الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3- بابُ كفارة من أتى حائضا
15-
(3) عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي امْرَأَتَهُ وهي حائضٌ، قال:" يَتَصَدَّق بدينار، أو نصف دينار".
تَعَرَّض ابن القيم رحمه الله لهذا الحديث في كلامه على سنن أبي داود1، وأشار إلى تصحيح أبي داود، والحاكم، وابن القطان له.
ثم قال: "وأما أبو محمد ابن حزم: فإنه أعلَّ الحديث بمقسم وَضَعَّفَهُ، وهو تعليل فاسدٌ، وإنما عِلَّتُهُ الْمُؤَثِّرَة وَقْفُهُ".
قلت: وهذا الحديث عند أبي داود2 من طريق: شعبة، عن الحكم بن عتيبة، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن3، عن مِقْسَم4، عن ابن عباس به.
ومن هذا الطريق أخرجه: النسائي وابن ماجه في (سننيهما) 5،
(1/173 – 174) .
2 السنن: (1/181) ح 264، باب في إتيان الحائض.
3 ابن زيد بن الخطاب العدوي، أبو عمر المدني، ثقة، من الرابعة، توفي بِحَرَّان في خلافة هشام/ ع. (التقريب 334) .
4 ابن بجرة، ويقال: نجدة. أبو القاسم، مولى عبد الله بن الحارث، ويقال له: مولى ابن عباس للزومه له، صدوقٌ وكان يُرْسِل، من الرابعة، مات سنة 101هـ/ خ 4. (التقريب 545) .
5 س: (1/153) باب ما يجب على من أتى حليلته في حال حيضتها
…
جه: (1/210) ح 640 باب في كفارة من أتى حائضاً.
وأحمد في (مسنده) 1، وابن الجارود في (المنتقى) 2، والطبراني في (الكبير) 3، والحاكم في (مستدركه) 4، والبيهقي في (سننه)5.
وأخرجه البيهقي في (سننه) 6 من طريق مطر الوراق، عن الحكم ابن عتيبة، عن مقسم، عن ابن عباس مرفوعاً. لم يذكر فيه "عبد الحميد بن عبد الرحمن". قال البيهقي: "هكذا رواه جماعة عن الحكم، عن مقسم، وفي رواية شعبة، عن الحكم دلالةٌ على أن الحكم لم يسمعه من مقسم، إنما سمعه من عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد
…
". وقال أبو حاتم رحمه الله: "لم يسمع الحكم من مقسم هذا الحديث"7.
قلت: لكن أثبت الإمام أحمد، ويحيى القَطَّان سماع الحكم هذا الحديث من مقسم، فقال أحمد:"لم يسمع الحكم حديث مقسم، كتاب، إلا خمسة أحاديث" وعَدَّهَا يحيى القطان: حديث الوتر، والقنوت، وعزمة الطلاق، وجزاء الصيد، والرجل يأتي امرأته وهي حائض8. فلا مانع حينئذٍ أن يكون الحكم سمع الحديث من مقسم، وسمعه من عبد الحميد بن عبد الرحمن عن مقسم، فرواه عنه مرةً بواسطة ومرةً بدون واسطة.
(1/229 – 230) .
(ح 108 – 110) .
(11/382) ح 12066.
(1/171 – 172) .
(1/314) .
(1/315) .
7 علل ابن أبي حاتم: (1/51) .
8 انظر: تهذيب التهذيب (2/434) .
وقد رُوِيَ حديث مقسم هذا موقوفاً على ابن عباس، حتى أن شعبة نفسه قد تردد فيه، فرواه مرةً بالرفع ومرةً بالوقف، وأشار إلى ذلك أبو داود عقب إخراجه، فقال:"وَرُبَّمَا لم يرفعه شعبة".
فممن رواه موقوفاً غير شعبة: الأعمش، أخرجَ ذلك الدارمي في (مسنده) 1 من طريق: الأعمش، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس موقوفاً.
ومنهم: ابن أبي ليلى، أخرجه الدارمي2 - أيضاً - عن ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن ابن عباس، وعن ابن أبي ليلى، عن مقسم، عن ابن عباس3.
أما شعبة: فقد أخرج الدارمي عن أبي الوليد4، وعن سعيد بن عامر5، كلاهما: عن شعبة، عن الحكم بالإسناد السابق، لكنه موقوف على ابن عباس، وقال شعبة عقبه:"أما حفظي فهو مرفوع، وأما فلانٌ فقالا: غير مرفوع". قال بعض القوم: حَدِّثْنَا بحفظك، ودع ما قال فلانٌ وفلانٌ، فقال:"والله ما أحب أني عمرت في الدنيا عمر نوحٍ، وأني حَدَّثْتُ بهذا أو سَكَتُّ عن هذا".
(1/204) ح 1117.
(1/204) ح 1118، 1123.
3 مسند الدارمي: (1/204) ح 1120.
4 مسند الدارمي: ح 1111.
5 المصدر السابق: ح 1112.
وقد مضت معنا روايات ابن الجارود من طريق شعبة مرفوعاً، وأحدها من طريق سعيد بن عامر عن شعبة، وذكر عقبه نحواً من قول شعبة الذي عند الدارمي، ثم روى ابن الجارود من طريق: بندار عن عبد الرحمن بن مهدي، عن شعبة موقوفاً، فقال رجل لشعبة: إنك كنت ترفعه؟! قال: "كنتُ مَجْنوناً فَصَحَّحْتُ"1. قال ابن القطان رحمه الله معلقاً على مقالة شعبة الأخيرة: "نَظُنُّ أنه رضي الله عنه لَمَّا أُكْثِرَ عليه في رفعه إياه تَوَقَّى رَفعه؛ لا لأنه موقوفٌ، لكن إبعاداً لِلظِنَّةِ عن نفسه. وأبعد من هذا الاحتمال: أن يكون شكَّ في رفعه في ثاني حالٍ فوقفه، فإن كان هذا فلا نُبالي بذلك أيضاً، بل لو نَسِيَ الحديث بعد أن حَدَّثَ به لم يضره.
فإن أبيت إلا أن يكون شعبةُ رجعَ عنه رفعه فاعلم أن غيره من أهل الثِّقَةِ والأمانة أيضاً قد رواه عن الحكم مرفوعاً – كما رواه شعبة فيما تقدم – وهو عمرو بن قيس الملائي، وهو ثقة
…
"2.
وقد رُوي من طرقٍ أخرى عن مقسم مرفوعاً:
منها: ما أخرجه أبو داود في (سننه) 3، والترمذي في (جامعه) 4، والدارمي وأحمد في (مسنديهما) 5، والبيهقي في (سننه) 6 من طرق،
1 المنتقى: (ح110) .
2 بيان الوهم والإيهام: (5/279) .
(1/183) ح 266.
(1/244) ح 136.
5 مي: (1/202) ح 1110. حم: (1/272) .
(1/316) .
عن: شريك، عن خُصَيف1، عن مقسم، عن ابن عباس مرفوعاً، ولفظه:"يَتَصَدَّقُ بِنِصفِ دينار".
وأخرجه الدارمي في (مسنده) 2 من طريق: سفيان الثوري، عن خُصيف، عن ابن عباس مرفوعاً بمثله. وأخرجه أحمد في (مسنده) 3 من هذا الطريق، لكن جعله عن مقسم عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، ثم قال:"وقال شريك: عن ابن عباس".
قلت: ورواية الدارمي له عن الثوري متصلاً توافق رواية شريك المتقدمة، فَتُقَدَّم على الرواية المرسلة.
ونقل ابن القيم عن ابن حزم أنه أَعَلَّ هذه الرواية بشريك وخُصيف، وقال:"كلاهما ضعيفٌ، فَسَقَطَ الاحتجاج به"، ثم نقل ابن القيم أقوال العلماء في الاحتجاج بشريك وخُصيف.
قلت: أما شريك: فقد تابعه الثوري عن خصيف كما تقدم، وأما خصيف: فإنه وإن تُكُلِّمَ فيه، فإن روايته تصلح للاعتبار، وليس الاعتماد عليها وحدها.
1 ابن عبد الرحمن، أبو عون، صدوق سيئ الحفظ، خَلَّطَ بآخرة، وَرُمي بالإرجاء، من الخامسة، مات سنة 137هـ/4. (التقريب 193) .
(1/203) ح 1114.
(1/325) .
ومنها: ما أخرجه الترمذي في (جامعه) 1 من طريق: عبد الكريم2، عن مقسم عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إِذَا كَانَ الدَّمُ أحمر فَدِينار، وإذا كان دَماً أصفر فنصف دينار". ومن هذا الطريق أخرجه كذلك: ابن ماجه في (سننه) 3، والدارمي في (مسنده) 4، وابن الجارود في (المنتقى) 5، والدارقطني والبيهقي في (سننيهما) 6. ولفظ الدارمي والدارقطني والبيهقي: "
…
فإن كان الدَّم عبيطاً فليتصدق بدينار، وإن كان صُفْرَةً فليتصدق بنصف دينار". وعند ابن ماجه:" أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتصدق بنصف دينار". ولفظ ابن الجارود كلفظ حديث الحكم عن مقسم المتقدم.
وَرُوِي من طرق أخرى غير هذه عن مقسم، فهذه الروايات وغيرها تؤكد صحة رواية شعبة المرفوعة، على أنه لا مانع من كون ابن عباس رضي الله عنهما كان يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرةً - وعلى هذا تحمل رواية الرفع - ومرةً كان يُفتي به من قوله، وعليه تُحمل رواية الوقف. وَقَدَّمَ ابن سيد الناس رواية الرفع فقال:"من رَفَعَهُ عن شعبة أَجَلُّ وأكثر وأحفظ ممن وقفه"7.
(1/245) ح 137.
2 ابن مالك الجزري، أبو سعيد مولى بني أمية، ثقة متقن، من السادسة، مات سنة 127هـ/ ع. (التقريب 361) .
وقيل فيه: عبد الكريم بن أبي المُخارق، وذكر ابن الملقن الخلاف في ذلك، ثم قال:"فلعل الحديث عنهما، والله أعلم بالصواب". (البدر المنير 1/397 – 400) .
(1/213) ح 650.
(1/203) ح 1116.
(ح 111) .
6 قط: (1/287) ح 158. هق: (1/317) .
7 نيل الأوطار: (1/351) .
وأما الاختلاف الذي وقع في متنه من قوله مرة: " دينار أو نصف دينار"، ومرةً " نصف دينار " ومرة التفرقة بين لون الدم وصفته: فإن أبا داود رَجَّحَ رواية الحكم ومن تابعه، والتي فيها:" دينار أو نصف دينار" فقال: "هكذا الرواية الصحيحة قال: دينار أو نصف دينار". وكأنَّ الإمام أحمد رحمه الله أخذ بهذه الرواية، فقال:"هو مُخَيَّرٌ بين الدينار والنصف دينار"1. وقال ابن القطان عن هذه الألفاظ المختلفة: "وهذا عند التدين والتحقيق لا يضره"2.
وبعد: فإن هذا الحديث قد صَحَّحَهُ جماعة من الأئمة منهم: أبو داود – كما يفهم من كلامه السابق -، ومال الإمام أحمد إلى تصحيح رواية الحكم بن عبد الحميد المتقدمة، فقال – فيما روى الخلال -:"ما أحسن حديث عبد الحميد" فقيل له: تذهب إليه؟ قال: "نعم"3. ونقل ابن حجر عن الخطابي قوله: "الأصحُّ: أنه متصلٌ مرفوع"4. وقال الحاكم: "صحيح" ووافقه الذهبي، وصححه ابن القَطَّان، فقال – متعقباً عبد الحق-:"ضَعَّفَهُ، وليس بضعيف، بل إما صحيح وإما حسن، وله طريق حسن"5. وَصَحَّحَهُ ابن دقيق العيد، وَأَقَرَّ ابن القطان على تصحيحه6. وَصَوَّبَ ابن حجر تصحيحه - بعد أن نقل كلام ابن
1 معالم السنن: (1/173) .
2 نيل الأوطار: (1/351) .
3 التلخيص الحبير: (1/165) .
4 التلخيص الحبير: (1/166) .
5 بيان الوهم والإيهام: (5/669) .
6 التلخيص الحبير: (1/166) .
القطان وابن دقيق العيد-1. ثم قال: "فكم من حديث قد احتجوا به فيه من الاختلاف أكثر مما في هذا، كحديث "بئر بضاعة"،"وحديث القلتين"ونحوهما. وفي ذلك ما يَرَدُّ على النووي في دعواه في (شرح المهذب) ، (والتنقيح)، (والخلاصة) : أن الأئمة كُلَّهُم خالفوا الحاكم في تصحيحه
…
". وصَحَّحَهُ كذلك العلامة أحمد شاكر وتوسع في الكلام عليه واستيفاء طرقه2. وكذا العلامة الألباني3 رحمه الله.
فَثَبَتَ بذلك صحَّة الحديث، وأنه لا مجال لإعلالِهِ بروايةِ الوقف، وإن كان ابن القيم رحمه الله قد قال بأنَّ ذلك هو علته المؤثرة، إلا أن ظاهر صنيعه يدلُّ على اختيار تصحيحه، فقد نقل أقوال بعض العلماء في تصحيحه، ونقل بعضاً من طرقه، وردَّ قول ابن حزم في إعلاله، كما تقدم نقل كلامه في ذلك.
1 التلخيص الحبير: (1/166) .
2 التعليق على (جامع الترمذي) : (1/246 – 254) .
3 إرواء الغليل: (1/217) ح 197.