي: بغير إحصاء ولا عد، لأن فضله واسع خزائنه لا تغيض.
قال السدي: فلما رأى زكريا من حالها ذلك يعني: فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف قال: إن ربًا أعطاها هذا في غير حينه لقادر على أن يرزقني ذرية طيبة. ورغب في الولد، فقام فصلَّى، ثم دعا ربه سرًّا فقال:{رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} ، وقوله:{رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} وقال: {رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} . وقال عكرمة: فدخل المحراب وغلق الأبواب وناجى ربه فقال: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} إلى قوله: {رَبِّ رَضِيّاً}
…
{فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللهِ} الآية. قال قتادة: إنما سمي يحيى لأن الله أحياه بالإيمان.
وقوله تعالى: {مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللهِ} قال مجاهد: قالت امرأة زكريا: يا مريم إني أجد الذي في بطني يتحرك للذي في بطنك. قال: فوضعت امرأة زكريا يحيى، ومريم عيسى، ولذا قال:{مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللهِ} قال: يحيى مصدقًا
بعيسى. وقال الضحاك: كان يحيى أول من صدق بعيسى وشهد أنه كلمة من الله، وكان يحيى ابن خالة عيسى، وكان أكبر من عيسى.
وقوله تعالى: {وَسَيِّداً} ، قال قتادة: إي واللهِ، سيد في العبادة، والحلم، والعلم، والورع.
وقوله تعالى: {وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ} قال مجاهد: الحصور الذي لا يأتي النساء - قال بعض المفسرين: وفيه دليل على أن ترك النكاح كان أفضل في تلك الشريعة -.
وقال الشيخ ابن سعدي: {وَسَيِّداً} ، أي: عظيمًا عند الله وعند الخلق، لما جبله الله عليه من الأخلاق الحميدة والعلوم العظيمة والأعمال الصالحة {وَحَصُوراً} ، أي: ممنوعًا بعصمة الله وحفظه ووقايته، من مواقعة المعاصي، فوصفه الله بالتوفيق لجميع الخيرات والحماية من السيئات والزلات، وهذا غاية كمال العبد.
قال ابن كثير: فلما تحقق زكريا، عليه السلام، هذه البشارة أخذ يتعجب من وجود الولد منه بعد الكبر، قال:{رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ} ، أي: الملك {كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} ، أي: هكذا أمر الله عظيم، لا يعجزه شيء ولا يتعاظمه أمر. {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} أي: علامة
أستدل بها على وجود الولد مني {قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا} ، أي: إشارة لا تستطيع النطق، مع أنك سويٌ صحيح، كما في قوله:{ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} ، ثم أمر بكثرة الذكر والتكبير والتسبيح في هذه الحال، فقال تعالى:{وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإبْكَارِ} ) . انتهى. وقال الحسن في قوله: {قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزاً} قال: أمسك بلسانه، فجع يومئ بيده إلى قومه أن سبحوا بكرة وعشيًّا. والله أعلم.
* * *