الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
9-
من كتاب النكاح
1- باب في البكر لا تزوج إلا برضاها
72-
(1) عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أَنَّ جَاريةً بِكْرَاً أَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَتْ أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وِهِي كَارِهَةٌ، فَخَيَّرَهَا النبي صلى الله عليه وسلم".
أورد ابن القَيِّم رحمه الله هذا الحديث مستدلاً به على أن البكر البالغ لا تجبر على النكاح، ولا تُزَوَّج إلا برضاها.
وقد ردَّ ابن القَيِّم رحمه الله على من أَعَلَّ هذا الحديث بالإرسال، فقال: "وليس رواية هذا الحديث مرسلة بعِلَّةٍ فيه؛ فإنه قد رُوِيَ مسنداً ومرسلاً، فإن قلنا بقول الفقهاء: إن الاتصال زيادة، ومن وصله مُقَدَّمٌ على من أرسله: فظاهر، وهذا تصرفهم في غالب الأحاديث، فما بال هذا خرج عن حكم أمثاله؟
وإِنْ حَكَمْنَا بالإرسال - كقول كثير من الْمُحَدِّثِين - فهذا مرسل قويٌّ قد عَضَّدَتْهُ الآثار الصحيحة الصريحة، والقياس، وقواعد الشرع
…
فَيَتَعَيَّنُ القول به"1.
وفد فَصَّلَ القول فيه بأكثر من ذلك في (تهذيب السنن) 2، وسيأتي ذكر كلامه في ذلك إن شاء الله.
1 زاد المعاد: (5/96 - 97) .
(3/40 - 42) .
والحديث المذكور أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه في (سننهم) 1، وأحمد في (مسنده) 2، والدارقطني، والبيهقي في (سننيهما) 3، كُلُّهم من طريق:
حسين بن محمد4، عن جرير بن حازم، عن أيوب5، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما به، باللفظ الذي تَقَدَّمَ. وفي رواية للدارقطني:"أَنَّ جَارِيَةً بِكْرَاً أَنْكَحَهَا أبوهَا وهي كارهة، فَخَيَّرَهَا رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وقد خُولِفَ جرير بن حازم في إسناد هذا الحديث، خالفه: حماد ابن زيد، وابن علية، فروياه عن: أيوب، عن عكرمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً.
أخرج حديث حماد: أبو داود في (سننه) 6 - ومن طريقه البيهقي7-:
1 د: (2/576) ك النكاح، باب في البكر يزوجها أبوها ولا يستأمرها. س: في الكبرى: (5/176) ح 5366 ك النكاح. جه: (1/603) ح 1875 ك النكاح، باب من زَوَّجَ ابنته وهي كارهة.
(1/273) .
3 قط: (3/234) ح 56. هق: (7/117) .
4 ابن بهرام، التميمي، أبو أحمد - أو أبو عليُّ - المَرُّوذي، نزيل بغداد، ثقةٌ، من التاسعة، مات سنة 213هـ / ع. (التقريب 168) .
5 هو السختياني.
(2/577) ح 2097.
(7/117) .
حدثنا محمد بن عبيد1، حدثنا حماد بن زيد به.
وأما رواية ابن علية: فقد أشار إليها أبو حاتم2 رحمه الله.
وقد رَجَّحَ الأئمة رواية الإرسال، وحكموا على الرواية المتصلة بالخطأ، فسأل ابن أبي حاتم أباه عنه؟ فقال:"هذا خطأ، إنما هو كما رواه الثقات: عن أيوب، عن عكرمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلٌ - منهم: ابن عُلَيَّة، وحماد بن زيد - أن رجلاً تزوج، وهو الصحيح. قلت: الوَهْمُ ممن هو؟ قال: من حسين ينبغي أن يكون، فإنه لم يرو عن جرير غيره"3. وقال أبو زرعة: "حديث أيوب ليس هو بصحيح"4.
وكأنَّ أبا داود رحمه الله يُرَجِّحُ إرساله أيضاً؛ فإنه بعد أن أخرج الموصول، أعقبه الرواية المرسلة من طريق حماد، ثم قال:"وكذلك رواه الناس: مرسلاً، معروف". وقال البيهقي: "أخطأ فيه جرير بن حازم على أيوب السختياني، والمحفوظ: عن أيوب، عن عكرمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً".
لكن هل يُسَلَّمُ الحكم للمرسل، وتكون بذلك الرواية الْمُتَّصِلَةُ معلولة؟ نَازَعَ في ذلك جماعة - منهم ابن القَيِّم رحمه الله، كما تقدم - فحكموا بصحة رواية من وصله، وسيأتي كلامهم.
1 ابن حَسَّاب، الغبري، البصري، ثقةٌ، من العاشرة، مات سنة 238هـ / م د س. (التقريب 495) .
2 علل ابن أبي حاتم: (1/417) .
3 المصدر السابق.
4 المصدر السابق.
وكان من جواب ابن القَيِّم رحمه الله على هذا القول - وبخاصة مقالة البيهقي - أن قال: "وعلى طريقة البيهقي، وأكثر الفقهاء، وجميع أهل الأصول: هذا حديث صحيح؛ لأن جرير بن حازم ثقة ثبت، وقد وَصَلَهُ، وهم يقولون: زيادة الثقة مقبولة. فما بالها تُقْبَلُ في موضع - بل في أكثر المواضع التي توافقُ مذهب المقلد - وَتُرَدُّ في موضع يخالفه؟! وقد قَبلُوا زيادة الثقة في أكثر من مائتين من الأحاديث: رفعاً ووصلاً، وزيادة لفظ ونحوه".
قال: "هذا لو انفرد به جرير، فكيف وقد تابعه على رفعه عن أيوب: زيد بن حبان، ذكره ابن ماجه في سننه"1.
قلت: أما متابعة زيد بن حبان2 هذه: فقد أخرجها النسائي، وابن ماجه في (سننيهما) 3، كلاهما من طريق: مُعَمَّر بن سليمان الرَّقِي4، عن زيد بن حبان به، وقد أشار إلى هذه الرواية: الدارقطني رحمه الله في (سننه)5.
1 تهذيب السنن: (3/40) .
2 الرَّقِي، كوفي الأصل، مولى ربيعة، صدوق كثير الخطأ، وتَغَيَّر بآخره، من السابعة، مات سنة 158 هـ / س ق. (التقريب 222) .
3 س: في الكبرى: (5/177) ح 5367. جه: (1/603) ح 1875 مكرر.
4 أبو عبد الله، ثقة فاضل، أخطأ الأزدي في تليينه، وأخطأ من زعم أن البخاري أخرج له، من التاسعة، مات سنة 191هـ / ت س ق. (التقريب 541) .
(3/235) ح 57.
وزيد بن حبان هذا: قد اختلف الأئمة فيه، فقال الإمام أحمد:"تركنا حديثه"1. وقال ابن معين: "لا شيء"2. ومرة قال: "ثقة"3. وقال أبو حاتم: "تركنا حديثه"4. وضعفه الدارقطني5. وقال ابن عدي: "لا أرى برواياته بأساً، يحمل بعضها بعضهاً"6. وقال ابن حبان: "كان ممن يخطئ كثيراً، حتى خرج عن حدِّ الاحتجاج به إذا انفرد"7. ومع ذلك فقد ذكره في (الثقات) ! 8.
وإضافة إلى ذلك، فإنه قد تَغَيَّرَ بآخره، لكنَّ معمراً الرقي - راوي هذا الحديث عنه - قال:"حدثنا زيد بن حبان قبل أن يفسد"9.
وعلى كل حال، فإن الذي يظهر: ترجيح جانب الجرح في حقه، وقد أورد ابن حبان هذا الحديث في ترجمته من (المجروحين) ، بعد أن حكم بعدم قبول ما انفرد به.
وقد رُوِيَ هذا الحديث عن زيد بن حبان، عن أيوب على وجه آخر، فأخرجه الدارقطني في (سننه) 10 من طريق: معمر بن سليمان
1 تهذيب التهذيب: (3/405) .
2 الجرح والتعديل: (1/2/561) .
3 عزاه في الميزان: (2/101)، والتهذيب:(3/405) لرواية الدارمي عن، يحيى، ولم أجده فيه.
4 الجرح والتعديل: (1/2/561) .
5 تهذيب التهذيب: (3/405) .
6 الكامل: (3/205) .
7 المجروحين: (1/311) .
(6/317) .
9 الجرح والتعديل: (1/2/561) .
10 (3/235) ح 57.
الرقي، عن زيد بن حبان، عن أيوب، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة قال:"أَنْكَحَ رَجُلٌ من بني المنذر ابنته وهي كارهة، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فردَّ نكاحها". فجعل فيه "يحيى بن أبي كثير" مكان "عكرمة"، و"وأبا سلمة" مكان "ابن عباس". وليس فيه أن المرأة كانت بكراً. فَيُخْشَى أن يكون هذا من الاضطراب في حديث حبان، وإذا كان كذلك، فإنه لا يصلح متابعاً لجرير بن حازم في هذا الحديث؛ لأنه - مع كونه كثير الخطأ - قد يكون اضطرب فيه، فالله أعلم.
وثمة متابعة أخرى لجرير بن حازم، إذ تابعه الثوري عن أيوب، أخرج ذلك الدارقطني في (سننه) 1، من طريق: أيوب بن سويد2، عن سفيان الثوري، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما:"أن رجلاً زَوَّجَ ابنته وهي كارهة، ففرق بينهما".
وأيوب بن سويد: ضَعَّفَه الجمهور3، وتكلموا في حفظه، ومع ضعفه: فقد خولف - أيضاً - في هذا الحديث، قال الدارقطني:"وغيره يرسله عن الثوري، عن أيوب، عن عكرمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، والصحيح مرسل"4.
وقد رُوِيَ عن الثوري من وجه آخر موصولاً، ولا يصحُّ أيضاً؛
(3/235) ح 58.
2 الرملي، أبو مسعود الحِمْيَرِي، السَّيباني، صدوق يخطئ، من التاسعة، مات سنة 293هـ / د ت ق. (التقريب 118) .
3 انظر: تهذيب التهذيب: (1/405 - 406) .
4 سنن الدارقطني: (3/235) .
فأخرجه الدارقطني والبيهقي في (سننيهما) 1 من طريق: عبد الملك بن عبد الرحمن2 الذماري، عن الثوري، عن هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردَّ نكاح بكرٍ وثيبٍ، أنكحهما أبوهما وهما كارهتان، فردَّ النبي صلى الله عليه وسلم نكاحهما".
قال الدارقطني عقبه: "هذا وهمٌ من الذماري، وتَفَرَّدَ بهذا الإسناد، والصواب: عن يحيى بن أبي كثير، عن المهاجر، عن عكرمة مرسلٌ، وَهِمَ فيه الذماري عن الثوري، وليس بقويٍّ". ثم ساقه بإسناده إلى محمد بن كثير3، عن سفيان، عن هشام الدستوائي، عن يحيى، عن المهاجر، عن عكرمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله سواء4.
قال البيهقي في (سننه) 5 - بعد نقله كلام الدارقطني -: "هو في جامع الثوري: عن الثوري - كما ذكره أبو الحسن الدارقطني رحمه الله مرسلاً، وكذلك رواه عامة أصحابه عنه، وكذلك رواه غير الثوري عن هشام".
1 قط: (3/234) ح 53. هق: (7/117) .
2 ابن هشام، أبو هشام الذَّماري، الأبْنَاوي، صدوقٌ كان يُصَحِّفُ، من التاسعة/د س. (التقريب 363) .
3 العبدي، البصري، ثقة لم يُصِبْ من ضَعَّفَهُ، من كبار العاشرة، مات سنة 223هـ/ع. (التقريب 504) .
4 سنن الدارقطني: (3/234) ح 55.
(7/117) .
قلت: فهذا محمد بن كثير العبدي - وهو ثقة - قد خالف الذماري عن سفيان، فجاء به مرسلاً، وهكذا يرويه أصحاب الثوري عنه، كما قال البيهقي رحمه الله والدارقطني قبله - وإذا كان كذلك: فإن رواية الثوري هذه لا تَصْلُحُ لمتابعة رواية جرير بن حازم أيضاً؛ إذ إن الصواب عن الثوري فيها: مرسلٌ، فتوافق رواية الجماعة الذين جاءوا به عن أيوب، عن عكرمة مرسلاً.
وأما ما تقدم في كلام أبي حاتم رحمه الله من أن الوهم فيه من حسين بن محمد: فقد رَدَّهُ الخطيب البغدادي رحمه الله، فنقل عنه ابن عبد الهادي قوله:"قد رواه سليمان بن حرب، عن جرير بن حازم -أيضاً- كما رواه حسين، فبرئت عهدته، وزالت تبعته"1. وإذا كان الأمر كذلك، فإنه لا يمتنع أن يكون الوهم فيه من جرير بن حازم، وأن يكون قد أخطأ فيه، كما تقدم في كلام البيهقي رحمه الله.
فَتَلَخَّصَ من ذلك: أن هذا الحديث لا يصحُّ متصلاً، وأن إرساله هو الصواب، كما قال: أبو داود، وأبو حاتم، وأبو زرعة، والدارقطني، والبيهقي رحمهم الله تعالى.
وقد ذهب بعض الأئمة إلى صحة الحديث، فقال ابن القطان:"حديث صحيح"2. وذهب ابن التركماني إلى أن وصله زيادة من ثقة، فلا يضرُّ إرسال من أرسله، هذا مع المتابعات التي وُجِدَتْ له3. وقال
1 نصب الراية: (3/190) .
2 المصدر السابق.
3 الجوهر النقي: (7/117) .
الحافظ ابن حجر: "رجاله ثقات
…
وأما الطَّعْنُ في الحديث فلا معنى له؛ فإن طرقه يُقَوِّي بعضها بعضاً"1. وقال في (عون المعبود) 2: "الحديث قويٌّ حسنٌ".
وقد ذهب البيهقي رحمه الله على فرض صحة الحديث - إلى تأويله، فقال:"وإن صحَّ ذلك، فكأنه كان وَضَعَهَا في غير كفوٍ، فَخَيَّرَهَ النبي صلى الله عليه وسلم"3. وأَيَّدَه ابن حجر، فقال: "وهذا الجواب هو المعتمد، فإنها واقعة عين، فلا يثبت الحكم فيها تعميماً"4.
لكن ردَّ الصنعاني هذا التأويل، فقال: "كلام هذين الإمامين محاماة عن كلام الشافعي ومذهبهم، وإلا فتأويل البيهقي لا دليل عليه، فلو كان كما قال لذكرته المرأة
…
وقول المصنف - يعني ابن حجر - إنها واقعة عين: كلام غير صحيح، بل حُكْمٌ عامٌ لعموم عِلَّتِه، فأينما وُجِدت الكراهية ثبت الحكم"5. وقال صاحب (عون المعبود) 6:"ما قاله البيهقي هو تأويل فاسد".
وإذ قد آل الأمر إلى ثبوت المرسل في ذلك دون سواه، فإنه كما قال ابن القَيِّم رحمه الله:"
…
مرسلٌ قويٌّ، قد عضدته الآثار
1 فتح الباري: (9/196)، وانظر: التلخيص الحبير: (3/161) .
(6/223) .
3 سنن البيهقي: (7/118) .
4 فتح الباري: (9/196) .
5 سبل السلام: (3/160) .
(6/223) .
الصحيحة الصريحة، والقياس، وقواعد الشَّرْع
…
فيتعين القول به"1.
ثم أخذ رحمه الله في تقرير ذلك وبيانه، وأن هذا الحُكْمَ2 موافق لأمر النبي صلى الله عليه وسلم في قول: "
…
والبكر تُسْتَأَذَنُ في نفسها" 3. قال رحمه الله: "وهذا أمرٌ مُؤَكَّدٌ؛ لأنه وَرَدَ بصيغة الخبر الدال على تحقق المُخْبَرِ به، وثبوته ولزومه".
قلت: وعلى هذا يُحْمَل كلام من صححه من الأئمة.
ثم بَيَّنَ أن هذا الحكم موافق - أيضاً - لنهيه صلى الله عليه وسلم، حيث قال:"لا تنكحُ البكْرُ حَتَّى تُستأذن"4. قال رحمه الله: "فأمرٌ، ونَهْيٌ، وحكمٌ بالتخيير، وهذا إثبات للحكم بأبلغ الطُّرقِ"5.
ثم أخذ في تقرير كون هذا الحكم موافق لقواعد الشريعة، فأجاد وأفاد رحمه الله.
ومع هذا فإنَّ المسلك الذي سلكه ابن القَيِّم رحمه الله من القول بصِحَّةِ هذا الحديث متصلاً، فيه نظر؛ لضعف طرقه، ورجحان
1 زاد المعاد: (5/97) .
2 وهو: تخييرُ البِكْرِ التي زَوَّجَهَا وليها وهي كارهة.
3 أخرجه مسلم في الصحيح: (2/1037) ح 1421 ك النكاح، باب استئذان الثيب
…
والبكر بالسكوت.
4 أخرجه البخاري في الصحيح: ك النكاح، باب لا ينكح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاهما، ح 5136، (فتح الباري: 9/191) ، ومسلم:(ح1419) .
5 زاد المعاد: (5/97) .
المرسل عليه، ولذا فإنَّ المصير إلى اختياره الآخر هو المتعين، وهو: الأخذُ بالمرسل بعد اعتضاده بنصوص أخرى صحيحة، وبقواعد الشريعة، والله أعلم.