الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2- باب ما يقال من الدعاء في افتتاح الصلاة
17-
(2)"سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ، ولا إِلَهَ غَيْرُكَ".
ذكر ابن القَيِّم هذا الحديث مُصَدِّراً إيَّاه بصيغة التمريض "رُوِيَ"، ثم قال: "ذكر ذلك أهل السنن من حديث: علي بن علي الرفاعي، عن أبي المتوكل الناجي، عن أبي سعيد.
على أنه رُبَّمَا أُرْسِلَ. وقد رُوِيَ مثله من حديث عائشة رضي الله عنها، والأحاديث التي قبله أثبت منه1، ولكن صحَّ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يستفتح به في مقام النبي صلى الله عليه وسلم ويجهر به، ويُعَلِّمُهُ الناس"2.
وقال مرةً: "اختار أحمد حديث عمر في الاستفتاح، وقد روى أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس بصحيح؛ لأن رواية علي بن علي الرفاعي3، عن أبي المتوكل الناجي، عن أبي سعيد، وقد قال الإمام أحمد: وعلي بن علي لا يُعْبَأُ به
…
"4.
1 يشير رحمه الله إلى الأحاديث التي ذكرها قبل هذا في استفتاح الصلاة. انظر: (زاد المعاد 1/202 - 204) .
2 زاد المعاد: (1/204 - 205) .
3 بدائع الفوائد: (4/91) .
4 كذا وقعت العبارة في (البدائع) وأراها غير سليمة؛ ولعل صوابها - والله أعلم -: "وقد روى أبو سعيد مثله
…
وليس بصحيح؛ لأنه من رواية علي
…
".
قلت: حديث أبي سعيد هذا أخرجه: أصحاب السنن الأربعة1 وأحمد والدارمي في (مسنديهما) 2، وعبد الرزاق في (مصنفه) 3، وابن خزيمة في (صحيحه) 4، والدارقطني في (سننه) 5، والطبراني في (الدعاء) 6، كلهم من طريق:
جعفر بن سليمان7، عن علي بن علي8 الرفاعي، عن أبي المتوكل الناجي9، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام
1 د: (1/490) ح 775، باب من رأى الاستفتاح بسبحانك اللهم وبحمدك، ت:(2/9) ح 242، باب ما يقول عند افتتاح الصلاة، س:(2/132) في الذكر بين الافتتاح وبين القراءة، جه:(1/264) ح 804، باب افتتاح الصلاة. وهو عند أبي داود والترمذي في ك الصلاة، وعند النسائي في ك الافتتاح، أما ابن ماجه ففي ك إقامة الصلاة.
2 حم: (3/50)، مي:(1/226) ح 1242، ك الصلاة، باب ما يُقال بعد افتتاح الصلاة.
(2/75) ح 2254.
(2/238) ح 467.
(1/298) ح 4.
(2/1032) ح 501.
7 الضّبعي، أبو سليمان البصري، صَدُوق زَاهِد لكنه كان يَتَشَيَّع، من الثامنة، مات سنة 178هـ/ بخ م 4. (التقريب 140) .
8 ابن نجاد، اليشكري، أبو إسماعيل البصري، لا بأس به، رُمِيَ بالقدر وكان عابداً، من السابعة/ بخ 4. (التقريب 404) .
9 علي بن داود - ويقال: داؤد - البصري، مشهور بكنيته، ثقة، من الثامنة، مات سنة 108هـ وقيل قبل ذلك/ ع. (التقريب 401) .
من الليل كَبَّر، ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك وتعالى جدُّكَ، ولا إله غيرك " ثم يقول:" لا إله إلا الله" ثلاثاً، ثم يقول:" الله أكبر كبيراً" ثلاثاً، "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من هَمْزِه وَنَفْخِهِ ونَفْثِهِ" ثم يقرأ.
هذا سياق أبي داود، وهو كذلك عند أحمد، وابن خزيمة، وعبد الرزاق، إلا أن عند بعضهم اختلافاً يسيراً. ولفظ الترمذي، والدارمي مثلهم، ما عدا قوله:"ثم يقول: لا إله إلا الله" ثلاثاً. أما النسائي، وابن ماجه، والطبراني: فهو عندهم مختصر، ولفظه:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة قال: سبحانك الله وبحمدك، وتبارك اسمك وتعالى جدك، ولا إله غيرك".
وحاصل ما ذكره ابن القَيِّم في إعلال هذا الحديث ما يلي:
أولاً: أنه رُبَّما رُوِيَ مرسلاً. وقد سبقه إلى ذلك أبو داود رحمه الله فقال عقب إخراجه: "وهذا الحديث يقولون: هو عن علي بن علي، عن الحسن مرسلاً الوهم من جعفر".
ثانياً: أنه من رواية علي بن علي الرفاعي، وهو مُتَكَلَّمٌ فيه، قال الترمذي:"وقد تُكُلِّمَ في إسناد حديث أبي سعيد، كان يحيى بن سعيد يتكلم في علي بن علي الرفاعي، وقال أحمد: لا يَصِحُّ هذا الحديث".
والجواب عن ذلك:
- أما القول بأنه يُروى مرسلاً: فلم أجد من ذكر هذه العلة إلا أبا داود، ومع ذلك فإنه لم يجزم بها، بل قال: "يقولون
…
"، وكذا ابن القَيِّم، فإنه قال: "على أنه ربما أُرْسِلَ".
- وأما كون "علي بن علي الرفاعي" متكلماً فيه: فقد قال الشيخ الألباني1:"وعليٌّ هذا وإن تَكَلَّمَ فيه يحيى بن سعيد، فقد وَثَّقَه يحيى بن معين، ووكيع، وأبو زرعة، وقال شعبة: اذهبوا بنا إلى سيدنا وابن سيدنا علي بن علي الرفاعي. وقال أحمد: لم يكن به بأس إلا أنه رَفَعَ أحاديث"2. قال الشيخ الألباني - معقباً على مقالة الإمام أحمد -: "وهذا لا يوجب إهدار حديثه، بل يُحتجُّ به حتى يظهر خطؤه، وهنا ما روى شيئاً منكراً، بل تُوبِع عليه كما سبق"3. يشير الشيخ إلى حديث عائشة، وسيأتي.
قلت: فَتَبَيَّنَ من ذلك أن ما أُعِلَّ به هذا الحديث ليس بشيء، وأن الحديث بهذا الإسناد لا يقل عن رتبة الحسن؛ ولذلك جعله الإمام البغوي في قسم الحسن من (مصابيحه) 4 وبهذا حَكَمَ عليه الحافظ
1 إرواء الغليل: (2/51 - 52) .
2 انظر: أقوال العلماء فيه في (تهذيب التهريب: 7/366) .
3 إرواء الغليل: (2/52) .
4 كما في مشكاة المصابيح: (1/258) ح رقم 816.
ابن حجر1رحمه الله. وكذا حسَّنَهُ الشيخ الألباني رحمه الله، فقال - عقب نقل الترمذي تضعيف على الرفاعي، وأن أحمد لم يصحح الحديث -:"ولعلَّ هذا لا ينفي أن يكون حسناً؛ فإن رجاله كلهم ثقات"2. وصححه الشيخ أحمد شاكر3.
ولما ضَعَّفَ ابن خزيمة الأحاديث الواردة في ذلك قال: "وأحسن إسناد نعلمه رُوِيَ في هذا: خبر أبي المتوكل، عن أبي سعيد"4.
قلت: ففيه أن هذا الحديث وإن تُكُلِّمَ فيه، فإن أمره مُحْتَمَلٌ، وأنه قابلٌ للتَّقَوِّي بغيره، وسيأتي له شواهد، منها ما أشار إليه ابن القَيِّم رحمه الله بقوله:"وقد رُوِيَ مثله من حديث عائشة رضي الله عنها"5.
وقد رُوِيَ حديث عائشة هذا من طرق لا تخلو جميعها من ضعف، لكن بانضمامها تصل إلى درجة الحسن كما حكم بذلك الشيخ الألباني.
1 نتائج الأفكار: (1/402) .
2 الإرواء: (2/51) .
3 حاشية جامع الترمذي: (2/11) .
4 صحيح ابن خزيمة: (1/238) .
5 زاد المعاد: (1/204) .
فإذا انضمَّ حديث عائشة هذا بطرقه إلى حديث أبي سعيد الْمُتَقَدِّم، ازداد الحديث قوةً وتماسك، وقد يصل بذلك إلى رتبة الصحيح، كما قال الشيخ الألباني رحمه الله1.
فالحاصل: أن ابن القَيِّم رحمه الله ذهب إلى تضعيف حديث أبي سعيد، فَصَدَّره بصيغة التمريض:"رُوِيَ"، ثم أَعَلَّهُ بأنه يُروى مرسلاً، ثم صَرَّح بضعفه فقال "ليس بصحيح؛ لأنه من رواية علي بن علي الرفاعي".
ثم أشار رحمه الله إلى أنه قد رُوِيَ مثله من حديث عائشة رضي الله عنها، وكأنه يضعفه أيضاً؛ حيث صَدَّرَه بقوله: "وقد رُوي مثله
…
" كذا بصيغة التمريض.
وقد ظهر لي من هذه الدراسة: أن الحديث يصل بمجموع طرقه إلى درجة الحسن على أقل تقدير، وأنَّ من ضَعَّفَه لم يُقِمْ على ذلك دليلاً ظاهراً، ولا بينة قوية.
غير أنني أعود فأقول: كأن ابن القَيِّم رحمه الله لا يريد أن الحديث ضعيف مطلقاً، وإنما هو أدنى رتبة من الأحاديث الأخرى
1 انظر الكلام حول هذا الحديث في: التلخيص الحبير (1/229)، وإرواء الغليل:(2/51) .
الواردة في افتتاح الصلاة. يظهر ذلك من قوله: "والأحاديث التي قبله أثبت منه، ولكن صَحَّ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يستفتح به في مقام النبي صلى الله عليه وسلم ويجهر به، ويعمله الناس"1، والله تعالى أعلم.
1 زاد المعاد: (1/204، 205) .
قلت: أخرج مسلم في (صحيحه) - (1/299) ح 52 ك الصلاة، باب حجة من قال لا يجهر بالبسملة - حديث عمر هذا، عن عبدة:"أن عمر بن الخطاب كان يجهر بهؤلاء الكلمات يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك وتعالى جدك، ولا إله غيرك".
3-
باب من قال: لا يقرأ خلف الإمام فيما يجهر فيه إلا بفاتحة الكتاب
18-
(3) عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كُنَّا خَلْفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فثقلت عليه القراءة، فلما فرغ قال:" لعلكم تقرأون خلف إمامكم؟ "قلنا: نعم، هذّاً1 يا رسول الله، قال:" لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب؛ فإنَّه لا صلاة لمن لم يقرأ بها".
قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وأُعِلَّ هذا الحديث بأن ابن إسحاق رواه عن مكحول وهو مدلس، ولم يُصَرِّحْ بسماعه من مكحول، وإنما عَنْعَنَه، والمدلس إذا عَنعن لم يحتج بحديثه، وكذلك رواه أبو داود. قال البيهقي: وقد رواه إبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق، فذكر سماعه فيه من مكحول، فصار الحديث بذلك موصولاً صحيحاً2. وقد رواه البخاري في كتاب (القراءة خلف الإمام) وقال: هو صحيح، ووثق ابن إسحاق وأثني عليه واحتج بحديثه فيه، ثم رواه من غير حديث ابن إسحاق أيضاً، وقال: هو صحيح"3.
1 قال في المصباح المنير: (2/636) : "الْهَذُّ: سرعة القطع، وهذَّّ قراءته هذَّاً - من باب قتل-: أسرع فيها" وقال الخطابي: "الهذُّ: سرد القراءة ومداركتها في سرعة واستعجال، وقيل: أراد بالهذِّ الجهر القراءة". (معالم السنن 1/390) .
2 انظر كلام البيهقي في المعرفة: (3/81) رقم 3778.
3 تهذيب السنن: (1/390) .
قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود في (سننه) 1، والترمذي في (جامعه) 2، وأحمد في (مسنده) 3، والبخاري في (جزء القراءة) 4، وابن حبان في (صحيحه) 5، والدارقطني، والبيهقي في (سننيهما) 6، والحاكم في (المستدرك) 7، من طرق عن:
محمد بن إسحاق، عن مكحول، عن محمود بن الربيع، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه به، واللفظ المذكور لفظ أبي داود، وألفاظ الباقين بنحوه.
وقد أُعِلَّ هذا الحديث كما مضى في كلام ابن القَيِّم، وحاصل ما أُعِلَّ به:
1-
عنعنة ابن إسحاق وهو مُدَلِّس.
2-
الاضطراب في إسناده.
وذكر ابن القَيِّم من ذلك: العلة الأولى فقط وأجاب عنها، وسأبين ذلك بعون الله وتوفيقه.
أما العلة الأولى؛ وهي عنعنة ابن إسحاق: فقد أجاب عنها
(1/515) ح 823 ك الصلاة، باب من ترك القراءة في صلاته بفاتحة الكتاب.
(2/116) ح 311 ك الصلاة، باب ما جاء في القراءة خلف الإمام.
(5/316، 322) .
(ح 32، 169) .
5 الإحسان: (3/137) ح 1782، (3/141) ح 1789.
6 قط: (1/318) ح 5 - 8. هق: (2/164) .
(1/238) .
الحافظ البيهقي - ونقله ابن القَيِّم - بأن إبراهيم بن سعد1 رواه عن ابن إسحاق فذكر فيه سماع ابن إسحاق من مكحول، فانتفت بذلك شبهة التدليس عن ابن إسحاق.
وقد أخرج رواية إبراهيم بن سعد هذه: الدارقطني في (سننه) 2 من طريق: عبيد الله بن سعد، عن عمه، عن أبيه، عن ابن إسحاق، قال: حدثني مكحول
…
فذكره، وفيه:" إِنِّي لأَرَاكُمْ تَقْرَأُون خَلْفَ إِمَامِكُم إِذَا جَهَرَ؟ ".
وأخرجه البيهقي3 من طريق الدارقطني، ثم قال عقبه:"قال علي ابن عمر - يعني الدارقطني -: هذا إسناد حسن". ولم أجد هذه العبارة في (سنن الدارقطني) عقب هذا الحديث، وإنما قالها الدارقطني عقب الحديث الماضي الذي فيه عنعنة ابن إسحاق4، وقد تَعَقَّبَ ابن التركماني البيهقي بذلك5.
ولكن هذا الإسناد إلى ابن إسحاق ثقات لا مطعن فيهم؛ فإن عبيد الله بن سعد بن إبراهيم بن سعد، أبا الفضل البغدادي قاضي أصبهان:"ثقة"6. وعمه: هو يعقوب بن إبراهيم بن سعد، وأبو يوسف المدني:
1 ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، أبو إسحاق المدني، نزيل بغداد، ثقة حجة، تُكُلِّمَ فيه بلا قادح، من الثامنة، مات 185هـ / ع. (التقريب 89) .
(1/319) ح 8.
3 السنن: (2/164)، والقراءة خلف الإمام:(ح 114) .
4 سنن الدارقطني: (1/318) ح 5.
5 انظر: الجوهر النقي: (2/164) .
6 التقريب: (ص371) .
"ثقة فاضل"1، وإبراهيم بن سعد:"ثقة حجة" كما مضى معنا. فهو إسناد قوي ينجبر به الطريق الآخر الذي فيه عنعنة ابن إسحاق.
وأما العلة الثانية؛ وهي القول بالاضطراب: فقد أعله بذلك ابن عبد البر فقال: "أما حديث ابن إسحاق: فرواه الأوزاعي، عن مكحول، عن رجاء بن حيوة، عن عبد الله بن عمرو قال: صلينا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما انصرف قال لنا: " تقرأون القرآن إذا كنتم معي في الصلاة؟ " قلنا: نعم. قال: " فلا تفعلوا إلا بأم القرآن". ورواه زيد بن خالد2، عن مكحول، عن نافع بن محمود، عن عبادة
…
ومثل هذا الاضطراب لا يثبت فيه عند أهل العلم بالحديث شيء"3. وحكى صاحب (الجوهر النقي) 4 شيئاً من هذا الاضطراب مستشهداً بكلام ابن عبد البر.
والجواب عن ذلك:
1- أن رواية زيد بن واقد5 - وليس بن خالد كما في (التمهيد) - عن مكحول، عن نافع بن محمود بن الربيع6، عن عبادة، قد أخرجها: أبو داود، والدارقطني والبيهقي في (سننهم) 7، ثلاثتهم بهذا
1 التقريب: (ص607) .
2 كذا في التمهيد والصواب أنه "زيد بن واقد" كما سيأتي بيانه.
3 التمهيد: (11/46) .
(2/164) .
5 القرشي، الدمشقي، ثقة، من السادسة/ خ د س ق. (التقريب 225) .
6 الأنصاري، المدني، نزيل بيت المقدس، مستور، من الثالثة/ ر د س. (التقريب558) .
7 د: (1/515) ح 824، قط:(1/319) ح9، هق:(2/164) .
الإسناد، قال نافع بن محمود: أبطأً عبادة عن صلاة الصبح، فأقام أبو نعيم الْمُؤَذِّن الصلاة، فصلى أبو نعيم بالناس، وأقبل عبادة وأنا معه حتى صففنا خلف أبي نعيم
…
فذكره، وفي آخره قوله صلى الله عليه وسلم: "
…
فلا تقرأوا بشيء من القرآن إذا جهرت إلا بأم القرآن".
وقد أعلَّ ابن عبد البر هذه الرواية بجهالة نافع بن محمود، مع عَدِّه ذلك من الاضطراب في الحديث1.
وأقول: إن نافعاً روى عنه اثنان: مكحول الشامي - أحد أئمة أهل الشام - وحرام بن حكيم الأنصاري الدمشقي2، وَوَثقَه ابن حبان3، ولم يُعْرَفْ فيه جرحٌ لأحد، ولم يُطَّلَعْ فيه على ما يُترك حديثه لأجله، ومثله إذا لم يأت بما يُنكر عليه فإنه يُقْبل حديثه، وقد قال الدارقطني - عقب إخراجه -:"كلهم ثقات".
ولم ينفرد زيد بن واقد - مع ذلك - برواية هذا الحديث عن مكحول، عن نافع بن محمود، بل تابعه عليه: يزيد بن يزيد بن جابر4، عن مكحول، عن نافع، عن عبادة به، أخرج ذلك البيهقي في (القراءة خلف الإمام)5.
1 التمهيد: (11/46) .
2 وهو حرام بن معاوية، وَوَهِمَ من جعلهما اثنين، ثقة، من الثالثة/ ر 4. (التقريب155) .
3 الثقات: (5/470) .
4 الأزدي، الدمشقي، ثقة فقيه، من السادسة، مات سنة 134هـ / م د ت ق. (التقريب606) .
(ح123) ، باب ذكر أخبار خاصة دالة على وجوب قراءة الفاتحة على المأموم
…
وتُوبِعَ مكحول - أيضاً - على هذه الرواية، فقد تابعه حرام بن حكيم، عن نافع بن محمود، عن عبادة به، أخرجه: البخاري في (جزء القراءة) 1، والدارقطني في (سننه) 2، والبيهقي في (السنن) 3، وفي (القراءة خلف الإمام) 4، كلهم من طريق: زيد بن واقد، عن مكحول وحرام بن حكيم، كلاهما: عن نافع بن محمود بن الربيع، عن عبادة بن الصامت به.
قال الدارقطني: "هذا إسناد حسن، ورجاله ثقات كلهم". وقال البيهقي: "وهذا إسناد صحيح، ورواته ثقات". قاله في كتاب (القراءة خلف الإمام) .
ثم وجدت متابعة أخرى لمكحول، فقد تابعه عثمان بن أبي سودة5، أخرج ذلك الدارقطني في (سننه) 6 من طريق: صدقة بن خالد، عن زيد بن واقد، عن عثمان بن أبي سودة، عن نافع بن محمود، عن عبادة به. وراويه عن صدقة هو: يحيى بن عبد الله بن الضحَّاك البابلتي، وهو "ضعيف"7، لكنه إذا انضم إلى الطريقين السابقين حصل بمجموع ذلك للحديث قوة.
فَتَبَيَّنَ من ذلك ثبوت الحديث بهذا الإسناد، وأنه يَقْوَى بمتابعة:
(ح33) .
(1/320) ح 12.
(2/165) .
4 ح (121 - 122) .
5 المقدسي، ثقة، من الثالثة/ بخ د ت ق. (التقريب 384) .
(1/320) ح 13.
7 كما في التقريب: (ص 593) .
يزيد بن جابر لزيد بن واقد، ثم بمتابعة: حرام بن حكيم وعثمان بن أبي سودة لمكحول.
فإذا تقرر ذلك فيمكن القول بأنه: ليس في رواية "نافع بن محمود" هذه مخالفة لرواية "محمود بن الربيع" المتقدمة، وأن الاضطراب لا وجود له، بل الأمر على ما قال البيهقي رحمه الله:"مكحول سمع هذا الحديث من محمود بن الربيع ومن ابنه1 نافع بن محمود بن الربيع، ونافع ابن محمود وأبوه محمود بن الربيع سمعاه من عبادة بن الصامت رضي الله عنه"2. وقال ابن حزم رحمه الله: "وأما رواية مكحول هذا الخبر مرة عن محمود ابن الربيع ومرة عن نافع: فهذا قوة للخبر لا وهنٌ؛ لأن كليهما ثقة"3.
وحينئذٍ نقول: إن رواية زيد بن واقد هذه بطرقها، وبمتابعة يزيد بن جابر له فيها تعدُّ متابعة قويةً لرواية محمد بن إسحاق المتقدمة، هذا مع تصحيح جماعة من الأئمة لحديث ابن إسحاق، قال الترمذي:"حديث حسن". وقال الدارقطني: "هذا إسناد حسن". وقال الخطابي: "إسناده جيد، لا مطعن فيه"4. وقال الحاكم عنه وعن غيره من الروايات: "أسانيدها مستقيمة". وقال البيهقي: "صحيح وله شواهد"5. وقال ابن حجر:
1 هكذا اعتبر البيهقي أن نافعاً ابنٌ لمحمود بن الربيع، ولم أجد في المصادر التي ترجمت لهما ما يشير إلى ذلك، فالله أعلم؟؟
2 القراءة خلف الإمام: (ص65 - 66) .
3 المحلى: (3/241 - 242) .
4 معالم السنن: (1/390) .
5 السنن: (2/166) .
"أخرجه أبو داود بإسناد رجاله ثقات"1. وقال الشيخ أحمد شاكر: "حديث صحيح لا عِلَّة له"2. حتى إن أبا عمر بن عبد البر رحمه الله الذي أَعَلَّه في (تمهيده) بأنه مضطرب، وبأن نافع بن محمود مجهول، قال في (الاستذكار) 3:"وحديث عبادة من رواية مكحول وغيره متصل مسند من رواية الثقات"! فلم يبق بذلك قدح في هذا الحديث بالاضطراب ولله الحمد.
2-
وأما الرواية التي ذكرها ابن عبد البر مُسْتَدِلاً بها على اضطراب الحديث، وهي: رواية الأوزاعي، عن مكحول، عن رجاء بن حيوة، عن عبد الله بن عمرو، فأقول:
المشهور عن الأوزاعي في ذلك ما أخرجه البيهقي في (القراءة خلف الإمام) 4 من طريق الأوزاعي، حدثني عمرو بن سعد5، حدثني رجاء بن حيوة، وعن الأوزاعي، عن عمرو بن سعد، عن عمرو بن شعيب، كلاهما: عن عبادة بن الصامت مرفوعاً. قال البيهقي: "والروايتان صحيحتان، فقد رواه الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن عمرو بن سعد عنهما". ثم ساقه بإسناده إلى الوليد. ثم رواه البيهقي رحمه الله بالإسناد نفسه إلى عمرو بن شعيب متصلاً، فقال: عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن عبادة. ثم أشار البيهقي بعد ذلك إلى الرواية التي ذكرها ابن عبد البر، فقال: "وقيل: عن الأوزاعي، عن مكحول، عن
1 الدراية: (1/164) .
2 حاشية الترمذي: (2/117) .
(2/190) .
4 الأحاديث: (129 - 132) .
5 الفَدَكِي أو اليمامي، ثقةٌ، من السادسة / ر س ق (التقريب 421) .
رجاء، عن عبد الله بن عمرو. والمحفوظ ما ذكرنا إسناده"1.
فَعُلِمَ بذلك أن المحفوظ في هذا عن الأوزاعي ما تقدم: عنه، عن عمرو ابن سعد، عن رجاء، وهو إسناد لا غبار عليه، لاسيما إذا انضم إليه طريق عمرو بن شعيب، وحينئذ تكون هذه الطريق متابعة أخرى لمحمود بن الربيع، عن عبادة؛ مما يزيد في قوته، ولا يكون ذلك من قبيل الاضطراب أبداً.
ثُمَّ إن حديث عبادة هذا أصله في صحيحي (البخاري) 2 (ومسلم) 3 مختصراً، وذلك من طريق: الزهري، عن محمود بن الربيع، عن عبادة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا صَلاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأ بِفَاتِحَة الْكِتَاب".
قال الإمام البخاري: "والذي زاد مكحول، وحرام بن حكيم، ورجاء بن حيوة عن ابن الربيع، عن عبادة، فهو تبع لما روى الزهري قال: حدثني محمود بن الربيع، أن عبادة أخبره عن النبي صلى الله عليه وسلم
…
"4.
وقال البيهقي: "ورواية الزهري، عن محمود بن الربيع، عن عبادة ابن الصامت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" وإن كانت مختصرة، فهي لرواية ابن إسحاق شاهدة"5.
1 القراءة خلف القراءة: (ص69) .
2 مع فتح الباري: (2/236) ح 756 ك الأذان، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها في الحضر والسفر، وما يجهر فيها وما يخافت.
(1/295) ح 394. باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة
…
4 القراءة خلف الإمام للبيهقي: (ص70) .
5 المعرفة: (3/81) .
وقال الحافظ ابن حجر: "والظاهر أن حديث الباب - يعني حديث الزهري - مختصر من هذا - يعني من حديث ابن إسحاق الذي معنا - وكان هذا سببه والله أعلم"1.
قلت: وسواء أكان مختصراً منه أم كان مغايراً له، فإنه يشهد له ويُقَوِّيه، ويثبتُ أن له أصلاً؛ فالحديثان اشتركا في قوله صلى الله عليه وسلم:"لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب". ولكن أحدهما جاء مُطَوَّلاً فَذُكِرَ فيه قصة كانت سبب هذا القول منه صلى الله عليه وسلم، ورواية الصحابي الحديث مرة مطولاً ومرة مختصراً مشهور.
ولهذا الحديث شاهد أشار إليه ابن القَيِّم في (تهذيب السنن) 2 من رواية البيهقي من طريق: سفيان الثوري، عن خالد الْحَذَّاء، عن أبي قلابة، عن محمد بن أبي عائشة3، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعلكم تقرأون والإمام يقرأ؟ ". قالوا: إنا لنفعل. قال: "فلا تفعلوا إلا أن يقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب".
ثم نقل ابن القَيِّم عن البيهقي قوله: "وهذا إسناد صحيح، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم ثقة، فترك ذكر أسمائهم في الإسناد لا يَضُرُّ إذا لم يعارضه ما هو أصح منه، ولكن لهذا الحديث علة، وهي: أن أيوب خالف فيه خالداً ورواه عن أبي قلابة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً
…
"4.
1 فتح الباري: (2/242) .
(1/393) .
3 قيل: اسم أبيه عبد الرحمن، حجازي، ليس به بأس، من الرابعة / ر م د س ق. (التقريب 486) .
4 انظر: كلام البيهقي هذا في المعرفة: (3/84) رقم 3792. والكلام إلى قوله: "
…
ما هو أصحُّ منه" منقول بنصه، وباقي الكلام منقول بالمعنى.
وقد ذكر الدارقطني في (علله) 1 روايات هذا الحديث، ووجوه الاختلاف فيه على خالد الحذاء، ثم قال:"والمرسل أصح". يعني: عن ابن أبي عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قلت: وهذا المرسل يشهد لحديث عبادة بن الصامت المتقدم ويشد من أزره، وقد جعله البيهقي2، ثم ابن حجر3 من شواهده.
فتَحَصَّل من ذلك: أن حديث عبادة بن الصامت صحيح بطرقه وشاهده، مع تصحيح من صححه من الأئمة الذين نقلتُ أقوالهم.
وابن القَيِّم رحمه الله يميل إلى صحة الحديث، فقد ذكر كلام البيهقي في الرد على من زعم أن الحديث معلول بعنعنة ابن إسحاق. ولكنه لم يتعرض لكلام من أعله بالاضطراب، وقد بينت ذلك ولله الحمد. ثم ساق له ابن القَيِّم هذا الشاهد المرسل من حديث ابن أبي عائشة.
وأما ما نقله ابن القَيِّم عن البيهقي من تصحيح البخاري هذا الحديث في (جزء القراءة) فلم أقف عليه فيه، وقد روى الحديث في مواضع منه - كما مضى - ولم يعقبه بشيء، نعم أثنى على ابن إسحاق هناك وعَدَّلَه ونقل كلام الأئمة في الثناء عليه.
1 ج 4 (ق 36) .
2 السنن: (2/166) .
3 التلخيص الحبير: (1/231)