الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: فِي بَيَانِ مَنْهَجِهِ فِي الْحُكْمِ عَلَى الحديث
لا شكَّ أَنَّ الحكم على الحديث، وبيان صحته من ضَعْفِه، وصدقه من كذبه، ليس مقصوداً لذاته، وإنما وراء ذلك غاية عظيمة، ألا وهي: أن يعبد الإنسان ربه على بصيرة وهدى، مُتَّبِعاً في ذلك ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، معرضاً عما سواه.
إذ لولا تسخيرُ الله لهؤلاء الأئمة الجهابذة النُّقَّاد - الذين مَيَّزُوا الصحيحَ من المعلول، والصدق من الكذب - لقال من شَاءَ فِي دِين الله مَا شاء، ولَعُبِدَاللهُ - سبحانه - بالأهواءِ والبدعِ، التي ما أنزل بها من سلطان، ولا جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولكن ينبغي أن يُرْجَعَ في معرفة ذلك إلى أئمة هذا الشأن وأربابه العارفين به، المشهود لهم بالتَّقَدُّمِ ورسوخِ القدم في الكشف عن خباياه، ومعرفة خفاياه.
وقد نَبَّهَ ابن القَيِّم رحمه الله إلى هذا المعنى، وأشار إليه، فقال - عند كلامه على حديث: "مَنْ عَشِقَ فَكَتَم
…
" -:
"والتحاكم في ذلك إلى أهلِ الحديث، لا إلى العارين الغرباء منه"1.
1 روضة المحبين: (ص 194) .
وقال في موضع آخر - عند كلامه على الحديث نفسه -:
"وكلامُ حفاظ الإسلام في إنكار هذا الحديث هو الميزان، وإليهم يرجعُ في هذا الشأن، وما صَحَّحَهُ - بل ولا حَسَّنَهُ - أحدٌ ممن يُعَوَّلُ في علم الحديث عليه، ويُرجع في التصحيح إليه"1.
وقد مضى ذِكْرُ كلامه رحمه الله في بيان أهمية الوقوف على الإسناد في الحكم على الحديث2؛ إذ عن طريق النظر في الإسناد يتمكن الناقدُ من كشف عِلَّةِ الحديث، ومعرفة صحته من ضعفه.
وقد قام ابن القَيِّم رحمه الله بهذه المهمة الجليلة - مهمة الحكم على الحديث وبيان درجته - خير قيام، فلا يكاد يخلو بحث من الأبحاث التي تَعَرَّضَ لها، ولا مناسبة من المناسبات التي تستدعي مناقشة أدلة الخصم، ولا موضوعٍ من الموضوعات التي نَذَرَ على نفسه أن يستوفي الكلام فيها، إلا وهو قائمٌ بهذه المهمة على أَتَمِّ الوجوه، فجمع بذلك: بين العلم بالحديث، والفقه فيه، ومعرفةِ عِلَلِهِ، وتمييز صحيحه من سقيمه.
بيان منهجه في الحُكْمِ على الحديث:
لسنا - ونحن بصدد الكلام عن ذلك - أمام كتاب واحد ينحصر فيه جهد ابن القَيِّم في هذا الباب، ولكننا أمام مقدار هائلٍ من المؤلفات في فنون مختلفة: من فقه، وحديث، وعقيدة، ولغة، وغير ذلك.
1 الجواب الكافي: (ص 367) .
2 انظر ص: (1/335 - 336) .
ومع هذا، فإنه يمكن تحديدُ المنهج العام لابن القَيِّم في الحكم على الحديث فيما يلي:
أولاً: أن ابن القَيِّم رحمه الله مع اهتمامه بالحكم على أكثر الأحاديث التي أوردها في كتبه، وعنايته بذلك عناية فائقةً، قد تَرَكَ جملةً كبيرةً من الأحاديث فلم يحكم عليها، مع إيراده بعضها مورد الاستدلال بها1، وستأتي بعد قليل إشارةٌ إلى بعض الأحوال والظروف التي يسكت فيها عن الأحاديث أو يَقِلُّ حكمه عليها.
ثانياً: قد يصرح ابن القَيِّم رحمه الله بعدم مَعرفَتِهِ بحال الحديث ودرجته من الصحة أو الضعف. فيقول مثلاً: "لا أعرف حال هذا الحديث"2. ويقول: "والله أعلم بحال هذين الحديثين"3. ويقول: "وَرَدَ
…
في حديث لا نعلم صِحَّتَهُ"4. إلى غير ذلك من الأمثلة5. وهذا من كمال تواضعه، وتمام نصحه، وعلو شأنه رحمه الله تعالى.
ثالثاً: تفاوت أحكامه - قلة وكثرة - بحسب موضوع الكتاب؛ فبينما يكثرُ من الحكمِ على الحديث، وبيان درجته في الكتب والمباحث التي
1 وقد جمعت الأحاديث التي سكت عليها ابن القَيِّم رحمه الله في كتبه فبلغت شيئاً كثيراً.
2 زاد المعاد: (5/ 796) - وانظر: أحكام أهل الذمة: (2/ 449) .
3 زاد المعاد: (4/ 348) .
4 زاد المعاد: (4/ 395) .
5 انظر منها: زاد المعاد: (1/ 141، 177) ، (4/ 31، 228) .
تُعنى بالأحكام الفقهية، والتوحيد والعقيدة، وما شابه ذلك من المباحث التي تتعلق بالحلال والحرام، نجد أن حكمه على الحديث والكلام عليه يقلُّ في الكتب والمباحث التي تتناول: الزهد والرقائق، والترغيب والترهيب، والفوائد العامة ونحو ذلك.
فبينما نجد كتباً مثل: (زاد المعاد) و (تهذيب السنن) و (الصلاة) و (جلاء الأفهام) و (اجتماع الجيوش الإسلامية) ، و (إعلام الموقعين) تمتلأُ بتلك الأحكام الحديثية، وبيانُ علل كثير من الأحاديث، وصحيحها من ضعيفها، فإن كتباً أخرى، مثل:(بدائع الفوائد) و (الجواب الكافي) و (مدارج السالكين) ، و (روضة المحبين) وأمثالها تَقِلُّ فيها هذه الأحكام بالنسبة لسابقتها.
وليس هذا من باب الإهمال والإغفال، أو قِلَّةِ العناية، وإنما هذا ما تقتضيه ظروف البحث في الغالب؛ فابن القَيِّم حينما يواجه خصوماً ومخالفين فيما يتعلق بأحكام الدين، يتطلب الأمر مزيداً من الجهد في بيان ضعف أدلتهم، وفي المقابل تقرير صِحَّة ما يستند إليه، أو رَدِّ الطعن الموجه إليه. في حين أنه لا يكون محتاجاً إلى كل هذا الجهد وهو يتحدث عن: أمراض القلوب وأدوائها، وتشخيص الدواء الناجع لعلاجها، وأنواع المحبة وأقسامها، وتفسير بعض الآيات وبيان بعض أسرارها، وشرحِ بعض الألفاظ اللغوية وبيان إعرابها، إلى غير ذلك من البحوث والمؤلفات التي هذا حالها.
رابعاً: ثبات أحكامه الحديثية وعدم تغيرها؛ فإن ابن القيم قد يتناول الحديث الواحدَ بالكلام في أكثر من كتاب من كتبه، ومع ذلك: نجد أَنَّ حُكْمَهُ على الحديثِ، وطريقةَ معالجته له - تصحيحاً أو تضعيفاً - لا يكادُ يختلفُ من موضعٍ لآخر في الكثير الغالب، وَإِن وَقَعَ خلاف ذلك، فإنَّه يكون نادراً جداً.
وهذا - بلا شك - يؤكد حقيقة مهمة، وهي: الاستقرار والثبات في أحكام ابن القَيِّم الحديثية، وعدم التناقض والتضارب، بحيث يقل - بل يندر - وقوع اضطراب في أحكامه على الحديث الواحد.
ومن أمثلة ذلك:
- حديث: "مَنْ عَشِقَ وَكَتَمَ وَعَفَّ وَصَبَرَ
…
". فقد تناوله ابن القَيِّم رحمه الله في كتبه: (الجواب الكافي) 1، و (روضة المحبين) 2، و (زاد المعاد)3. وَجَاءَ كَلامُهُ في الحكم عليه، وبيان علته، وإثباتِ بطلانه، جاء كلامه في ذلك متفقاً - إلى حَدٍّ كبير - في هذه المواضع الثلاثة.
ومن الأمثلة على ذلك أيضاً:
- حديث "لَعَنَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ له". فقد عالجه بالطريقة نفسها في: (إغاثة اللهفان) 4، و (زاد المعاد) 5، و (إعلام الموقعين)6.
1 ص: (367) .
(ص 193- 194) .
(4/275- 278) .
(1/270) .
(5/109) .
(3/44) .
- وحديث أبي مالك الأشعري "في ذَمِّ الغِنَاء والملاهِي". فقد تَكَلَّم عليه في: (إغاثة اللهفان) 1، و (تهذيب السنن) 2 و (روضة المحبين) 3، و (الكلام على مسألة السماع)4.
- وحديث: "أَفْطَر الحاجمُ والمحجوم". فقد ذكره وحكم عليه وَتَوَسَّعَ فيه في: (زاد المعاد) 5، و (تهذيب السنن)6.
- وحديث تلقين الميت بعد دفنه. تكلم عليه في: (زاد المعاد) 7، و (الروح) 8، و (تحفة المودود)9.
إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة التي تكرر فيها حكمُ ابن القَيِّم على الحديث الواحد في مواضع شَتَّى، مع اتِّسَاق كلامه وتوافقه، وعدم اختلاف حكمه.
خامساً: اختلاف عبارات ابن القيم في الحكم على الحديث وتنوعها؛ فلم تكن الأحكام الحديثية التي صَدَرَتْ عن ابن القَيِّم رحمه الله على شَاكِلَةٍ واحدة، وَإِنَّمَا اختلفت عباراته وأحكامه: طولاً وقصراً، وإجمالاً وتفصيلاً.
(1/258- 263) .
(5/270- 272) .
(ص147- 148) .
(ص 410، 472) .
(3/502) .
(3/243- 257) .
(1/522- 523) .
(ص 16) .
(ص 149) .
فبينما نجده رحمه الله يحكمُ على حديث بكلمةٍ واحدةٍ أو كلمتين أو أكثر، نجده في حديث آخر يُسَطِّرُ أوراقاً كثيرةً في الكلام على هذا الحديث، وبيان ما فيه، وتقرير صحته أو ضعفه.
ولا شَكَّ أن هذا التفاوتَ والتباينَ خاضع للظروف والأحوال الخاصة بكل حديث:
- فيطيلُ مثلاً في تقرير صحة الحديث وإثباته: إذا كان مما طُعِنَ فيه بما يرى أنه كلام لا يثبتُ مثله في ميزان النقد، فيقوم بَرَدِّ هذه العلل والجواب عنها، وإثبات صِحَّة الحديث أو حسنه.
- وكذا يطيل في بيان ضعف الحديث، وسردِ علله وتفصيلها: حين يجدُ أن هذا الحديث يعارضُ ما يرى أنه أَصَحُّ منه وأثبت، فيبالغ حينئذٍ في إثباتِ الصحيح، ورد ما يعارضه مما يكون معلولاً.
أما الأحاديث التي يكون الحكم عليها مُسَلَّمَاً لا نزاع فيه، فإنَّ ابن القَيِّم رحمه الله يطلق حكمه عليها في إيجاز واختصار.
- وأيضاً: فإنه يطيلُ النَّفَس، ويوسع الكلام على الأحاديث المتعلقة بالعقيدة والأحكام، بخلاف الأحاديث التي ليست كذلك، فإنَّ الحكم عليها غالباً ما يكون مقتضباً.
- وأيضاً: فإنَّه قد يختصرُ الكلامَ على الحديث في موضع، اعتماداً على أنه قد فَصَّلَ الكلام عليه في موضع آخر من كتبه، أو من الكتاب نفسه، وقد يُنَبِّهُ - في مثل ذلك - في موضع الاختصار على موضع البسط ويشير إليه، ومن أمثلة ذلك:
أنه عند كلامه على حديث: "نومه صلى الله عليه وسلم جُنُبَاً دون أن يَمَسَّ ماءً". قال في كتابه (زاد المعاد) 1: "وهو غلط عند أئمة الحديث، وقد أشبعنا الكلامَ عليه في كتاب تهذيب سنن أبي داود
…
"2.
سادساً: في كثير من الأحيان ينقل ابن القَيِّم أقوال الأئمة في الحكم على الحديث: تأييداً لحكمه، وتأكيداً لاختياره، فمن ذلك:
- قوله في حديث "قَدْ أَفْطَرَ" - يعني: الذي قَبَّلَ وهو صائم - قال: "فلا يصحُّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
وقال الدارقطني
…
: لا يثبت هذا. وقال البخاري: هذا لا أُحَدِّثُ به، هذا حديث منكر"3.
- وقال في حديث جابر رضي الله عنه في استثناء كلب الصيد مما نُهِيَ عن ثمنه: "لا يصحُّ عن النبي صلى الله عليه وسلم استثناء كلبِ الصيد بوجهٍ، أمَّا حديث جابر: فقال الإمام أحمد - وقد سئل عنه -: هذا من الحسن بن أبي جعفر، وهو ضعيف. وقال الدارقطني: الصواب أنه موقوف على جابر. وقال الترمذي: لا يصحُّ إسناد هذا الحديث"4.
- وقال في حديث: "مَنْ دَخَلَ السُّوق فَقَال: لا إله إلا الله
…
": "فهذا الحديث معلول أعله أئمة الحديث
…
قال الترمذي: هذا حديث غريب
…
وقد روي من طريق: عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، لكنه
(1/154) .
2 انظره: (1/154-155) .
3 زاد المعاد (2/58) .
4 زاد المعاد: (5/770) .
معلول أيضاً". ثم نقل عن أبي زرعة وأبي حاتم قولهما: "هذا حديث منكر". وعن ابن أبي حاتم قوله: "هذا الحديث خطأُُ"1.
إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة في هذا الجانب.
سابعاً: قد لا يصرح ابن القَيِّم رحمه الله برأيه واختياره في الحكم على الحديث، بل يكتفي بعرض آراء المصححين والمضعفين لهذا الحديث، وأجوبة كُلِّ فريق عن الآخر، دون أن يَنُصَّ صراحة على حكمه واختياره في هذا الحديث.
وفي مثل ذلك ندرك رأى ابن القَيِّم رحمه الله ببعض القرائن التي تظهر من خلال كلامه، أو بحكمه على الحديث نفسه في موضع آخر.
- ومن أمثلة ذلك: "حديث القلتين"2.فقد أَخَذَ ابن القَيِّم رحمه الله في عرض آراء المصححين له، معبراً عنهم بقوله: "قال المحددون"، ثم عَرَضَ أجوبة المضعفين للحديث، معبراً عنهم بقوله: "قال المانعون من التحديد بالقلتين". لكن دلت عباراته - فيما بعد - على أنه لا يرى التحديد بالقلتين، فَفُهِمَ أنه مع من يضعفون هذا الحديث.
- ومن ذلك أيضاً: كلامه على حديث "الأوعال". فقد عرض رأى من رَدَّهُ وحججهم، ثم قال: "قال المثبتون
…
". ثم ساق رأى من صححه، وَرَدَّهم على مضعفيه، وقد فُهِمَ أخذه بتصحيح هذا الحديث من
1 المنار المنيف: (ص 41-42) .
2 تهذيب السنن: (1/56-74) .
بعض كلامه، كقوله في الردِّ على من ضعفه بالوليد بن أبي ثور:"فأيُّ ذنب للوليد في هذا؟ وأي تعلق عليه؟ وإنما ذنبه: روايته ما يخالف قول الجهمية، وهي علته المؤثرة عندهم"1.
وهذا ظاهرٌ في إثباته الحديث، وذلك من رَدِّهِ على الجهمية نفاة الصفات.
ثم جاء تصحيحه له صريحاً في مواضع أخرى؛ فإنه قال في (اجتماع الجيوش) 2: "حديث حسن صحيح". وقال في موضع آخر: "رواه أبو داود بإسناد جيد"3.
فالمقصود: أن ابن القَيِّم رحمه الله حين لا يُصَرِّح برأيهِ في الحكم على الحديث، ولا ينصُّ على ذلك، فإنَّ النَّاظِرَ في كلامه عليه مراعاة أمرين:
- الأول: التَّنَبُّهُ لبعض القرائن الموجودةِ في كلامهِ، مما يُعِينُ على معرفةِ اختياره.
- الثاني: البحثُ في كُتُبِهِ الأخرى عن كلام له حول الحديث نفسه، فقد يُحْكَمُ عليه هناك.
ثامناً: قد يَكْتَفِي ابن القَيِّم بتصدير الحديث بلفظةٍ تفيدُ صِحَّتَهُ أو ضعفه، دون إصدار حكمٍ صريح عليه.
1 تهذيب السنن: (7/93) .
(ص 93) .
3 مختصر الصواعق: (2/ 356) .
- فمن ذلك: استعماله كلمة: (ثَبَتَ) في التعبير عن صحة الحديث، وقد تَبَيَّنَ لي بالتتبع أنه يستعملها - في الكثير الغالب - في الحديثِ الذي خُرِّجَ في (الصحيحين) أو أحدهما1.
وربَّمَا ضَمَّ إلى هذه الكلمة التصريح بكونه في (الصحيحين)، فيقول: "وثبت عنه في الصحيحين
…
"2.
- وقد تَرِدُ هذه الكلمة عنده مقرونةً ببيان صِحَّةِ الحديثِ، كقوله: "ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث بهز بن حكيم
…
أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلاً في تهمة". ثم قال: "قال أحمد، وعلى بن المديني: هذا إسناد صحيح"3.
- ومن الألفاظِ التي استعملها في هذا الصدد أيضاً: (صِيَغُ التمريض) للتعبير عن ضَعْفِ الحديث، فقد أَكْثَرَ من استعمال كلمة:(يُذْكَر) 4، وكلمة:(رُوِيَ) 5 مقتصراً على ذلك في التعبير عن ضَعْفِ الحديث.
- وقد ينص - مع ذلك - على ضعف الحديث، إضافة إلى تصديره بصيغة التمريض، فمن ذلك:
1 انظر مثلاً: زاد المعاد: (1/285) ، (2/334، 335، 384، 387) .
2 زاد المعاد: (2/383) .
3 زاد المعاد: (5/ 5) .
4 انظر مثلاً: زاد المعاد: (2/370، 375، 376، 383، 393، 401، 404، 415، 440، 456) ، (3/125) ، (4/148، 156، 165، 212) .
5 انظر مثلاً: زاد المعاد: (2/77، 406، 466)، والوابل الصيب:(ص27)، والكلام على مسألة السماع:(ص199، 112) .
قوله: "ويُذْكَرُ عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول عند فطره: "اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت
…
" ولا يثبت"1.
وقوله: "ويُذْكَر عنه: "من خيرِ خصالِ الصَّائمِ السواك"، رواه ابن ماجه من حديث مجالد، وفيه ضَعْفٌ"2.
وقوله: "ويُذْكَر عنه: "أنه كان يُكَبِّر من صلاة الفجرِ يوم عرفة إلى العصر من أيام التشريق، فيقول: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر ولله الحمد"، وهذا وإن كان لا يصحُّ إسنادُهُ، فالعمل عليه"3.
وقال: "وقد رُوِيَ عنه صلى الله عليه وسلم "أنه كان يُسَلِّمُ تسليمةً واحدةً تلقاءَ وجهه"، ولكن لم يثبت عنه ذلك من وجه صحيح"4.
وقال: "وقد رُوِيَ عنه: "أنه صلى على معاوية بن معاوية الليثي وهو غائب"، ولكن لا يصح
…
"5.
وقال: "وقد رُوِيَ عنه صلى الله عليه وسلم: "أنه كان يصوم السبت والأحد كثيراً، يقصد بذلك مخالفة اليهود والنصارى
…
" وفي صحة هذا الحديث نظر"6.
1 زاد المعاد: (2/51) .
2 زاد المعاد: (2/63) .
3 زاد المعاد: (2/ 395) .
4 زاد المعاد: (1/ 259) .
5 زاد المعاد: (1/520) .
6 زاد المعاد: (2/78) .
فهذه بعضُ الأمثلة لما استعمله ابن القَيِّم رحمه الله من ألفاظ للدلالة على درجة الحديث: إما مكتفياً بهذه الألفاظ وحدها، أو ضَامًّا إليها التصريح بصحة الحديث أو ضعفه.
تاسعاً: قد يلجأ ابن القَيِّم رحمه الله إلى بعض الأساليبِ لِتَأكيدِ الحًُكْمِ الذي أصدره على الحديث.
ومن أبرز الأساليب التي استعملها في ذلك: الحلف على ثبوت الحديث أو عدمه، فيستعمل رحمه الله أقوى المؤكدات في إثبات الحكم الذي توصل إليه وارتضاه في الحديث.
وكان أكثرُ استعماله لهذه الطريقة في الأحاديث التي لم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو التي وقع فيها غلط ووهم، فمن ذلك:
- قوله في حديث أبي هريرة: في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته، فقال:"يفرق بينهما": "منكر لا يحتمل أن يكون عن النبي صلى الله عليه وسلم أصلاً
…
فوالله ما قال هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا سمعه أبو هريرة، ولا حدث به"1.
- وقال في حديث عمر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في المطلقة ثلاثاً "أن لها السكنى والنفقة":
"فنحن نشهدُ بالله شهادةً نُسْأَلُ عنها إذا لقيناه: أن هذا كذبٌ على
1 زاد المعاد: (5/520-521) .
عمر رضي الله عنه، وكذبٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم"1.
- وقال في حديث معاوية رضي الله عنه، أنه قَصَّرَ عن رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في أيام العشر:"فنحن نحلف بالله: أن هذا ما كان في العشر قط"2.
فهذه بعضُ الأمثلة للأحكام الحديثية التي حَلَفَ عليها ابن القَيِّم رحمه الله، وهي تَدُلُّ على تَمَكُّنِه في هذا الباب، وسعةِ اطِّلاعِهِ عَلَى الْمَرْوِيَّات، والقدرة على تَمْييزِ صحيحها من سقيمها، وصَوَابها من غلطها، بحيث يُمْكِنُهُ - بكل ثقة - أن يجزم بحكمه، حالفاً بالله تعالى، ومشهداً إِيَّاه على حكمه.
عاشراً: قد يحكمُ على الحديث من خلال النَّظر إلى مَتْنِه، دون دراسة إسناده والنظرِ في حالِ رواته.
وقد سبق - عند الكلام على "الحديث الموضوع" - بيانُ الضوابطِ التي وضعها رحمه الله لمعرفةِ كونِ الحديثِ موضوعاً دون النظر في إسناده3، فإنَّ مَا أَودعه في كتابه (المنار المنيف) من ذلك يُمَثِّل منهجاً متكاملاً لنقد المتن والحكم عليه بِمَعْزِل عن إسناده.
ولم تكن تجربةُ ابن القَيِّم في نقد المتن محصورةً في هذا الكتاب
1 زاد المعاد: (5/539) .
2 زاد المعاد: (2/137) .
3 انظر ص: (1/460 - 469) .
وحده، بل إنه قد انتهج ذلك في سائر كتبه وأبحاثه، كما يُشَاهد ذلك كُلُّ مَنْ طَالَعَ كتاباته.
من المعايير التي استعملها لنقد المتن في غير كتابه (المنار) :
1-
استدلاله على بطلانِ الْمَتْنِ بكونه مما يَسْتحِيلُ وقُوعُه عَقْلاً:
- ففي قصة قدوم وفد هَمْدَان على النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان من إسلامهم، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم بقتال ثقيف، قال ابن القَيِّم رحمه الله منتقداً هذا المتن:"ولم تكن همدان أن تقاتلَ ثقيفاً، ولا تُغِير على سرحهم؛ فإنَّ هَمْدَان باليمن، وثقيفاً بالطائف"1.
- وفي قصة قدوم النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك، وخروجِ النساء والصبيان لِتَلَقِّيهِ وهم ينشدون:
طَلَعَ البَدْرُ عَلَينَا
…
مِنْ ثَنِيَّاتِ الوَدَاعِ
قال ابن القَيِّم: "وبعض الرواة يَهِمُ في هذا ويقول: إنما كان ذلك عند مقدمه إلى المدينة من مكة، وهو وَهْمٌ ظاهرٌ؛لأن ثَنِيَّات الوداع إنما هي من ناحية الشام، لا يراها القادمُ من مكة إلى المدينة، ولا يَمُرُّ بها إلا إذا تَوَجَّهَ إلى الشام"2.
فاستدلَّ رحمه الله على بطلانِ وغلطِ هذين الحديثين: باستحالة حصول ما تَضَمَّنَاه عقلاً.
1 زاد المعاد: (3/623) .
2 زاد المعاد: (3/551) .
2-
استدلاله على بطلان المتن بكونه مما يستحيل وقوعه زمنياً:
- ففي حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "جاءت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: نأكلُ مما قَتَلَ الله؟ فأنزل الله: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ} [الأنعام: 121] ".، قال ابن القَيِّم رحمه الله في إعلال هذا الحديث من جهة متنه:"إنَّ سورة الأنعام مَكِّيَّة باتفاق، ومجيءُ اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومجادلتهم إياه إنما كان بعد قدومه المدينة، وأما بمكة فَإِنَّمَا كان جدالُهُ مع المشركين عُبَّاد الأصنام"1.
- وفي حديث الترمذي: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مكة يوم الفتح وعبد الله بن رواحة بين يديه ينشد
…
". قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وهذا وَهْمٌ؛ فإنَّ ابن رواحة قُتِلَ في هذه الغزوة - يعني مؤتة - وهي قبل الفتح بأربعة أشهر، وإنما كان يُنْشَدُ بين يديه شِعْرُ ابن رواحة، وهذا مما لا خلاف فيه بين أهل النقل"2.
3-
استدلالُهُ على بطلان المتن بكونه قد وَقَعَ مِثْلُهُ ولم يأخذْ حُكْمَهُ:
- فاستدل رحمه الله على استحالة أن يكون كُلٌّ من: هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع من أهل بدر: بأن النبي صلى الله عليه وسلم هَجَرَهُمَا، ولو كانا من أهل بدر ما فَعَلَ ذلك معهما؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يَهْجُر حَاطِباً وقد جَسَّ عليه3.
1 تهذيب السنن: (4/113) .
2 زاد المعاد: (3/386) .
3 زاد المعاد: (3/577) .
فهذه بعض الأساليب التي اعتمدها ابن القَيِّم في نقد المتن والاستدلال على غلطه، دون النظر إلى إسناده.
حادي عشر: رُبَّمَا استعمل ابن القَيِّم رحمه الله في حكمه على الأحاديث بعض العبارات التي تفيدُ التصحيح النسبي، كقوله في حديث:"هذا أصحُّ من كذا". أو: "أَمْثَل منه"، ونحو ذلك.
وقد مضى معنا في مبحث الحديث الصحيح نقل ضوابط مهمة عن ابن القَيِّم في ذلك، وأن هذا لا يلزم منه أن يكون هذا الْمُقَدَّمُ على غيره صحيحاً، بل يكون ضعيفاً ويقال له:"أصحُّ من غيره"، وذلك بالنسبة لهذا الغير1.
وَتَقَدَّمَ - أيضاً - عند الكلام على منهجه في (المنار المنيف) نقل بعض أمثلة من ذلك، وأن أحاديث البابِ قد تكونُ كُلها ضعيفة أو باطلة، ومع ذلك فإنه يذكر أمثلها أو أحسنها ولا يعني ذلك – أبداً- صحة هذا المقدم2.
ومن أمثلة ذلك أيضاً: أنه ذَكَرَ حديثين في الوتر، وَحَكَمَ ببطلانهما، وهما: حديث "نَهَى عن البُتَيْرَاء"، وحديث:"وترُ الليل ثلاثٌ كوتر النهار صلاة المغرب". ثُمَّ قال في الثاني منهما: "وهذا الحديث
…
أصحُّ من الأول"3. هذا مع حكمه ببطلانهما.
1 انظر ص: (1/374 – 375) .
2 انظر ص: (1/305 – 306) .
3 إعلام الموقعين: (2/373-374) .
وبعدُ، فهذا مَا تَيَسَّرَ التَنْبِيه عليه حول منهج ابن القَيِّم رحمه الله في الحكم على الحديث وبيان درجته، ويمكنُ مراجعة المزيد من أحكامه الحديثية وأمثلة لها فيما تَقَدَّمَ ذكره عند الكلام على آرائه في علوم الحديث وقواعده، وكذا فيما يأتي في باب دراسة الأحاديث التي حَكَمَ عليها إن شاء الله.