الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسجد ودوره في التربية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وبعد:
فأول ما يبدو لي أن أهنئ جوار هذا المسجد المبارك إن شاء الله والذي نرجوأن يكون قد أُسِّس على تقوى من الله، ولا يكون المسجد قد أسس على
تقوى من الله تبارك وتعالى إلا إذا كان على سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ ذلك أن من سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أول ما هاجر من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة كان أول ما بدأ به هوأن بنى مسجده عليه الصلاة والسلام؛ ذلك لأن المساجد هي مأوى ومجتمع المسلمين، بل هي مدرستهم التي يتلقون فيها الدروس التي تعلمهم شريعة الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولذلك كثرت الأحاديث التي تحض المسلمين على بناء المساجد وبخاصة في الأرض أوفي المحلة التي لا مسجد فيها، من ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:«ما من ثلاثة في بدولا يؤذن فيهم ولا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان» ، «إلا استحوذ عليهم الشيطان»
…
أي: أحاط بهم: «فعليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية» ، ولذلك كان من الواجب على كل مسلم مكلف أن يحافظ على أداء الصلوات الخمس في المسجد وليس أن يصلي في داره أوفي دكانه أوفي معمله، بل عليه أن يدع كل شيء يشغله عن الاستجابة لداعي الله ألا وهو المؤذن حينما يقول: حي على الصلاة ..
حي على الفلاح، فحينما يسمع المسلم هذا الأمر المنظم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كل يوم خمس مرات؛ ذلك لكيلا يكون لأي مسلم عذر في التخلف عن صلاة الجماعة، فقد قال عليه الصلاة والسلام:«من سمع النداء ولم يجب ولا عذر له فلا صلاة له» ، هذا حديث يحض المسلمين على أن يجيب نادي الله حينما يقول: حي على الصلاة حي على الفلاح، فإذا لم يفعل ولم يكن له عذر شرعي فصلاته تدور بين ألا ترفع مطلقاً أي: ألا تكون مقبولة وبين أن تكون مقبولة في أدنى درجات الثواب والأجر، ولذلك أكد النبي صلى الله عليه وآله وسلم المعنى المتضمن في هذا الحديث الآمر كل من يسمع النداء أن يجيب بمثل قوله عليه الصلاة والسلام: «لقد هممت أن آمر رجلاً فيصلي بالناس ثم آمر رجلاً فيحطب حطباً، ثم أخالف إلى أناس يدعون الصلاة مع الجماعة فأحرق عليهم بيوتهم، والذي
نفس محمد بيده لو يعلم أحدهم أن في المسجد مرماتين حسنتين لشهدها»، في هذا الحديث وعيد شديد جداً لمن يتخلف عن الصلاة في مسجد المسلمين دون عذر شرعي أنه يستحق أن يحرق بالنار في الدنيا قبل الآخرة؛ ذلك لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد قال كما سمعتم:«لقد هممت أن آمر رجلاً فيصلي بالناس» أي: نيابة عنه: ثم هويفعل ما يأتي، قال:«ثم أخالف إلى أناس يدعون الصلاة مع الجماعة فأحرق عليهم بيوتهم» ، أخالف إلى أناس يدعون الصلاة مع الجماعة أي: أباغتهم وأفاجئهم؛ لأن المفروض في هؤلاء المتخلفين أن يجيبوا نداء الله كما قلنا، والمفروض أنهم يعلمون أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يصلي في المسجد إماماً كما هي عادته، ولكنه هم عليه الصلاة والسلام أن يوكل رجلاً أن يصلي نيابة عنه ليباغت المتخلفين عن الصلاة في المسجد فيحرق عليهم بيوتهم.
ثم قال عليه الصلاة والسلام مبيناً البلاء الذي يصيب الكثير من الناس وبخاصة في هذا آخر الزمان كزماننا هذا، أنهم يتخلفون عن الجماعة لأمر دنيوي مهما كان حقيراً، فقال عليه الصلاة والسلام:«والذي نفس محمد بيده لويعلم أنه يجد في المسجد مرماتين حسنتين» ، يعني: عظمتين من أسفل قدم الشاة أو المعزاية ترمى عادة في الأرض لا قيمة لها، لو يعلم أنه يجد في المسجد فائدة دنيوية كهاتين المرماتين لشهدها أي صلاة العشاء، إلى هنا ينتهي هذا الحديث وهو من أصح الأحاديث حيث أخرجه الإمامان البخاري ومسلم في صحيحهما، وهنا سؤال قد يرد في خاطر بعض الناس عادة ألا وهو: لماذا هم عليه الصلاة والسلام بحرق المتخلفين عن صلاة الجماعة ولم يفعل؟ قال: «لقد هممت» ، لكنه ما فعل، ولذلك هذا الحديث يذكرنا بآية في القرآن الكريم قد يسيء فهمها بعض التالين والقارئين للقرآن الكريم حينما يمرون بقوله تبارك وتعالى في سورة يوسف:{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24]، فالهم لا
يعني الفعل، وإنما هو من مقدمات الفعل، فالعلماء يقسمون ما يخطر في بال المسلم، ثم ما ينتج من وراء ذلك من العمل إلى أقسام:
القسم الأول: الخاطرة، خاطرة تخطر في بال إنسان سواء كان خيراً أو كان شراً، فإذا قويت هذه الخاطرة وأخذت مكانها من بال الإنسان صار هماً، فإذا قويت وازدادت قوة هذه الخاطرة ووصلت إلى مرتبة الهم يلي ذلك العزم، وليس بعد العزم إلا الفعل، ولذلك قال تعالى في مسألة الطلاق:{وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 227]، الشاهد أن العزم هو قبل الفعل ليس بعده إلا الفعل، فلما هم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على التحريق فهو لم يعزم لماذا؟ فضلاً عن أنه لم ينفذ، الجواب: أن في البيوت كما تعلمون من لا تجب عليه صلاة الجماعة أول ذلك النساء، ثم الصبيان الذين لم يدخلوا في مرتبة التكليف،
…
(انقطاع في التسجيل هنا)
…
يكون أيضاً في البيوت ناس مكلفين ولكنهم من المعذورين، ولذلك فكان من حكمة الرسول عليه السلام أن أوعد ولم ينفذ، فقد جمع بين تحقيق المصلحة والحض على حضور الجماعة، ودفع المفسدة، وهو عدم تحريق البيوت بمن فيها؛ لأنه لو فعل ذلك لأصاب الحريق من لا يستحق الحرق.
إذاً: في هذا الحديث وعيد شديد لأولئك الذين يتخلفون عن صلاة الجماعة دون عذر شرعي، وليس هناك من الأعذار ما يمكن أن يذكر بهذه المناسبة إلا أن يكون الرجل مريضاً، إلا أن يكون نائماً وأن يكون نومه أيضاً مشروعاً وهذا له بحث طويل ولا أريد الآن الخوض فيه خشية أن نخرج عما نحن في صدده.
فالشاهد: أن الله عز وجل قد امتن على آل هذه المحلة بهذا المسجد وهوأقول .. وهوأقرب ما يكون إلى السنة، ولا أقول آسفاً لا أقول إنه على السنة،
فإني أرى فيه بعض أشياء التي ما كانت تنبغي، ولكني أقول كلمة حق إنه أقرب ما يكون إلى السنة بالنسبة للمساجد الأخرى التي تبنى في هذا الزمان وتنفق في سبيل تشييدها وزخرفتها الأموال الطائلة في زعم أنهم يعظمون شعائر الله والأمر ليس كذلك؛ لأن تعظيم شعائر الله عز وجل ليس ببنيان المساجد مشيدة مزخرفة زخارف تلهي المصلين عن الإقبال في صلاتهم على رب العالمين.
لقد جاء في صحيح البخاري وصحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «لما رجعت أم سلمة وأم حبيبة من الحبشة ذكرتا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كنيسة رأتاها في الحبشة وذكرتا من حسن وتصاوير فيها، فقال عليه الصلاة والسلام: أولئك كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا عليه مسجداً وصوروا فيه تلك التصاوير أولئك شرار الخلق عند الله تبارك وتعالى» أولئك أي: النصارى، كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، وزادوا إثماً على إثم أن صوروا تلك التصاوير، المقصود هنا بالتصاوير هي نقوش وزخارف، ولذلك جاء في حديث آخر في سنن أبي داود وغيره أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:«ما أمرت بتشييد المساجد» تشييد المساجد أي: رفع بنيانها، فوق الحاجة التي يحتاجها المصلون فيها، هذا الحديث رواه أبوداود من حديث ابن عباس مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما سمعتم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ما أمرت بتشييد المساجد» ، قال ابن عباس بعد أن روى هذا الحديث عنه صلى الله عليه وآله وسلم، قال:«لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى» هذا القول الصادر من ابن عباس في ظاهره ..
في ظاهر إسناده موقوف عليه هومن كلامه، ويمكن أن يقال فيه في التعبير العلمي الحديثي إنه موقوف في حكم المرفوع، وإما أن يقال وهذا لابد منه إن لم يقل الأول: إنه فهمه من مجموع الأحاديث الواردة في هذا الصدد، من ذلك حديث عائشة حينما تحدث النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: «أولئك كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً
وصوروا فيه تلك التصاوير»، فيمكن أن ابن عباس أخذ هذا القول من مثل هذا الحديث ومن قوله صلى الله عليه وآله وسلم الثابت في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر، وذرعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه» .
إذاً: قوله عليه السلام: «لتتبعن سنن من قبلكم» هذا معناه: يشمل كل شيء يقع اليوم وفيه تشبه باليهود والنصارى، فزخرفة المساجد قد وقعت اليوم في كثير من المساجد وكان ذلك نبأ تنبأ به الرسول عليه السلام من قبل، ثم صدقت نبوءته عليه الصلاة والسلام؛ لأنه كما قال ربنا عز وجل في القرآن في حقه:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوإِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4]، قال عليه الصلاة والسلام كما ترون في هذا الزمان:«لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس بالمساجد» ، والآن ترون المساجد يتباهى القائمون على بنائها بطريقة هندسة بنيانها، وبطريقة طبع الزخارف المختلفة الأشكال والألوان عليها، وهذا مما يلهي المصلين عن الإقبال على رب العالمين عز وجل، ولذلك جاء هناك حديثان اثنان يلفتان نظر المصلين إلى أنه لا ينبغي أن يكون في مسجدهم ما يشغل بالهم أويلهيهم عن الإقبال على الله عز وجل بكل وجودهم، أحد هذين الحديثين: جاء في صحيح البخاري: «أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى يوماً في قميص يسمى بالخميصة، قال عليه الصلاة والسلام بعد أن صلى: خذوا خميصتي هذه وائتوني بأنبجانية أبي جهم فإنها ألهتني وفي رواية كادت أن تلهيني عن صلاتي» ، ما الذي كادت أن تلهيه عن صلاته؟ الخميصة، ما هي الخمصية؟ هي ثوب له أعلام، له خطوط أخضر أبلق أزرق أسود إلى آخره، قال:«خذوا خميصتي هذه وائتوني بأنبجانية أبي جهم» ثوب ساذج، «فإن هذه الخميصة كادت أن تلهيني عن صلاتي» ، هذا الحديث الأول الذي يلفت نبينا صلى الله عليه وآله وسلم أنظارنا إلى أنه لا ينبغي أن نبني مساجدنا
وأن نزخرفها زخارف تلهينا عن الإقبال على الله في صلاتنا.
الحديث الثاني: «أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما دخل مكة فاتحاً منصوراً دخل جوف الكعبة وصلى ركعتين، فوجد في الجدار الذي صلى إليه قرني كبش إسماعيل عليه السلام معلقين على الجدار، فأمر عليه السلام بتخميرهما» بتغطيتهما، لماذا؟ لأنها تلهي بال المصلي حتى ولوكان سيد المصلين وهورسولنا صلوات الله وسلامه عليه، فماذا نقول نحن عن أنفسنا؟ إذا كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المقبل على الله كليته يخشى على نفسه أن تلهيه بعض الزخارف التي تليه، فنحن بلا شك أولى ثم أولى ثم أولى أن تلهينا الزخارف التي تكون حولنا، لذلك لا يجوز لمساجد المسلمين أن تكون مشبهة بكنائس النصارى وغيرهم من الكفار؛ لأن هذه البيوت يجب أن تبنى ساذجاً ليس فيها ما يلهي.
أعود لأقول: إن هذا المسجد بالنسبة للمساجد الأخرى قد أقيم على نسبة كبيرة من تقوى الله تبارك وتعالى، ولذلك فأرجوأن تتدارك النواقص التي لم تتم في بنيان المسجد مادياً أن تتدارك معنوياً في هذا المسجد المبارك إن شاء الله؛ وذلك إنما يكون بإحياء السنة في صلاتنا في هذا المسجد، في كيفية صلاتنا، في كيفية إلقائنا لدروسنا، وأول ذلك مما أرى لزاماً علي أن يكون الدرس في هذا المسجد يدندن دائماً إلى أن ترسخ ثمرة هذا الدرس في أذهان جوار المسجد والمصلين في المسجد، وبعد ذلك ينتقلون إلى مرحلة ثانية، ما هي المرحلة الأولى التي يجب على كل مسلم، بل وعلى كل مسلمة؟ أن يفقه هذا الدرس الأول وهوتحقيق قول الله تبارك وتعالى:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19].
نعلم جميعاً أن الإسلام قام على خمس، أول هذه الأركان: هي شهادة أن لا إله إلا الله، هذه الشهادة قل مع الأسف من المسلمين من يعرف معناها، ثم إذا
وجد من عرف معناها .. لووجد من بعض المسلمين أنهم فهموا المعنى الصحيح لهذه الكلمة الطيبة: لا إله إلا الله، فَقَلَّ منهم من يحققها عملياً، إن هذه الشهادة تعني باختصار: لا معبود بحق في الوجود إلا الله تبارك وتعالى، لا معبود بحق في الوجود إلا الله تبارك وتعالى، ومعنى ذلك أن الموحد حقاً يجب أن يوجه عبادته لله وحده لا شريك له، وهذا موضوع واسع وواسع جداً لابد أن بعض إخواننا في هذا المسجد إما أن يكونوا شرعوا ومضوا قدماً في بيان هذه الكلمة الطيبة وفي المقدمة إمام المسجد أخونا أبوأنس بارك الله فيه وفي قراءته وفي علمه، فهذا موجز معنى هذه الكلمة، أما الشرح فسيكون إن شاء الله في دروس ثانية كما أشرنا آنفاً.
لا معبود بحق في الوجود إلا الله، لا معبود: ما هي العبادة؟ هي العبادة التي شرعها الله على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن فرضنا أن مسلماً شهد هذه الشهادة، لكنه توجه بشيء من هذه العبادة إلى غير الله عز وجل يكون قد أشرك مع الله غيره ولم يعبده وحده.
إذاً: يجب أن تكون هذه العبادة خالصة لله كما قال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]، لكن هناك شيء ثان، أريد أن أدندن حوله بأوسع مما سبق، على هذه العبادة، قلنا: إذا وجهت إلى غير الله فهذا قد أشرك مع الله غيره وهذا أمر واضح، لكن متى يكون الموحد القائل لا إله إلا الله، والمؤمن بهذا المعنى الصحيح: لا معبود في الوجود إلا الله، متى يكون عابداً لله؟ حينما يكون طائعاً لرسول الله في كيفية أدائه لعبادته لله، ولذلك فنحن نقول في هذه الشهادة: لا إله إلا الله وتمامها محمداً رسول الله، حقيقتان عظيمتان جداً جداً، لا يكون المرء مسلماً حقاً إلا إذا حقق معنى هاتين الشهادتين، أما الأولى فكما
ذكرنا أن يخلص في عبادته لله لا يشرك معه أحداً، الثانية: أن يعبد الله كما شرع الله على لسان رسول الله وحينئذ يكون قد آمن حقاً حينما يقول: محمد رسول الله، أما إذا اتبع غير رسول الله، فكما أن المسلم الذي يعبد غير الله يكون قد أشرك مع الله في عبادته، فذلك المسلم إذا عبد الله على غير سنة رسول الله، وعلى غير ما شرع الله على منهج سنة رسول الله، فيكون قد أشرك مع رسول الله غيره في رسالته، ولذلك فهنا توحيدان إذا صح التعبير، توحيد الله في عبادته وتوحيد الرسول في اتباعه:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران: 31]، اتبعوني أنا فقط، ولذلك فلا يجوز للمسلم أن يتخذ له متبوعاً غير رسول الله، كما لا يجوز له بداهة، أن يتخذ له معبوداً غير الله.
لذلك هناك حكمة بالغة في الجمع بين الشهادتين كركن أول من الأركان الخمسة: أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ولذلك جاء في الحديث المتفق عليه والمعلوم لديكم جميعاً قوله صلى الله عليه وآله وسلم:«أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم عند الله تبارك وتعالى» ، حق هذه الشهادة هو العمل بها على مقتضى ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إذا كانت هذه حقيقة لا يمكن أن يماري وأن يجادل فيها مسلم، هذه حقيقة تتلخص أعيد الكلام ليرسخ في الأذهان، هي أن نعبد الله وحده لا شريك له، وأن نتبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا نتبع معه غيره، هنا قد يرد سؤال: فما هو موقف المسلم بالنسبة لعلماء المسلمين وبخاصة من كان منهم مشهوراً بالعلم والصلاح والتقوى وهم لا أقول الأئمة الأربعة، فإن فضل الله تبارك وتعالى أن من على المسلمين على مر الزمان والقرون، بمئات بل وبألوف علماء المسلمين، فما موقف المسلم في هذا الزمان الذي يدعو الناس إلى أن يوحدوا رسول الله في اتباعه، ما موقف هذا المسلم
بالنسبة لعلماء المسلمين؟ نقول: الموقف وجوب اتباعهم، ماداموا متمسكين ودالين لنا على سنة نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم، وهنا ألفت النظر إلى آية في القرآن يجب أن يكون معناها ماثل في الأذهان ألا وهي قوله تبارك وتعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] هذه الآية تجعل الناس عامة المسلمين قسمين: عالم وغير عالم، وعلى كل من القسمين أوجب عليه حكماً يليق به، القسم الأكبر هم الذين لا يعلمون، فخاطبهم بقوله تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] هذا هوالقسم الأكبر من المسلمين أنهم ليسوا بعلماء فواجبهم أن يسألوا أهل الذكر، وواجب أهل العلم أنهم
إذا سئلوا أن يجيبوا، وهذا قد أخذ منهم العهد في القرآن الكريم أن يبلغوا العلم إلى الناس وألا يكتموه، وجاءت السنة تؤكد ذلك تمام التأكيد من ذلك الحديث المشهور:«من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار» .
فإذاً: عامة المسلمين واجبهم أن يسعوا لهذا العلم، فإذاً هؤلاء لا غنى لهم إلا أن يرجعوا عند الحاجة وعند الملمات إلى العلماء؛ لأن الله عز وجل أمرهم بذلك:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، ولكن أهل العلم ليسوا في المنزلة عندنا كمنزلة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم المعصوم والمبلغ عن الله والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ لأنه معصوم، أما العلماء فليسوا كذلك، إنما هم مبلغون عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد يصيب أحدهم وقد يخطئ ولا عصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خلافاً لبعض الفرق التي تدعي العصمة لأهل البيت، فهذا من الانحراف عن الكتاب والسنة، فلا عصمة لأحد بعد رسول الله لا لعلي ولا لأبي بكر ولا لغيرهم من الصحابة الأجلاء فضلاً عن العلماء الذين جاؤوا من بعدهم، وإلى هذه الحقيقة أشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالحديث الصحيح قال:«إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد» ، إذًا: العالم يخطئ
ويصيب، أما نبينا فلا يخطئ في الشرع مطلقاً، بل هومعصوم كما ذكرنا آنفاً، من هنا يجب أن نجعل تعصبنا في ديننا فقط لرجل واحد ألا وهورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا نتعصب لعالم من علماء المسلمين، وإنما نستعين بهم ونسترشد بهم ليدلونا على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا شيء.
وشيء ثاني: قد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحقيقة نلمسها الآن في هذا الزمان لمس اليد كما يقال؛ ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء» ، «إن الإسلام بدأ غريباً -أي: كما بدأ- وسيعود غريباً فطوبى للغرباء»، هذا الحديث هكذا في صحيح مسلم، ثم جاء في بعض الروايات الأخرى الثابتة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تفسير هؤلاء الغرباء، والتفسير جاء على نوعين: أحدهما: لما قيل له: «من هم الغرباء يا رسول الله؟ قال: هم ناس قليلون صالحون بين ناس كثيرين من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم» ، وهذه الحقيقة لا يشترك في معرفتها خاصة الناس وهم العلماء، بل بعض العلماء، وإنما كل المتدينين يلمسون هذه الحقيقة؛ وذلك يتضح من السؤال التالي: هل أكثر المسلمين اليوم يطيعون الله في أحكام دينهم، أم يعصونه؟ يعصونه الأكثرون هم المخالفون، فإذا صدق هذا الحديث:«الغرباء: هم ناس قليلون صالحون بين ناس كثيرين من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم» ، الذين لا يصلون أكثر من الذين يصلون، الذين لا يتقون الله في أنفسهم وفي ذويهم ونسائهم وبناتهم وأولادهم أكثر من الذين يتقون وهكذا.
لكن هناك شيء آخر الغربة ناس قليلون صالحون بين ناس كثيرين من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم، المعصية قسمان: قسم لأمر معروف صوابه باتفاق المسلمين كالأمثلة السابقة كالصلاة مثلاً، تبرج النساء، فهذا فرض وذاك محرم، كل هذه الأحكام متفق عليها بين المسلمين مع ذلك فأكثر الناس لها تاركون
ومخالفون، لكن هناك أحكام أُخْرَى يختلف فيها علماء المسلمين أنفسهم، يخرج مثلاً خلافهم في البدع الحسنة والبدع السيئة، مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد صَرَّحَ في أكثر من حديث واحد فقال:«وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكُلّ ضلالة في النار» ، وقال في الحديث الآخر:«من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» مع هذه الأحاديث وغيرها تسمعون اليوم بعض من ينسب إلى العلم يقول: هناك بدع حسنة، فهنا خلاف بين طائفتين من خاصة المسلمين وهم العلماء، فطائفة تقول بقول الرسول:«كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار» ، وطائفة تقول: لا، هذا الحديث ليس على عمومه، وإنما هناك بدعة حسنة، وأيضاً هذا يحتاج إلى درس خاص ولا أستطيع الخوض فيه الآن، وإنما التذكير بمعنى هذا الحديث؛ حديث الغربة فيه روايتان، نحن الآن في صدد الرواية الأولى:«الغرباء: هم ناس قليلون صالحون بين ناس كثيرين، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم» ، الحديث الثاني سيجلي لنا معنى ثاني في الحديث الأول لا يتنبه له كثير من الناس، لما قيل له عليه السلام:«منهم الغرباء؟ قال: هم الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي من بعدي» ، إذاً: هنا غربتان: غربة الصالحين بين الجمهور الطالحين، وغربة ثانية: غربة الصالحين في الصالحين؛ لأن الصالحين هنا قسمان: صالحين اتجهوا إلى عبادة الله، قسم منهم على سنة رسول الله، وقسم منهم خرجوا عن سنة رسول الله من حيث لا يشعرون أويشعرون، حسابهم عند الله تبارك وتعالى، فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم أخبر عن واقعنا في هذا الزمان، قال:
«الغرباء: هم الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي من بعدي» .
والآن أختم هذه الكلمة بمثال لعل غيرنا من إخواننا الحاضرين يشاركوننا في بيان ما يحيله إن شاء الله أضرب لكم مثلاً واحداً يبين لكم الخلاف الآن بين من يدعون إلى إحياء السنة وإماتة البدعة، وبين الذين يناصرون البدعة على حساب
إماتة السنة، لا نذهب بكم بعيداً، عندكم الآن الأذان، فهل الأذان في كل البلاد الإسلامية إلا البعض القليل منها، هل هو على السنة؟ الجواب: لا؛ لأن الأذان في كثير من البلاد له مقدمة وله ومؤخرة، في بلاد أخرى وهذا الأكثر لابد لها من مؤخرة، والأذان كما نعلم جميعاً في السنة يبدأ: بالله أكبر .. الله أكبر، وينتهي: لا إله إلا الله
…
هذا هو أذان بلال، وأذان ابن أم مكتوم وأذان أبي محذورة
…
هؤلاء من أشهر مؤذني الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يؤذنون في زمانه لا يقدمون شيئاً ولا يعقبون على الأذان شيئاً آخر، هذا هو السنة بالاتفاق، لكن الذين يناصرون البدعة، يقولون: هذه البدعة حسنة، أي: زيادة على الأذان سواء كان من قبل أومن بعد، وهذا أمر كتب فيه رسائل بين أنصار السنة وأنصار البدعة، ولا أريد أيضاً أن أقف هنا كثيراً؛ لأني أعتقد أن الحاضرين إن شاء الله جميعاً يعلمون هذه الحقيقة، أن السنة في الأذان هوفقط كما قلنا: الله أكبر .. الله أكبر ..
لا إله إلا الله، لكن أريد أن أذكر الآن ببدعة اختص مع الأسف بلدكم هذا دون بلاد الإسلام كلها، وهو ما يسمونه بالأذان الموحد، الأذان الموحد ينافي التوحيد؛ لأن التوحيد كما قلنا بينه صلى الله عليه وآله وسلم، فقد جعل في كل مسجد أذاناً وفي كل محلة مسجداً، وأنتم تعلمون أن المسجد الجامع في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة إنما كان مسجده صلى الله عليه وآله وسلم، وهناك كان يجتمع المسلمون من كل المساجد التي كانت حول المدينة في العوالي ونحوها، أما مسجده عليه السلام فقد كان مسجداً جامعاً، أي: تصلى فيه صلاة الجمعة دون المساجد الأخرى التي كانت حوال العوالي والتي من تلك المساجد مسجد معاذ بن جبل رضي الله عنه الذي جاء حديثه في «صحيح البخاري» ، أنه كان يصلي صلاة العشاء الآخرة وراء النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكسب فضيلتين اثنتين؛ فضيلة الصلاة في المسجد النبوي أولاً التي هي بألف صلاة مما سواه من المساجد؛ مساجد العوالي مثلاً، وفضيلة الصلاة خلف النبي نفسه صلى الله عليه وآله وسلم، فكان يصلي صلاة العشاء الآخرة خلفه، ثم يأتي إلى مسجد قومه فيؤمهم، يصلي بهم
إماماً صلاة العشاء، هي له نافلة؛ لأن الفريضة كان قد أداها خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهي له نافلة، لم يكن هناك أذان موحد، وإن كان قد يقال هنا: أن الوسيلة لم تكن متيسرة كما هو متيسر اليوم بإذاعة الأذان من مكان واحد إلى سائر أقطار الدنيا، كما تفعل الإذاعات العالمية اليوم، لكننا نقول: لا مانع من إذاعة الأذان بأوسع دائرة ممكنة بمثل هذه الوسائل التي خلقها الله عز وجل، ويسرها الله لعباده، ولكن في حدود التزام السنة، إذا كان من السنة لكل مسجد أذان وإقامة فلا يجوز توحيد الأذان في البلد الواحد وفي مساجد كثيرة، لاسيما أن بلدنا هذا يختلف عن كثير من البلاد الأخرى، حيث فيه الهضاب وفيه الجبال وفيه الوديان، وربما يكون
هناك بعض السهول، فالأوقات الشرعية للصلوات الخمس تختلف من الجبل إلى الهضبة إلى السهل إلى الوادي، فلا يجوز توحيد الأذان والحالة هذه، ولذلك تقع هنا مشاكل ومخالفة للشرع والأحكام الشرعية مخالفة جذرية، فناس مثلاً يفطرون قبل غروب الشمس بالأذان الموحد، وناس يتأخرون عن الإفطار في رمضان إلى ما بعد عشر دقائق ينتظرون الأذان الموحد، وناس يصلون الفجر قبل الوقت؛ لأن الأذان الموحد يؤذن بالنسبة لجبل ما، بينما الفجر لم يطلع بعد بالنسبة لهضاب أوسهول أووديان وهكذا، فهذا كله جاء من توحيد الأذانات هذه إذا صح التعبير، هذا بلا شك بدعة، لم يكن ولا يكون حتى هذه الساعة في أي بلد إسلامي إلا في هذا البلد، ما ندري ما الذي بَدا للذين ابتدءوا هذه البدعة في هذا البلد، وما الذي زين لهم هذه البدعة، وأملي ورجائي أن المسئولين الذين يهتمون بأحكام الدين وإعادتها إلى السنة دون خروج عنها ومشاكسة لها أن يلغوا هذا الأذان وأن يكلفوا المؤذنين أن يؤذن كل مؤذن في مسجده مراقباً الأوقات الشرعية حسب النظام الإسلامي.
هذا المثال أردت أن أقف عنده، لنفتح المجال لبعض إخواننا لنسمع منهم ما يفيدنا إن شاء الله، كمثال كيف أن الإسلام اليوم أصبح في غربة، والأمثلة ليس
بالعشرات ولا بالمئات، بل هي بالألوف المؤلفة تحتاج إلى مجلدات في بيان تفاصيل ومفردات هذه البدع التي عمت وطمت في كل بلاد الإسلام، وحسبنا الآن هذا المثال الموحد في الأذان الموحد الذي ليس له أصل في الشرع، وبهذا القدر كفاية.
والحمد لله رب العالمين.
(الهدى والنور/655/ 50: 00: 00)