الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال قتادة: أولئك أعداء الله النصارى، حملهم بغض اليهود على أن أعانوا بختنصر البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس. وقال ابن زيد: هؤلاء المشركون الذين حالوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم الحديبية، وبين أن يدخلوا مكة حتى نحر هديه بذي طوى وهادنهم، وقال لهم: ما كان أحد يصد عن هذا البيت، وقد كان الرجل يلقى قاتل أبيه وأخيه فلا يصده، فقالوا: لا يدخل علينا من قتل آباءنا يوم بدر وفينا باق.
وفي قوله: {وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} . قال: إذ قطعوا من يعمدها بذكره، ويأتيها للحج والعمرة. والآية عامة في كل من سعى في خراب المساجد بمنع العبادة فيها، أو بهدمها.
وقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلا خَآئِفِينَ} خبر معناه الطلب، أي: لا تمكنوا هؤلاء إذا قدرتم عليهم من دخولها إلا تحت الهدنة، أو الجزية {لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} ، قال: قتادة هي: القتل للحربي والجزية للذمي. {وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وهو: النار. وفي الدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة» . رواه أحمد.
قوله عز وجل: {وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) } .
قال ابن عباس: أول ما نسخ من القرآن - فيما ذكر لنا، والله أعلم -، شأن القبلة. قال الله تعالى:{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ} فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى نحو بيت المقدس، وترك البيت العتيق، ثم صرفه إلى بيته العتيق ونسخها. فقال: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ
…
شَطْرَهُ} ، وعن ابن عمر:(أنه كان يصلي حيث توجهت به راحلته ويذكر أن رسول صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك) ويتأول هذه الآية: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} . رواه مسلم وغيره، وهذا في التطوع. وعن ابن عباس قال: (خرج نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل تحويل القبلة إلى الكعبة، فأصابهم الضباب وحضرت الصلاة، فتحروا القبلة وصلّوا، فلما ذهب الضباب استبان لهم أنهم لم يصيبوا، فلما قدموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فنزلت هذه الآية.
وقوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} .
قال الكلبي: فثمَّ الله يعلم ويرى {إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} ، أي: واسع الرحمة، عليم بالأعمال والنيات، كما قالت الملائكة:{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .
يقول تعالى: {وَقَالُواْ} ، أي: اليهود والنصارى غيره من الكفرة {اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً} ، كما قال تعالى:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} .
وقوله تعالى: {سُبْحَانَهُ} ، أي: تعالى وتنزه وتقدس عن ذلك علوًا كبيرًا، {بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ملكًا وعبيدًا {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} . كما قال تعالى:{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً * وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً * إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} ، وقال تعالى:{وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«قال الله تعالى: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فيزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله: إن لي ولدًا، فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدًا» . رواه البخاري، وللترمذي: «وأما شتمه إياي
فقوله:
اتخذ الله، ولدًا، وأنا الله الأحد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد» .
وفي الصحيحين: «لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله يجعلون له ولدًا وهو يرزقهم ويعافيهم» .
وقوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ، أي: مبدعهما ومنشئهما من غير مثال سبق {وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} ، أي: إذا قدّر أمرًا وأراد كونه كان بكن، كما قال تعالى:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ، وقال تعالى:{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} .
قال ابن عباس: قال رافع بن حريملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد، إن كنت رسولاً من الله كما تقول، فقل لله فيكلمنا حتى نسمع كلامه، فأنزل الله في ذلك من قوله:{وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} ، وقال أبو العالية وغيره: هذا قول كفار العرب. {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ} . قال:
(هم اليهود والنصارى) . وقد قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوّاً كَبِيراً} .
وقوله تعالى: {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} ، أي: في الكفر والقسوة والعناد كما قال تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} .
وقوله تعالى: {قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} ، أي: قد أوضحنا الدلالات على صدق الرسل لمن أيقن وصدق، وأما من ختم الله على قلبه واتبع هواه، فلا تنفع فيه الموعظة. كما قال تعالى:{ِإنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ} .
قوله عز وجل: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119) } .
يقول تعالى: إنا أرسلناك (يا محمد) بالحق، أي: بالصدق {بَشِيراً وَنَذِيراً} أي: مبشرًا للمؤمنين بالجنة، ومنذرًا للعاصين، أي: مخوفهم من النار.
وقوله تعالى: {وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} ، أي: لا نسألك عن كفر، فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب.
قال ابن عباس: هذا في القبلة، وذلك أن يهود المدينة ونصارى نجران كانوا يرجون النبي صلى الله عليه وسلم حين كان يصلي إلى قبلتهم، فلما صرف
الله القبلة إلى الكعبة أيسوا منه في أن يوافقهم على دينهم فأنزل الله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ} إلا باليهودية، {وَلا النَّصَارَى} إلا بالنصرانية. والملة: الطريقة.
وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى} ، أي: إن هدى الله الذي بعثني به هو الدين الصحيح.
وقوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} فيه تهديد ووعيد شديد لمن اتبع طرائق اليهود والنصارى من هذه الأمة. قال ابن كثير: وقد استدل كثير من الفقهاء بقوله حتى تتبع ملتهم على أن الكفر كله ملة واحدة، فيرث كل منهم قريبه. والله أعلم. انتهى ملخصًا.
قال ابن مسعود: والذي نفسي بيده إن حق تلاوته أن يحل حلاله، ويحرم حرامه، ويقرأه كما أنزل الله، ولا يحرف الكلم عن مواضعه، ولا يتأول منه شيئًا على غير تأويله. وقال الحسن: يعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه.
وقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} ، أي: من أقام كتابه آمن بالقرآن، كما قال تعالى:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} .
وقوله تعالى: {وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} ، كما قال تعالى:{وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحدكم من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار» .
قد تقدم نظير هذه الآية في أول السورة، وكررت ها هنا للتأكيد والحث على إتباع الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، والتحذير من الحسد وكتمان العلم. وبالله التوفيق.
* * *