الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
6- باب ما جاء في ترك الوضوء من مس الذكر
8-
(8) حديث طلق بن علي أنه سَأَلَ النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يَمَسُّ ذَكَرَهُ بعد الوضوءِ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هَلْ هُوَ إلا مُضْعَةٌ مِنْكَ، أو بَضْعَةٌ مِنْكَ".
تَكَلَّمَ ابن القَيِّم رحمه الله على هذا الحديث، فَذَهَبَ إلى أنه مَرْجُوحٌ، وأن حديث بُسْرة - الماضي ذِكْره - وغيره من الأحاديث الواردة في انتقاض الوضوء بمس الذَّكَرِ راجحة على حديث طَلْقٍ هذا في عدم الانتقاض، وذكر جملةً من المرجحات1 سيأتي نقلها عنه إن شاء الله.
قلت: حديث طلق هذا مداره على قيس بن طلق2، عن أبيه طلق بن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً.
وقد رواه عن قيس بن طلق جماعة، منهم:
1- عبد الله بن بدر3: أخرج ذلك أبو داود4، والترمذي5،
1 تهذيب السنن: (1/ 134 - 135) .
2 ابن علي الحنفي، اليَّمَامِي، صدوق، من الثالثة، وَهِمَ من عَدَّهُ من الصحابة/4. (التقريب 457) .
3 ابن عميرة الحنفي السحيمي، اليمامي، كان أحد الأشراف، ثِقةٌ، من الرابعة/ 4. (التقريب 296) .
(1/127) ح 182 ك الطهارة، باب الرخصة في ذلك (يعني: مس الذكر) .
(1/ 131) ح 85 ما جاء في ترك الوضوء من مس الذكر.
والنسائي1 في (سننهم) ، وابن الجارود في (المنتقى) 2 وابن حبان في (صحيحه) 3، والطبراني في (الكبير) 4، والدارقطني والبيهقي في (سننيهما) 5 من طرق عن:
مُلَازِم بن عمرو6، عن عبد الله بن بدر، عن قيس بن طلق، عن طلق ابن علي قال: قدمنا على نبي الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل كأنه بَدَوِيٌّ فقال: يا نَبِيَّ الله، ما ترى في مَسَّ الرجل ذكره بعدما يتوضأ؟ فقال:"هل هو إلا مُضْغَةٌ7 منه. أو قال: بَضْعَةٌ8 منه". هذا لفظ أبي داود، والباقون نحوه، إلا أن عند النسائي، وابن الجارود، والدارقطني قول الرجل: "
…
ما ترى في رجل مَسَّ ذكره في الصلاة؟ ". وعند ابن حبان: "أَحَدُنَا يكون في الصلاة، فيحتك، فتصيب يَدُهُ ذَكَرَه؟ ". وهو عند الترمذي مختصر، ليس فيه إلا ذكر اللفظ المرفوع، دون ذكر كلام طلق، ولا سؤال الرجل.
وهذا إسناد لا ينزلُ عن درجة الحسن، وَكَأَنَّ البيهقي رحمه الله أراد أن يغمز هذا الإسناد، فنقل عقب روايته عن أحمد بن إسحاق
(1/ 101) ك الطهارة، باب ترك الوضوء من ذلك.
(ح رقم 21) .
3 الإحسان: (2/ 223) ح 1116، 1117.
(8/ 398) ح 8243.
5 قط: (1/ 149) ح 17. هق: (1/ 134) .
6 ابن عبد الله بن بدر، أبو عمرو اليَّمامي، صدوق، من الثامنة / 4. (التقريب 555) .
7 الْمُضْغَةُ: القطعة من اللحم، قدر ما يمضغ، وجمعها: مُضَغٌ. (النهاية 4 / 339) .
8 البَضْعَةُ: القطعة من اللحم، وقد تكسر. (النهاية 1/133) .
الضبعي قوله: "ملازم فيه نَظَرٌ"!
قلت: قد وَثَّقَهُ الإمام أحمد، وابن معين، وأبو زرعة، والنسائي، وابن حبان، والدارقطني1. وقولهم - لا شكَّ - مُقَدَّمٌ على قول الضبعي؛ فهم أئمة هذا الشأن وفرسانه، كيف وقد انفرد الضبعي بهذه المقالة؟! ولذلك فقد صَحَّحَ الترمذي حديث ملازم هذا، وَقَدَّمَهُ على غيره من طرق حديث طلق، فقال: "وقد روى هذا الحديث أيوب بن عتبة، ومحمد بن جابر، عن قيس بن طلق، عن أبيه
…
وحديث ملازم بن عمرو، عن عبد الله بن بدر أصحُّ وأحسن"2. فَسَقَطَ بذلك الطعن في ملازم، وتبين أنه لا مجال لغمزه.
2-
محمد بن جابر3: أخرجه أبو داود وابن ماجه في (سننيهما) 4، وأحمد في (مسنده) 5، وابن الجارود في (المنتقى) 6،
1 انظر أقوالهم على الترتيب في: بحر الدم: (رقم 1052) ، والتاريخ برواية الدوري (2/ 585 رقم 3249)، والجرح والتعديل:(8/ 436)، وتهذيب التهذيب:(10/384 - 385) .
2 جامع الترمذي: (1/ 132) .
3 ابن سَيَّار بن طارق الحنفي، اليمامي، أبو عبد الله، صدوقٌ، ذَهَبَتْ كُتبه فساء حفظه وَخَلَّطَ كثيراً، وعَمِيَ فصار يُلَقَّن، ورجحه أبو حاتم على ابن لهيعة، من السابعة، مات بعد السبعين/د ق. (التقريب 471) .
4 د: (1/128) ح 183. جه: (1/163) ح 483.
(4/23) .
(ح رقم 20) .
وعبد الرزاق في (المصنف) 1، والطبراني في (الكبير) 2، والدارقطني في (سننه) 3، والحازمي في (الاعتبار) 4، وابن الجوزي في (العلل المتناهية) 5، من طرق، عن:
محمد بن جابر، عن قيس بن طلق، عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم به. وعندهم أن السائل هو طلق بن علي، إلا في رواية الإمام أحمد والدارقطني فعندهما: أن رجلاً سَأَلَ النبي صلى الله عليه وسلم.
ومحمد بن جابر ضعيف، ضعفه غير واحد من أئمة الشأن، فقال ابن معين:"ليس بشيء"6. وقال عمرو بن علي: "
…
كثيرٌ الوهم، متروكُ الحديثِ"7. وقال أبو زرعة:"ساقط الحديث"8. وقال البخاري: "ليس بالقوي عندهم"9. وقال النسائي: "ضعيف"10.
ولذلك فقد ضَعَّفَ هذا الحديث جماعة من العلماء بمحمد بن جابر
(1/117) ح 426.
(8/396) ح 8233، 8234.
(1/149) ح 15.
(ص42) باب ما جاء في مس الذكر.
(1/362) ح 597، 599.
6 تاريخ الدوري عن ابن معين: (2/507) .
7 تهذيب التهذيب: (9/89) .
8 الجرح والتعديل: (3/2/220) .
9 الضعفاء الصغير: (ص 204) .
10 الضعفاء والمتروكين: (ص93) .
هذا، فسأل ابنُ أبي حاتم أَبَاه وأبا زرعة عنه "فلم يثبتاه"1. وقال الترمذي: "وقد تَكَلَّمَ بعض أهل العلم في محمد بن جابر
…
وحديث ملازم - يعني الطريق السابق - أصحُّ وأحسن". وضعفه به: ابن الجوزي2، والبيهقي3، والزيلعي4.
3-
أيوب بن عتبة5: أخرجه أحمد والطيالسي في (مسنديهما) 6، والحازمي في (الاعتبار) 7، وابن الجوزي في (العلل المتناهية)8.
وهذا أَعَلَّهُ: الترمذيُّ، والبيهقيُّ، وابن الجوزي، والزيلعي، بأيوب بن عتبة9، فقد ضَعَّفَهُ غير واحدٍ من العلماء10.
4-
أيوب بن محمد العِجْلي: أخرجه الدارقطني في (سننه) 11، وابن
1 علل ابن أبي حاتم: (1/48) ح 111.
2 العلل المتناهية: (1/363) .
3 السنن: (1/134-135) .
4 نصب الراية: (1/61) .
5 اليمامي، أبو يحيى القاضي، ضعيف، من السادسة، مات سنة160هـ/ق. (التقريب118) .
6 حم: (4/22) . طس (ح1096) .
(ص42-43) .
(1/362) ح 596.
9 انظر كلامهم على الطريق الذي قبله.
10 انظر أقوال الأئمة في أيوب هذا في (تهذيب التهذيب) : (1/408-409) .
11 (1/149) ح18.
الجوزي في (علله) 1 من طريق عبد الحميد بن جعفر، عن أيوب بن محمد، عن قيس بن طلق، عن أبيه به.
قال الدارقطني عقب إخراجه: "أيوب مجهول".
قلت: هو أيوب بن محمد، أبو سهل العجلي، اليمامي. ضَعَّفَهُ ابن معين2. وقال أبو زرعة:"منكر الحديث"3.
وعبد الحميد بن جعفر - الراوي عنه - كان سفيان الثوري يُضَعِّفُه، وَوَثَّقَه غيره4. وقد أشار ابن الجوزي5، والزيلعي6 إلى ضعف هذا الإسناد بهذين الرجلين.
5-
عكرمة بن عمار7: أخرجه من طريقه ابن حبان في (صحيحه) 8 فقال: "ذكر الخبر الْمُدْحِض قول من زعم أن هذا ما رواه ثقة عن قيس بن طلق خلا ملازم بن عمرو". ثم ساقه بإسناده إلى عكرمة،
(1/362) ح598.
2 تاريخ الدارمي عن ابن معين: (ص179) رقم 645.
3 الجرح والتعديل: (1/1/257) .
4 الجرح والتعديل: (3/1/10)، والميزان:(2/539) .
5 العلل المتناهية: (1/363) .
6 نصب الراية: (1/61) .
7 العِجْلي، أبو عمار اليمامي، صدوقٌ يغلط، وفي روايته عن يحيى بن أبي كثير اضطراب، ولم يكن له كتاب، من الخامسة، مات قبيل الستين / خت م 4. (التقريب 396) .
8 الإحسان: (2/223) ح1118.
عن قيس بن طلق، عن أبيه مرفوعاً.
وأشار البيهقي رحمه الله إلى رواية عكرمة هذه، ثم قال:
"وعكرمة بن عمار أمثلُ مَنْ رواه عن قيس، وعكرمة بن عمار قد اختلفوا في تعديله: غمزه يحيى بن سعيد القطان، وأحمد بن حنبل، وضعفه البخاري جداً"1.
قلت: لكن وَثَّقَهُ ابن معين، وابن المديني، والعجلي، وأبو داود، والدارقطني، ويعقوب بن شيبة، وابن شاهين، وابن حبان وغيرهم2. وإنما ضعفوه في روايته عن يحيى بن أبي كثير، فإن فيها اضطراباً. قال ابن التركماني في (الجوهر النقي) 3 - متعقباً البيهقي -: "احتجَّ به مسلم، واستشهد به البخاري، وأخرج له ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، والحاكم في المستدرك
…
". فالرجل بهذه المثابة حسن الحديث إن شاء الله.
وبعد، فهذه هي طرق هذا الحديث، وهؤلاء هم رواته عن قيس بن طلق، وأمثلُ هذه الطرق: هو طريق "ملازم بن عمرو عن عبد الله بن بدر" كما تقدم، وكذا طريق عكرمة بن عمار عن قيس، فإنه لا غبار عليه،
1 سنن البيهقي: (1/135) .
2 انظر أقوالهم على الترتيب في: تاريخ الدوري عن ابن معين (2/414)، وسؤالات ابن أبي شيبة لعلي بن المديني:(رقم 169)، وثقات العجلي:(ص339 رقم 1159)، وسؤالات الآجري لأبي داود:(رقم 707) ، وسؤالات البرقاني للدارقطني (رقم 403)، وثقات ابن شاهين:(رقم 1074)، وثقات ابن حبان:(5/233)، وتهذيب التهذيب:(7/262) .
(1/134) .
فهو يلي طريق عبد الله بن بدر في الرتبة، وتكون الطرق الثلاثة الأخرى متابعات لهذين الطريقين ومؤيدة لهما، ومجموع هذه الطرق يجعل هذا الحديث يصل إلى درجة الصحيح لغيره، أو يكون حسناً على أقل تقدير.
وقد صَحَّحَهُ جمع من الأئمة، منهم: الترمذي، فقال:"هذا الحديث أحسن شيء روي في هذا الباب"، وذهب رحمه الله إلى أن طريق ملازم بن عمرو هو أصح طرق هذا الحديث وأحسنها. وصححه كذلك الطحاوي، فقال:"هذا حديث مستقيم الإسناد، غير مضطرب في إسناده ولا متنه"1. ثم ذكر بسنده إلى عليِّ بن المديني أنه قَدَّمَهُ على حديث بسرة من طريق ملازم بن عمرو. وَصَحَّحَه كذلك الطبراني2، وعبد الحق في (أحكامه)، قال الزيلعي:"وذكر عبد الحق في أحكامه حديث طلق هذا، وسكت عنه، فهو صحيح عنده على عادته في مثل ذلك"3. وصححه كذلك: عمرو بن علي الفلاس، وقال: "هو عندنا أثبت من حديث بسرة"4. وقال ابن حزم: "هذا خبر صحيح"5. وظاهرُ صنيع ابن حبان تصحيحه إياه، حيث أخرجه في (صحيحه) وذكر له متابعة ما رأيت أحداً أخرجها سواه، تلك التي من طريق: عكرمة بن عمار، عن قيس بن طلق به، وتَقَدَّمَ كلامه في ذلك. وقال الزيلعي - عند كلامه على
1 شرح معاني الآثار: (1/ 76) .
2 المعجم الكبير: (8/ 402) .
3 نصب الراية: (1/ 62) .
4 التلخيص الحبير: (1/ 125) .
5 المحلى: (1/ 123) .
أحاديث عدم النقض -: "
…
حديث طلق بن علي، وهو أمثلها"1. وذهب ابن القطان إلى حُسْنِهِ، مُتَعَقِّبَاً بذلك عبد الحق في سكوته عليه، فقال: "والحديث مختلف فيه، فينبغي أن يقال فيه: حسن، ولا يحكم بصحته"2. وصححه - أيضاً - الشيخ أحمد شاكر3 رحمه الله.
فهذه أقوال المصححين لهذا الحديث، وقد ذهبت طائفة أخرى إلى القول بضعفه، وتنحصر العلل التي أعلوا بها هذا الحديث فيما يلي:
أولاً: ضعفُ قيس بن طلق، فقد قال الشافعي - فيما روى عنه الزعفراني -:"سألنا عن قيس، فلم نجد من يعرفه بما يكون لنا4 قبول خبره"5. وقال أبو زرعة وأبو حاتم: "قيس بن طلق ليس ممن تقوم به الحجة"6 وَوَهَّمَاه. وروى البيهقي بسنده إلى ابن معين أنه قال: "قد أكثر الناس في قيس بن طلق، ولا يحتج بحديثه"7.
ثانياً: ضعف محمد بن جابر، وأيوب بن عتبة وغيرهما من الذين رووه عن قيس بن طلق.
والجواب عن ذلك:
1 نصب الراية: (1/ 60) .
2 نصب الراية: (1/ 62) .
3 التعليق على جامع الترمذي: (1/ 132) .
4 يعني: بما يُسَوِّغ لنا.
5 سنن البيهقي: (1/ 135) .
6 علل ابن أبي حاتم: (1/ 48) ح 111.
7 سنن البيهقي: (1/ 135) .
أولاً: أما قيس بن طلق، فإنه وإن لم يعرفه الشافعيُّ فقد عرفه غيره، وَوَثَّقَهُ جماعة من أهل الشأن: ابن معين1، والعِجلي2، وذكره ابن حبان في (الثقات) 3، هذا مع رواية جماعة كثيرين عنه4، ومثله لا يكون مجهولاً، فعدم معرفة الشافعي به لا يوجب تركه ما دام غيره قد عرفه ووثقه.
وأما ما رواه البيهقي عن ابن معين من عدم الاحتجاج به، فقد رَدَّهُ ابن التركماني، فقال: "ذكر البيهقي ذلك بسند فيه محمد بن الحسن النَّقَّاشِ المفسر، وهو من المتهمين بالكذب، وقال البرقاني: كل حديثه مناكير
…
"5. وقد تَقَدَّمَ من رواية الدارمي عن يحيى أنه وَثَّقَهُ، ولا شكَّ أن ذلك مُقَدَّم.
ثانياً: وأما ضعف محمد بن جابر، وأيوب بن عتبة: فقد قَدَّمْنَا أن الاعتماد في ذلك على رواية عبد الله بن بدر عن قيس، فإنها أصحُّ هذه الطرق وأحسنها كما قال غير واحد. ثم إن رواية "عكرمة بن عمار" عن قيس متابعة قوية أيضاً، فعكرمة أمثل من رواه عن قيس كما قال غير واحد، وإذا كان الأمر كذلك، فإن روايتي محمد بن جابر وأيوب بن عتبة تكون كالمتابعات لرواية عبد الله بن بدر دون اعتماد عليهما.
فإذا ثَبَتَ لدينا أن حديثَ طلق هذا ليس بضعيف، وأنه بمجموع
1 تاريخ الدارمي عن ابن معين: (ص 144) رقم 486.
(الثقات) بترتيب الهيثمي: (ص 393) .
(5/ 313) .
4 انظر: تهذيب التهذيب: (8/ 398) .
5 الجوهر النقي: (1/134-135) .
طرقه حسن على أقل أحواله - مع تصحيح جماعة له - وأن ما أُعِلَّ به لا يرد عليه، إذا تَقَرَّرَ ذلك: فإن حديث طلق هذا في عدم الانتقاض بالمسِّ يكون مخالفاً في ظاهره لحديث بُسرة وغيرها من الصحابة الذين رووا الانتقاض، ولقد سلك العلماء إزاء هذا التعارض1 مسالك، أبرزها:
أولاً: الجمع بين الحديثين، وذلك من وجوه:
1-
أنَّ خبر طلق يُحْمَلُ على الْمَسِّ بحائل، واستدلوا ببعض ألفاظه التي جاء فيها أنه سُئِلَ عن مَسِّهِ في الصلاة، قالوا: فالْمُصَلي لا يمسُّ فرجه من غير حائل في الصلاة. حكاه الخطابي2. وقَرَّرَ ابن حبان رحمه الله ذلك، فقال في (صحيحه) 3: "ذكر البيان بأن الأخبار التي ذكرناها مجملة بأن الوضوء إنما يجب من مَسِّ الذكر إذا كان ذلك بالإفضاء دون سائر المسِّ، أو كان بينهما حائل". ثم ساق حديث المقبري عن أبي هريرة، ولفظه:"إِذَا أَفْضَى أَحَدُكُم بيده إلى فرجه، وليس بينهما سِتر ولا حجاب فليتوضأ".
2-
أن المسَّ الذي لا ينقضُ هو ما لم يكن مُتَعَمَّدَاً، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقال - وقد سئل عن ذلك -:"إن لم يتعمد ذلك لم ينتقض وضوءه"4.
وقيل بغير ذلك من وجوه الجمع.
1 وقد قَرَّرَ شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة هذا التعارض، انظر: القواعد النورانية: (ص 33) .
2 معالم السنن: (1/ 133) .
3 الإحسان: (2/ 222) ح 1115.
4 مجموع الفتاوى: (21/ 231) .
ثانياً: النسخ. فقد ذهب جماعة إلى أن حديثَ طلق منسوخ، منهم:
ابن حبان، والطبراني، والحازمي، وغيرهم. وأوضحَ ابن حبان ذلك، فَرَوى بإسناده إلى قيس بن طلق، عن أبيه في قصة بنائه مسجد المدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال:"خبر طلق بن علي الذي ذكرناه خبر منسوخ؛ لأن طلقَ ابن علي كان قدومه على النبي صلى الله عليه وسلم أول سنةٍ من سِنيِّ الهجرة، حيث كان المسلمون يبنون مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة. وقد روى أبو هريرة إيجاب الوضوء من مَسِّ الذكر على حسب ما ذكرناه قبل، وأبو هريرة أسلمَ سنة سبع من الهجرة، فدلَّ ذلك على أن خبر أبي هريرة كان بعد خبر طلق بن علي بسبع سنين"1.
ثم روى ابن حبان بإسناده - أيضاً - إلى طلق حديث قدومه على النبي صلى الله عليه وسلم ومبايعته إياه، ثم رجوعه إلى بلده، ثم قال:"في هذا الخبر بيانٌ واضحٌ أنَّ طلقَ بن عليٍّ رجع إلى بلده بعد القَدْمَةِ التي ذكرنا وقتها، ثم لا يُعْلَمُ له رجوعٌ إلى المدينة بعد ذلك. فمن ادَّعَى رجوعه بعد ذلك، فعليه أن يأتي بِسُنَّةٍ مُصَرِّحَةٍ، ولا سبيل له إلى ذلك"2.
وقد ذكر الحازمي مثل ذلك، ثم قال:"ثم نظرنا: هل نجد أمراً يؤكد ما صرنا إليه، فوجدنا طلقاً روى حديثاً في المنع، فَدَلَّنَا ذلك على صِحَّةِ النقل في إثبات النسخ، وأن طلقاً قد شاهد الحالتين، وروى الناسخ والمنسوخ"3.
1 الإحسان: (2/ 224) .
2 الإحسان: (2/ 224 - 225) .
3 الاعتبار: (ص47) .
قلت: وحديث طلق في المنع هو الذي أخرجه الطبراني في (الكبير) 1 من طريق: حماد بن محمد، ثنا أيوب بن عتبة، عن قيس بن طلق، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأ". ثم قال الطبراني - عنه وعن حديث عدم النقض -: "وهما عندي صحيحان، ويشبه أن يكون سمع الحديث الأول من النبي صلى الله عليه وسلم قبل هذا، ثم سمع هذا فوافق حديث بسرة، وأم حبيبة، وأبي هريرة، وزيد بن خالد الجهني وغيرهم ممن روى عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بالوضوء من مس الذكر، فسمع المنسوخ والناسخ". ولكن "أيوب بن عتبة" ضعيف كما تقدم.
وذهب ابن حزم - أيضاً - إلى نسخه مستدلاً على ذلك بأمور:
أولها: أن خبر طلق موافق لما كان عليه الناس قبل ورود الأمر بخلافه، وإذا كان كذلك فإنه منسوخ يقيناً بورود الأمر بالوضوء من مس الذكر.
الثاني: أن قوله صلى الله عليه وسلم: "هل هو إلا بَضْعَةٌ منك" دليل بَيِّنٌ على أنه كان قبل الأمر بالوضوء منه، لأنه لو كان بعده لم يَقُلْ صلى الله عليه وسلم هذا الكلام، بل كان يبين أن الأمر بذلك قد نسخ، فقوله هذا يدل على أنه لم يكن سَلَفَ فيه حكم أصلاً، وأنه كسائر الأعضاء2.
ثالثاً: الترجيح. وهذا هو المسلك الذي سَلَكَهُ ابن القَيِّم رحمه الله، وذكر في ذلك عدة مُرَجِّحَات:
(8/401) ح 2852.
2 انظر: المْحُلَّى: (1/323) بتصرف.
- منها: قوله بضعف حديث طلق، وقد بَيَّنَّا أن الأمر على خلاف ذلك، وأنه حسن بمجموع طرقه، لكن الذي لا شك فيه أن حديث بسرة أقوى، وبخاصة إذا راعينا مشاركة جملة من الصحابة لها في رواية النقض.
- ومنها: الاختلاف على طلق، فقد روى عنه النقض أيضاً، كما سبق بيان ذلك.
- ومنها: أن حديث طلق مُبْقٍ على الأصل - وهو عدم النقض - وحديث بُسرة ناقل عن الأصل، والناقل مقدم؛ لأن أحكام الشارع ناقلة عما كانوا عليه. وهذا من أدلة النسخ كما تَقَدَّمَ في كلام ابن حزم، لكن جعله ابن القَيِّم من جملة المرجحات لحديث بسرة.
- ومنها: أنه قد روى النقض: بسرة، وأبو هريرة، وعبد الله بن عمرو، وأم حبيبة، وأبو أيوب، وزيد بن خالد، ولا شكَّ أن العدد الكثير من الصحابة مقدم على رواية الواحد.
- ومنها: قولُ أكثر الصحابة بالنقض، منهم: عمر بن الخطاب، وعبد الله ابنه، وأبو أيوب، وزيد بن خالد، وأبو هريرة، وعبد الله بن عمرو، وجابر، وعائشة، وأم حبيبة، وبسرة، وعن كلٍّ من سعد بن أبي وقاص وابن عباس روايتان1.
فَتَلَخَّصَ من ذلك: أن حديث طلق في عدم نقض الوضوء بمس الذكر
1 انظر: تهذيب السنن: (1/134-135) .
ما بين: مُؤَوَّل، ومرجوح، ومنسوخ، ولقد ذهب ابن القَيِّم رحمه الله إلى ضعف حديث طلق - على ما في ذلك من نظر - وأنه مرجوح بمرجحات أخرى غير ضعفه، وقال بأنه على تقدير صحته منسوخ.
ولعلَّ القول بالجمع بين الخبرين - إعمالاً لجميع الأدلة - أولى، والله أعلم.