الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس: مَنْهَجُهُ في التوفيقِ والجمعِ بينَ الأحاديث التي ظَاهِرُهَا التَّعَارض
تَقَدَّمَتْ الإشارة - عند الكلام على "مختلف الحديث" - إلى كلام ابن القَيِّم رحمه الله ورأيه في الأحاديث التي ظاهرها التعارض، وذكرنا هناك جملة من المرجحات التي استعملها في الترجيح عند التعارض1.
وأنبه هنا على بعض المعالم الرئيسة لمنهج ابن القَيِّم في الجمع والتوفيق بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض، مع ذكر بعض الأمثلة من كلامه.
- فقد كان رحمه الله حريصاً على التأليف بين الأحاديث المتعارضة، ونفي التضادِّ عنها ما استطاع إلى ذلك سبيلا، مُقَرِّراً أن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم لا يَضْرِبُ بعضُهَا بعضاً، وإِنَّمَا تتفقُ وتتآلف.
- وبالرغم من أن التعارضَ لا يكون مُعْتَبَراً إلا بَين حديثين صحيحين، إلا أَنَّ ابن القَيِّم كان رُبَّمَا قَامَ بالجمع بين خبرين أحدهما ضعيف، أو لا يُقَاِوم الآخر في الصحة.
ويكون هذا - في الغالب - من باب التَنَزُّلِ منه، فيقررُ عدم صحة الْمُعَارِض، ثم يقول: بأنه على فرض ثبوته، أو على القول بتسليم صحته، فإن الجمع بينه وبين معارضه ممكن على نحو كذا وكذا، أو يجعل
1 انظر: (1/502 - 508) .
الجمع والتأويل معلقاً على ثبوته، فيقول مثلاً: إن صَحَّ الخبر فتأويله كذا، أو: وجهه كذا1.
ومن أمثلة الأحاديث التي قام بالتأليف والتوفيق بين ما ظَاهِرُهُ التعارض منها:
1-
أحاديث الإذن في الرُّقْيَة، كحديث عائشة رضي الله عنها:"أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرها أن تَسْتَرْقِي من العين". وحديث جابر رضي الله عنه: "رَخَّصَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لآل حزم في رقية الحَيَّة". وغير ذلك من الأحاديث.
وما جاء في النهي عن ذلك، كما في حديث جابر رضي الله عنه:"أَنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عن الرُّقَى".
قال ابن القَيِّم رحمه الله: "فهذا لا يعارضُ هذه الأحاديث؛ فَإِنَّه إنما نَهَى عن الرُّقى التي تتضمنُ الشِّرْكَ، وتعظيمَ غيرِ الله سبحانه، كغالبِ رُقَى أهل الشرك.
والدليل على هذا: ما رواه مسلم في (صحيحه) 2 من حديث عوف بن مالك الأشجعي قال: كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله، كيف ترى في ذلك؟ فقال:"اعرضوا عليَّ رُقَاكُم، لا بأسَ بالرُّقَى ما لم يكن فيه شرك"
…
1 انظر مثلا: تهذيب السنن: (5/ 361 -362)، والفروسية:(ص 101) .
(4/ 1727) ح64 (2200) ك السلام، باب لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك.
وهذا المسلك في هذه الأحاديث وأمثالِهَا: فيما يكون الْمَنْهِيُّ عنه نوعاً، والمأذون فيه نوعاً آخر، وكلاهما داخلٌ تحت اسمٍ واحدٍ، من تَفَطَّنَ له زال عنه اضطرابٌ كثيرٌ، يَظُنُّهُ من لم يُحِطْ عِلماً بحقيقة الْمَنْهِيِّ عنه من ذلك الجنس، والمأذون فيه: متعارضاً، ثم يسلكُ مسلك النسخ، أو تضعيف أحد الأحاديث"1.
2-
الأحاديث الواردة في أكل الْمُحْرِم لحمَ الصيد، وما جاء من المنع من ذلك.، قال رحمه الله:
قال رحمه الله: "فَحَيْثُ أَكَلَ: ُعُلِمَ أَنَّهُ لم يُصَدْ لأجلهِ، وحيث امتنع: عُلِمَ أنه صيد لأجله. فهذا فعله، وقوله في حديث جابر يدل على الأمرين، فلا تعارض بين أحاديثه صلى الله عليه وسلم بحال"2.
وحديث جابر الذي أشار إليه: هو ما أخرجه أبو داود في (سننه) 3 عن جابر رضي الله عنه مرفوعاً: "صَيْد البَرِّ لَكُم حلالٌ ما لم تصيدُوه، أو يُصَادُ لكم".
3-
حديث: "من كان له شَعْرٌ فليكرمه" وحديث: "النَّهْي عن التَّرَجُّلِ إلا غِبّاً".
قال ابن القَيِّم رحمه الله: "والصَّواب: أنه لا تعارض بينهما بحال، فإن العبدَ مأمورٌ بإكرامِ شعره، وَمَنْهِيٌّ عن المبالغةِ والزيادةِ في الرفاهية والتنعيم، فيكرم شعره ولا يتخذُ الرَّفَاهِية والتنعيم ديدنه، بل يترجل غباً.
1 تهذيب السنن: (5/ 367) .
2 تهذيب السنن: (2/ 365) .
(2/ 427) ح 1851 ك الحج، باب لحم الصيد للمحرم.
هذا أولى ما حمل عليه الحديثان، وبالله التوفيق"1.
إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة في هذا الباب2.
وبعدُ، فهذه أبرزُ المسائل المتعلقة بكلام ابن القَيِّم رحمه الله على الحديث: شرحاً، واستدلالاً، واستنباطاً، وجمعاً وتوجيهاً عند التعارض، وغير ذلك، مع بيان منهجه في كل مسألة من تلك المسائل، والله أعلم.
1 تهذيب السنن: (6/ 85) .
2 انظر منها: زاد المعاد: (1/208، 275 - 285)، إعلام الموقعين:(2/334 -335)، تهذيب السنن:(1/137- 138)، بدائع الفوائد:(2/ 222 - 223)، مفتاح دار السعادة:(2/ 264-269) .