الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
11- باب التسليم في الصلاة وما جاء في التسليمة الواحد
ة
ذكر ابن القَيِّم رحمه الله: أن هديه صلى الله عليه وسلم كان التسليم عن يمينه وعن يساره، وأن ذلك مرويٌّ عن النبي صلى الله عليه وسلم عن خمسة عشر صحابياً، ثم ذكر حديث عائشة رضي الله عنها في التسليمة الواحدة، فقال: "رُوِيَ عنه صلى الله عليه وسلم:
30-
(15)" أنه كان يُسَلِّمُ تسليمةً واحدةً تلقاءَ وجهه".
ثم قال: "ولكنْ لم يثبت عنه ذلك من وجهٍ صحيح"1
وتعرَّض رحمه الله لهذه القضية في (إعلام الموقعين) 2 فَذَكَر ضَعْفَ أحاديث التسليمة الواحدة، ومنها هذا الحديث ثم قال:"أما حديث عائشة: فمعلولٌ باتفاق أهل العلم بالحديث". ثم بَيَّنَ أقوال العلماء فيه.
ثم قال ابن القَيِّم: "وأجود ما فيه:
31-
(16) حديث عائشة رضي الله عنها: " أنه صلى الله عليه وسلم كان يُسَلِّمُ تسليمةً واحدةً: السلام عليكم، يرفع بها صوته حتى يُوقِظَنَا".
قال: "وهو حديث معلول، وهو في السنن، لكنه كان في قيام الليل
…
"3.
1 زاد المعاد: (1/258 - 259) .
(2/377 - 380) .
3 زاد المعاد: (1/259) .
قلت: أما الحديث الأول: فإنه يُروى عن زهير بن محمد1، عن هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها. ورواه عن زهير: عمرو بن أبي سلمة2، وتابعه عبد الملك بن محمد3.
أما رواية عمرو بن أبي سلمة: فأخرجها الترمذي في (جامعه) 4، والدارقطني في (سننه) 5، وابن خزيمة وابن حبان في (صحيحهما) 6، والحاكم في (المستدرك) 7، والبيهقي في (السنن) 8، والعقيلي في (الضعفاء)9. كلهم بالإسناد المذكور، إلى عائشة رضي الله عنها: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُسَلِّمُ في الصلاة تسليمة واحدةً تلقاء وجهه، يميل إلى الشقِّ الأيمن شيئاً". هذا لفظ الترمذي. وهو لفظ ابن خزيمة،
1 التميمي، أبو المنذر الخراساني، سكن الشام ثم الحجاز، رواية أهل الشام عنه غيرُ مستقيمة فَضُعِّفَ بسببها، قال البخاري عن أحمد:"كأنَّ زهيراً الذي يروي عنه الشاميون آخر". وقال أبو حاتم: "حَدَّثَ بالشام من حفظه فكثر غلطه" من السابعة، مات سنة 162هـ / ع. (التقريب 217) .
2 التِّنِّيسي، أبو حفص الدمشقي، مولى بني هاشم، صدوق له أوهام، من كبار العاشرة، مات سنة 213هـ أو بعدها / ع. (التقريب 422) .
3 الحميري البرسمي، من أهل صنعاء دمشق، لَيِّنُ الحديث، من التاسعة / د س ق. (التقريب 365) .
4 ت: (2/90) ح 296 ك الصلاة، باب ما جاء في التسليم في الصلاة.
(1/357) ح 7.
6 خز: (1/360) ح 729، حب:(الإحسان) : (3/224) ح 1992.
(1/230) .
(2/179) .
(3/272) .
والحاكم، والدارقطني، والبيهقي، إلا أن عند الحاكم:"قليلاً شيئًا"بدل "شيئاً"، وعند الدارقطني:"قليلاً"وعند البيهقي "شيئاً أو قليلاً".
أما لفظ ابن حبان فهو: "
…
يميل بها وجهه إلى القبلة". وجاء عند العقيلي مختصراً، فقال: " كان يُسَلِّم تَسليمةً واحدةً".
وأما رواية عبد الملك بن محمد، عن زهير: فأخرجها ابن ماجه في (سننه) 1، ولفظه:" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُسَلِّمُ تسليمة واحدةً تلقاء وجهه".
كذا رواه عبد الملك، وعمرو بن أبي سلمة مرفوعاً، وخالفهما الوليد ابن مسلم2 فرواه عن زهير عن هشام، عن أبيه، عن عائشة موقوفاً:"أنها كانت تسلم تسليمة واحدة". أخرجه كذلك العقيلي في كتابه (الضعفاء)3.
وقد حَكَمَ الأئمة بصحةِ الرواية الموقوفة، وأنَّ رَفْعَهُ لا يصحُّ؛ فقال أبو عيسى الترمذي:"حديث عائشة لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه، قال محمد بن إسماعيل: زهير بن محمد: أهل الشام يروون عنه مناكير، ورواية أهل العراق عنه أشبه وأصحُّ". وقال أبو حاتم - حينما سئل عن الرواية المرفوعة -: "هذا حديث منكرٌ، وهو عن عائشة
(1/297) ح 919، ك إقامة الصلاة، باب من يسلم تسليمة واحدة.
2 القرشي مولاهم، أبو العابس الدمشقي، ثقة لكنه كثير التدليس والتسوية. من الثامنة، مات سنة 194 هـ / ع. (التقريب 584) .
(3/273) .
موقوف"1. وَرَجَّحَ الوقف أيضاً: البزار، كما نقله عنه الحافظ ابن حجر2. وقال العقيلي: "ورواية الوليد أولى" يعني الموقوفة. وقال الدارقطني - بعد أن ذكر أوجه الاختلاف فيه على زهير -: "وهو الصحيح - يعني الموقوف - ومن رَفَعَهُ فقد وَهِم"3. وقال ابن عبد البر: "وأما حديث عائشة
…
فلم يرفعه أحدٌ إلا زهير بن محمد وحده، عن هشام بن عروة، عن أبيه
…
وزهير بن محمد ضعيف عند الجميع، كثير الخطأ لا يحتجُّ به"4.
قلت: وفيما قال أبو عمر نظر؛ فإن زهير بن محمد وَثقَهُ جماعة، فقال أحمد:"ثقة". وقال قال مرة: "لا بأس به"، وقال ابن معين:"ثقة". وقال مرة: "لا بأس به". وقال عثمان الدارمي وصالح بن محمد: "ثقة صدوق". وقال يعقوب بن شيبة: "صدوق صالح الحديث"5. والوهم في هذا الحديث على الرواة عنه: عمرو بن أبي سلمة التنيسي أو غيره، فقد قال الإمام أحمد: "
…
وأما أحاديث أبي حفص ذاك التنيسي عنه: فتلك بواطيل موضوعة
…
"6. وقال النسائي: "ليس به بأس، وعند
1 علل ابن أبي حاتم: (1/148) ح 414.
2 التلخيص الحبير: (1/270) .
3 علل الدارقطني: ج4 (ق 40) .
4 الاستذكار: (2/214) .
5 انظر أقوالهم فيه على الترتيب في: بحر الدم (رقم 318) ، تاريخ الدوري عن ابن معين (2/176) رقم 4752، وسؤالات ابن الجنيد لابن معين (رقم 564)، وتهذيب التهذيب:(3/349 - 350) .
6 تهذيب التهذيب: (3/349) .
عمرو بن أبي سلمة - يعني التنيسي - عنه مناكير"1.
وقد نصَّ على مثل ذلك: الطحاوي رحمه الله فقال: "وزهير ابن محمد وإن كان رجلاً ثقة، فإن رواية عمرو بن أبي سلمة عنه تُضَعَّفُ جداً"2.
وانفرد الحاكم أبو عبد الله بتصحيحه مرفوعاً، فقال:"صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه". ولكن تَعَقَّبَهُ النووي، فقال: "ضَعَّفَهُ الجمهور، ولا يقبل تصحيح الحاكم له ونحوه
…
"3. وكذا ضَعَّفَهُ أبو محمد بن حزم4.
أما الوليد بن مسلم: فقد جاء به عن زهير موقوفاً، وقال في آخره:"فقلت لزهير بن محمد: فهل بلغك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيء؟ قال: نعم، أخبرني يحيى بن سعيد الأنصاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسلم تسليمة"5. قال ابن حجر عقب هذا الكلام: "فَتَبَيَّنَ أن الرواية المرفوعة وهمٌ"6.
قلت: وصَرَّحَ الوليد فيه بالتحديث عن زهير، فانتفت بذلك شبهة التدليس الذي عُرِفَ به. وقد صَحَّحَ الأئمة روايته، وقَدَّمُوها على رواية من رفعه.
1 تهذيب التهذيب: (3/349 - 350) .
2 شرح معاني الآثار: (1/270) .
3 خلاصة الأحكام: (ق60) .
4 المحلى: (3/279) .
5 ضعفاء العقيلي: (3/273) .
6 التلخيص الحبير: (1/270) .
فإذا تَبَيَّنَ ذلك علمنا أن ابن القَيِّم رحمه الله قد أصاب حين قال: "ولكن لم يثبت عنه ذلك - أي النبي صلى الله عليه وسلم من وجه صحيح"1.
ومما يؤيد صحة رواية الوقف: أنه قد رُوي عن عائشة - من غير وجه - عن عبيد الله بن عمر2، عن القاسم، عنها موقوفاً عليها:
فأخرج ابن خزيمة في (صحيحه) 3 من طريق عبد الوهاب بن عبد المجيد4، ومن طريق وهيب بن خالد5، ومن طريق يحيى بن سعيد: ثلاثتهم عن:
عبيد الله بن عمر، عن القاسم، عن عائشة:" أنها كانت تُسَلَّمُ تسليمة واحدة قُبالَةَ وجهها: السلام عليكم"هذا لفظ وهيب.
وعَلَّقَهُ الحاكم عن وهيب6، وأخرجه البيهقي من طريق
1 زاد المعاد: (1/259) .
2 ابن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العُمَري، المدني، أبو عثمان، ثقة ثبت، قَدَّمَهُ أحمد بن صالح على مالك في نافع، وقَدَّمَهُ ابن معين في القاسم عن عائشة، على الزهري عن عروة عنها، من الخامسة، مات سنة بضع وأربعين/ ع. (التقريب 373) .
(1/360) ح 730 - 732.
4 ابن الصلت الثقفي، أبو محمد البصري، ثقةٌ تَغَيَّرَ قبل موته بثلاث سنين، من الثامنة، مات سنة 194 هـ / ع. (التقريب 368) .
5 ابن عجلان الباهلي مولاهم، أبو بكر البصري، ثقة ثبت لكنه تَغَيَّرَ قليلاً بآخرة، من السابعة، مات سنة 165هـ / ع. (التقريب 586) .
6 المستدرك: (1/231) .
عبد الوهاب1. قال الحافظ ابن حجر عن طريق وهيب: "وهذا سند صحيح"2.
هذا ما يتعلق بهذا الحديث في التسليمة الواحدة، أما الحديث الآخر الذي ساقه ابن القَيِّم رحمه الله عن عائشة أيضاً في صلاته صلى الله عليه وسلم بالليل، وقوله فيه:"وهو حديث معلول".
فقد أخرجه ابن حبان في (صحيحه) 3 من طريق: قتادة، عن زرارة ابن أوفى، عن سعد بن هشام4، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوتر بتسع ركعات لم يقعد إلا في الثامنة، فيحمد الله ويذكره ويدعو، ثم ينهض ولا يُسَلِّم، ثم يصلي التاسعة، ويذكر الله ويدعو، ثم يسلم تسليمة يسمعناه، ثم يصلي ركعتين وهو جالس". وهو عند أبي داود في رواية5.
قال الحافظ ابن حجر: "إسناده على شرط مسلم، ولم يستدركه الحاكم، مع أنه أخرج حديث زهير بن محمد عن هشام كما قدمناه"6. يعني الحديث الذي مضى معنا قبل قليل، والذي رَجَّحَ الحفاظ وقفه.
1 في سننه: (2/179) .
2 التلخيص الحبير: (1/270) .
3 الإحسان: (4/72) . ح 2433.
4 ابن عامر الأنصاري، المدني، ثقة، من الثالثة، استشهد بأرض الهند / ع. (التقريب232) .
5 السنن: (2/89) ح 1345.
6 التلخيص الحبير: (1/270) .
وقد أخرجه أبو داود في (سننه) 1 من طريق: بهز بن حكيم، عن زرارة، عن عائشة رضي الله عنه بنحو حديث ابن حبان، وسياقه أطول، وفيه: "ويسلم تسليمة واحدةً شديدةً يكاد يوقظ أهل البيت من شدة تسليمه
…
"وهذه هي الرواية التي أشار إليها ابن القَيِّم رحمه الله.
قال المنذري عقب رواية أبي داود هذه: "ورواية زرارة بن أوفى، عن سعد بن هشام، عن عائشة هي المحفوظة، وعندي في سماع زرارة من عائشة نظرٌ، فإن أبا حاتم الرازي قال: سمع زرارة من عمران بن حصين، ومن أبي هريرة، ومن ابن عباس
…
قال: هذا ما صحَّ له2. وظاهر هذا أنه لم يسمعه عنده من عائشة"3.
قلت: ولعلَّ هذا الذي ذكره المنذري هو ما عَنَاهُ ابن القَيِّم بقوله: "حديث معلول". وقد تقدم: أن رواية ابن حبان سالمة من هذه العلة، فإن فيها:"زرارة، عن سعد بن هشام، عن عائشة". وأنها هي الصواب.
وقد ذهب ابن القَيِّم رحمه الله كما تقدم - إلى أن هذا الحديث هو أجودُ ما رُوِيَ في التسليمة الواحدة، إلا أنه لا يُعارض حديث التسليمتين؛ لأن حديث عائشة هذا في قيام الليل خاصة، والآخر في الفرض والنفل.
على أنه إن قُدِّرَ تعارضهما، فإن ابن القَيِّم يرى أنَّ حديث التسليمتين أرجح من الآخر لوجوه:
(2/89 - 91) ح 1346 - 1348.
2 انظر: علل ابن أبي حاتم: (ص 63) .
3 مختصر سنن أبي داود: (2/101) .
أولها: أن الذين رووا أحاديث التسليمتين أكثر عدداً، وأحاديثهم أصحَّ، فهي تدور ما بين الصحيح والحسن.
ثانيها: أن عائشة رضي الله عنها -لم تنف التسلمية الثانية، بل سَكَتَتْ عنها، فلا يُقَدَّمُ سكوتها على من ذكرها وضبطها وحفظها1.
قلت: ولعلَّ سكوتها رضي الله عنها عن التسلمية الثانية لأنها لم تسمعها فربما كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع صوته بالأولى بقصد الإيقاظ، ويخفض صوته بالثانية، فَحَكَتْ عائشة رضي الله عنها ما سمعته وحكى غيرها ما رأى وسمع.
وقد ذهب الشيخ أحمد شاكر رحمه الله إلى الجمع بين الروايتين فقال: "
…
إن التسليمة الواحدة كانت منه صلى الله عليه وسلم في بعض الأحيان في صلاة الليل، والصحابة الذين رووا عنه التسليمتين إنما يحكون التسليم الذي رأوه في صلاته في المسجد وفي الجماعة، وبهذا نجمع بين الروايتين"2.
فالحاصل: أنه لم يثبت شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم في التسليمة الواحدة في الصلاة المكتوبة، وأن الحديث المرويَّ في ذلك: الصحيح أنه موقوف على عائشة من فعلها. وقد قَرَّرَ ابن القَيِّم رحمه الله عدم ثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه صحيح. وأن ما صحَّ عن النبي في ذلك: إنما وقع
1 انظر: زاد المعاد: (1/259) .
2 حاشية جامع الترمذي: (2/92) .
في صلاة الليل فلا يعارض حديث التسليمتين، ولو قُدِّرَ التعارض فحديث التسليمتين أرجح من الآخر لأمور ذكرها ابن القَيِّم رحمه الله.
على أن قوماً ذهبوا إلى التسلمية الواحدة في المكتوبة، كما قال الترمذي1 رحمه الله. وقال الليث بن سعد:"أدركت الأئمة والناس يُسَلِّمُون تسليمة واحدة: السلام عليكم"2. وذهب ابن خزيمة رحمه الله إلى أن ذلك من اختلاف المباح، وأن المُصَلى في ذلك مُخَيَّرٌ كما هو مذهب الحجازيين3. وكذا قال ابن عبد البر في "الاستذكار"4: "وكلُّ ما جرى هذا المجرى فهو اختلاف في المباح كالأذان، ولذلك لا يُرْوَى عن عالم بالحجاز ولا بالعراق ولا بالشام ولا بمصر إنكار التسليمة الواحدة ولا إنكار التسليمتين، بل ذلك عندهم معروف
…
".
1 في جامعه: (2/93) .
2 الاستذكار: (2/212) .
3 صحيح ابن خزيمة: (1/360) .
(2/214) .