الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بيان حكم التشبه بالكفار
[ذكر الإمام ضمن شروط الجلباب الشرعي للمرأة]:
الشرط السابع: (أن لا يشبه لباس الكافرات):
لما تقرر في الشرع أنه لا يجوز للمسلمين - رجالاً ونساءً - التشبه بالكفار سواء في عباداتهم أو أعيادهم أو أزيائهم الخاصة بهم. وهذه قاعدة عظيمة في الشريعة الإسلامية خرج عنها اليوم مع الأسف كثير من المسلمين حتى الذين يُعْنَون منهم بأمور الدين والدعوة إليه ـ جهلاً بدينهم، أو تبعاً لأهوائهم، أو انجرافاً مع عادات العصر الحاضر وتقاليد أوربا الكافرة، حتى كان ذلك من أسباب ذل المسلمين وضعفهم، وسيطرة الأجانب عليهم، واستعمارهم {إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11] لو كانوا يعلمون.
وينبغي أن يُعْلَم أن الأدلة على صحة هذه القاعدة المهمة كثيرة في الكتاب والسنة، وإن كانت أدلة الكتاب مجملة؛ فالسنة تفسرها وتبينها كما هو شأنها دائماً.
فمن الآيات قوله تعالى في (الجاثية: 16 - 18):
1 -
{وَلَقَدْ آَتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الكِتَابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى العَالَمِينَ. وَآَتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.
ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18].
قال شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله في (الاقتضاء)(ص 8):
ومن هذا الباب قوله تعالى في [الرعد: 36 - 37]:
2 -
والضمير في [أهواءَهم] يعود - والله أعلم إلى ما تقدم ذكره وهم الأحزاب الذين ينكرون بعضه، فدخل في ذلك كل من أنكر شيئاً من القرآن من يهودي أو
نصراني غير هما، وقد قال تعالى:{وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ} .
ومتابعتهم فيما يختصون به من دينهم وتوابع دينهم؛ إتباع لأهوائهم، بل يحصل إتباع أهوائهم بما هو دون ذلك».
وقال تعالى في [الحديد: 16]:
3 -
قال شيخ الإِسلام (ص 43):
وقال ابن كثير عند تفسير هذه الآية (4/ 310):
ولهذا نهى الله المؤمنين أن يتشبهوا بهم في شيء من الأمور الأصلية والفرعية».
ومن ذلك قوله تعالى في [البقرة: 104]:
4 -
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قال الحافظ ابن كثير (1/ 148):
«نهى الله تعالى عباده المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم، وذلك أن اليهود كانوا يعانون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص؛ عليهم لعائن الله، فإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا، قالوا: راعنا، ويورون بالرعونة، كما قال تعالى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا
وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 46].
وكذلك جاءت الأحاديث بالإِخبار عنهم بأَنهم كانوا إذا سلَّموا إنما يقولون: «وعليكم» (1)، وإنما يستجاب لنا فيهم، ولا يستجاب لهم علينا، والغرض أن الله تعالى نهى المؤمنين عن مشابهة الكافرين قولاً وفعلاً».
وقال شيخ الإِسلام عند هذه الآية ما مختصره (ص 22):
وفي الباب آيات أخرى، وفيما ذكرنا كفاية، فمن شاء الوقوف عليها فلينظرها في «الاقتضاء» (ص: 8 - 14 و 22 و 42).
فتبين من الآيات المتقدمة أن ترك هدي الكفار والتشبه بهم في أعمالهم وأقوالهم وأهوائهم؛ من المقاصد والغايات التي أسسها وجاء بها القرآن الكريم، وقد قام النبي صلى الله عليه وسلم ببيان ذلك وتفصيله للأمة، وحققه في أمور كثيرة من فروع الشريعة، حتى عرف ذلك اليهود الذين كانوا في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، وشعروا أنه عليه السلام يريد أن يخالفهم في كل شؤونهم الخاصة بهم، كما روى أنس بن ملك رضي الله عنه:
(1) في هذا الإطلاق نظر يُراجع له ما أوردته في ((الصحيحة)) (2/ 324 / 330).
«أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوها في البيوت، فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى:
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ} [البقرة: 222].
إلى آخر الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«اصنعوا كل شيء إلا النكاح» ، فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن حضير، وعباد بن بشر، فقالا: يا رسول الله إن اليهود تقول كذا وكذا، أفلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أن قد وجد عليهما، فخرجا، فاستقبلهما هدية من لبن إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل في آثارهما، فسقاهما، فعرفا أن لم يجد عليهما» (1).
(1) أخرجه مسلم (1/ 169)، وأبو عوانة (1/ 311 / - 312) في "صحيحيهما "، وقال الترمذي:
"حديث حسن صحيح".
وقد أخرجه غيرهم، وتكلمنا عليه في "صحيح سنن أبي داود" (رقم 250). قال شيخ الإسلام في "الاقتضاء":
"فهذا الحديث يدل على كثرة ما شرعه الله لنبيه من مخالفة اليهود، بل على أنه خالفهم في عامة أمورهم حتى قالوا: "ما يريد أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه".
ثم إن المخالفة - كما سنبينه - تارة تكون في أصل الحكم، وتارة في وصفة، ومجانبة الحائض لم يخالفوا في أصله، بل خولفوا في وصفه، حيث شرع الله مقاربة الحائض في غير محل الأذى، فلما أراد بعض الصحابة أن يتعدى في المخالفة إلى ترك ما شرعه الله؛ تغير وجه الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهذا الباب باب الطهارة كان على اليهود فيه أغلال عظيمة، فابتدع النصارى ترك ذلك كله حتى أنهم لا ينجسون شيئاً بلا شرع من الله، فهدى الله الأمة الوسط بما شرع لها إلى الوسط =
وأما السنة فالنصوص فيها كثيرة طيبة في تأييد القاعدة المتقدمة، وهي لا تنحصر في باب واحد من أبواب الشريعة المطهرة كالصلاة مثلاً، بل قد تعدتها إلى غيرها من العبادات والآداب والاجتماعيات والعادات، وهي بيان وتفصيل لما أجمل في الآيات السابقة ونحوها كما قدمت الإشارة إليه. وها نحن أولاء نسوقها بين يديك؛ لتكون على بصيرة فيما ذهبنا إليه:
1 -
عن أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار قال:
= من ذلك، وإن كان ما كان عليه اليهود كان أيضاً مشروعاً، فاجتناب ما لم يشرع الله اجتنابه مقاربة لليهود، وملابسة ما شرع الله اجتنابه مقاربة للنصارى، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم».
(1)
هو البوق.
(2)
وهو حديث صحيح رُوِّيناه في كتابنا «صحيح سنن أبي داود» (رقم 511)، وذكرنا فيه من صححه من الأئمة، والشاهد منه واضح، وهو كما قال شيخ الإسلام (ص 56):
«إن النبي صلى الله عليه وسلم لما كره بوق اليهود المنفوخ بالفم، وناقوس النصارى المضروب باليد؛ علل هذا بأنه من أمر اليهود، وعلل هذا بأنه من أمر النصارى؛ لأن ذكر الوصف عقيب الحكم يدل على أنه علة له، وهذا يقتضي نهيه عما هو من أمر اليهود والنصارى، هذا مع أن قرن اليهود يقال: إن أصله مأخوذ عن موسى عليه السلام، وأنه كان يُضرب بالبوق في عهده، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وأما ناقوس النصارى فمبتدع، إذ عامة شرائع النصارى أحدثها أحبارهم ورهبانهم، وهو يقتضي كراهة هذا النوع من الأصوات مطلقاً في غير الصلاة أيضاً؛ لأنه من أمر اليهود والنصارى، فإن النصارى يضربون بالنواقيس في أوقات متعددة غير أوقات عبادتهم، وإنما شعار الدين الحنيف الأذان المتضمن للإعلان بذكر الله سبحانه، الذي به تفتح أبواب السماء، وتهرب الشياطين، وتنزل الرحمة.
وقد ابتلى كثير من هذه الأمة من الملوك وغيرهم بهذا الشعار - شعار اليهود والنصارى - حتى إنا رأيناهم في هذا الخميس الحقير الصغير يبخرون البخور ويضربون له بنواقيس صغار، حتى إن من الملوك من كان يضرب بالأبواق والدبادب في أوقات الصلوات الخمس! وهو نفس ما كرهه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من كان يضرب بها طرفي النهار؛ تشبهاً منه كما زعم بذي القرنين، ووكل ما دون ذلك إلى ملوك الأطراف.
وهذه المشابهة لليهود والنصارى وللأعاجم من الروم والفرس؛ لما غلبت على ملوك الشرق هي وأمثالها مما خالفوا به هدى المسلمين، ودخلوا فيما كرهه الله ورسوله؛ سلط الله عليهم الترك الكافرين الموعود بقتالهم، حتى فعلوا في العباد والبلاد ما لم يجر في دولة الإسلام مثله، وذلك تصديق قوله صلى الله عليه وسلم:"لتركبن سنن من كان قبلكم"؛ كما تقدم.
وكان المسلمون على عهد نبيهم وبعده لا يعرفون وقت الحرب إلا السكينة وذكر الله سبحانه. قال قيس بن عباد - وهو من كبار التابعين -:
كانوا يستحبون خفض الصوت عند الذكر وعند القتال وعند الجنائز. وكذلك سائر الآثار تقتضي أنهم كانت عليهم السكنية في هذه المواطن مع امتلاء القلوب بذكر الله وإجلاله وإكرامه، كما أن حالهم في الصلاة كذلك، وكان رفع الصوت في هذه المواطن الثلاثة من عادة أهل الكتاب والأعاجم، ثم قد ابتلى بها كثير من هذه الأمة ".
قلت: ويشهد لما ذكره من كراهة صوت الجرس مطلقاً قوله عليه الصلاة السلام: "الجرس مزمار الشيطان". =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= أخرجه مسلم (6/ 163)، وأبو داود (1/ 401)، والحاكم (1/ 445)، والخطيب (13/ 70)، والبيهقي (5/ 253) ، وكذا أحمد (2/ 366 و 372).
وفي حديث آخر:
"لا تصحب الملائكةُ رفقةً فيها جرس".
رواه مسلم عن أبي هريرة، وأبو داود عنه عن أم سلمة. قال المناوي:
"قال ابن حجر: الكراهة لصوته لأن فيه شبهاً بصوت الناقوس وشكله".
قلت: وقد أحدثت في هذا العصر أجراس متنوعة لأغراض مختلفة نافعة، كجرس ساعة المنبه الذي يوقظ من النوم، وجرس الهاتف (التلفون)، وجرس دوائر الحكومة، والدور، ونحو ذلك، فهل يدخل هذا في الأحاديث المذكورة وما في معناها؟
وجوابي: لا، وذلك لأنه لا يشبه الناقوس لا في صوته ولا في صورته. والله أعلم.
وهذا بخلاف أجراس بعض الساعات الكبار التي تعلق على الجدران، فإن صوتها يشبه صوت الناقوس تماماً، ولذلك فهذا النوع من الساعات لا ينبغي للمسلم أن يُدخِلها إلى داره، ولا سيما أن بعضها تعزف ما يشبه الموسيقى قبيل أن يدق جرسها! مثل ساعة لندن التي تسمع من إذاعتها والمعروفة باسم (بك بن).
ومما يؤسف له أن هذا النوع من الساعات قد أخذ يغزو المسلمين حتى في مساجدهم، بسبب جهلهم بشريعتهم! كثيراً ما سمعنا الإمام يقرأ في الصلاة بعض الآيات التي تندد بالشرك والتثليث، والناقوس يدق من فوق رأسه منادياً ومذكراً بالتثليث! والإمام وجماعته في غفلتهم ساهون.
ولقد كنت كلما دخلت مسجداً فيه مثل هذه الساعة، عطَّلْتُ ناقوسها دون أن أمس آلتها بسوء؛ لأنني ساعاتي ماهر والحمد لله، وما كنت أفعل ذلك إلا بعد أن ألقي كلمة أشرح فيها وجهة نظر الشرع في مثل هذا الناقوس، وأقنعهم بضرورة تطهير المسجد منه، ومع ذلك فقد كانوا أحياناً - مع اقتناعهم - لا يوافقون على ذلك؛ بحجة أن الشيخ فلان =
= والعالم فلان وفلان صلوا في هذا المسجد، وما أحد منهم اعترض! هذا في سورية، وما كنت أظن أن مثل هذه الساعة التي تذكّر بالشرك تغزو بلاد التوحيد (السعودية)، حتى دخلت مع شقيقي منير مسجد قباء في موسم الحج (سنة 1382)، فدهشنا حين سمعنا دق الناقوس من ساعتها! فكلمنا بعض القائمين على المسجد، ولعل إمامه كان فيهم، وأقنعناهم بعد جواز استعمال هذه الساعة وخصوصاً في المسجد، وسرعان ما اقتنعوا، ولكنا لما طلبنا منهم أن يسمحوا لنا بتعطيل ناقوسها أبوا، وقالوا: هذا ليس من اختصاصنا، وسنرفع المسألة إلى أولي الأمر! فقلنا: شتان بين الأمس واليوم. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ما من عام إلا الذي بعده شر منه حتى تَلْقَوا ربكم". ((الصحيحة)) (1218). وهذه ذكرى و [الذكرى تنفع المؤمنين].
وأثر قيس بن عباد المتقدم في كلام ابن تيمية، وأخرجه البيهقي (4/ 74 و 9/ 153) بإسناد صحيح، وأخرج الشطر الأول منه أبو داود (1/ 414)، والحاكم (2/ 116)، وروى له شاهداً مرفوعاً على شرطهما.
(1)
أخرجه مسلم (2/ 208 - 209)، وأبو عوانة (1/ 386 - 387) في "صحيحيهما ". =
3 -
عن جندب - وهو ابن عبد الله البجلي - قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول:
«
…
ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك» (1).
= قال ابن تيمية (ص 31):
"فقد نهى صلى الله عليه وسلم عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت الغروب؛ مُعَلِّلاً بأنها تطلع وتغرب بين قرني شيطان، وأنه حينئذ يسجد لها الكفار. ومعلوم أن المؤمن لا يقصد السجود إلا لله تعالى، وأكثر الناس قد لا يعلمون أن طلوعها وغروبها بين قرني شيطان، ولا أن الكفار يسجدون لها، ثم إنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في هذا الوقت حسماً لمادة المشابهة بكل طريق .. وكان فيه تنبيه على أن كل ما يفعله المشركون من العبادات ونحوها مما يكون كفراً أو معصية بالنية؛ يُنْهَى المؤمنون عن ظاهره، وإن لم يقصدوا به قصد المشركين، سداً للذريعة وحسماً للمادة
…
ولهذا نهى عن الصلاة إلى ما عُبد من دون الله في الجملة، وإن لم يكن العابد يقصد ذلك
…
لما فيه من مشابهة السجود لغير الله؛ فانظر كيف قطعت الشريعة المشابهة في الجهات وفي الأوقات!
وكما لا يصلي إلى القبلة التي يصلون إليها، كذلك لا يصلي إلى ما يصلون له، بل هذا أشد فساداً، فإن القبلة شريعة من الشرائع قد تختلف باختلاف شرائع الأنبياء؛ أما السجود لغير الله وعبادته فهو محرم في الدين الذي اتفقت عليه رسل الله كما قال سبحانه:[وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً يُعْبَدُونَ] ".
(1)
أخرجه مسلم (2/ 67 - 68)، وأبو عوانة (1/ 401) في "صحيحيهما "، وابن سعد (2/ 2 / 35)، قال شيخ الإسلام (ص 52):" وصف (رسول الله) صلى الله عليه وسلم أن الذي كانوا قبلنا كانوا يتخذون قبور الأنبياء والصالحين مساجد، وعقب (في الأصل: "عند"، والتصحيح من المخطوطة) هذا الوصف بالنهي بحرف الفاء أن لا يتخذوا القبور مساجد، وقال: إنه صلى الله عليه وسلم ينهانا عن ذلك، ففيه دلالة على أن اتخاذ من قبلنا سبب لنهينا، إما مظهر للنهي، وإما موجب للنهي، وذلك يقتضي أن أعمالهم دلالة وعلامة على أن الله ينهانا عنها، أو أنها علة مقتضية للنهي، وعلى التقديرين يعلم أن مخالفتهم أمر مطلوب للشارع في الجملة.
والنهي عن هذا العمل بلعنة اليهود والنصارى مستفيض عنه صلى الله عليه وسلم
…
وليس هذا موضع استقصاء ذلك؛ إذا الغرض القاعدة الكلية، وإن كان تحريم ذلك ذكره غير واحد من علماء الطوائف من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم".
4 -
عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«خالفوا اليهود؛ فإنهم لا يصلون في نعالهم، ولا في خفافهم» (1).
5 -
عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«إذا صلى أحدكم في ثوب فليشده على حقوه (2)، ولا تشتملوا كاشتمال
(1) رويناه في "صحيح سنن أبي داود" برقم (659)، وذكرنا هناك من صححه من الأئمة، وتكلمنا على فقهه في "الثمر المستطاب " وفي تخريج "صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم "، فأمَرَ صلى الله عليه وسلم بمخالفة اليهود مطلقاً، فهو دليل على أن جنس المخالفة أمر مقصود للشارع، ثم خص بالذكر مخالفتهم بالصلاة في النعال والخفاف، وليس ذلك من قبيل تخصيص العام أو تقييد المطلق، بل هو من قبيل ذكر بعض أفراد العام.
قال شيخ الإسلام (ص 29):
"وهذا مع أن نزع اليهود نعالهم مأخوذ عن موسى عليه السلام، لمَّا قيل له: [اخلع نعليك] ".
(2)
هو معقد الإزار، وجمعه أحْقِ وأحقاء.
اليهود» (1).
6 -
عن جابر بن عبد الله قال:
(1) أخرجه البيهقي والطحاوي بسند صحيح، وقد روينا نحوه في "صحيح أبي داود"(645)، ورجحنا هناك أن الحديث مرفوع، وإن كان تردد راويه أحياناً في رفعه.
قال شيخ الإسلام (ص 42):
"وهذا المعنى صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية جابر وغيره أنه أمر في الثوب الضيق بالاتزار دون الاشتمال، وهو قول جمهور أهل العلم
…
وإنما الغرض أنه قال: "ولا يشتمل اشتمال اليهود"؛ فإن إضافة المنهي عنه إلى اليهود دليل على أن لهذا الإضافة تأثيراً في النهي؛ كما تقدم التنبيه عليه ".
(2)
أخرجه مسلم وأبو عوانة في "صحيحيهما"، وهو مستفيض عن جابر، خرجناه من ثلاثة طرق عنه أوردناها في "صحيح أبي داود" رقم (615 و 619)، وفي "تخريج صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم "، والزيادة في آخره عند أبي داود وغيره بإسناد صحيح.
قال شيخ الإسلام (ص 32):
"ففي هذا الحديث أنه أمرهم بترك القيام الذي هو فرض في الصلاة، وعلل ذلك بأن قيام المأمومين مع قعود الإمام يشبه فعل فارس والروم بعظمائهم في قيامهم وهم قعود، ومعلوم أن المأموم إنما نوى أن يقوم لله لا لإمامه، وهذا تشديد عظيم في النهي عن القيام للرجل القاعد، ونهى أيضاً عما يشبه ذلك، وإن لم يقصد به ذلك، ولهذا نهى عن السجود لله بين يدي الرجل، وعن الصلاة إلى ما عبد من دون الله كالنار ونحوها، وفي هذا الحديث أيضاً نهي عن عما يشبه فعل فارس والروم، وإن كانت نيتنا غير نيتهم لقوله: "فلا تفعلوا"، فهل بعد هذا في النهي عن مشابهتهم في مجرد الصورة غاية؟ !
ثم هذا الحديث سواء كان محكماً في قعود الإمام أو منسوخاً، فإن الحجة منه قائمة، لأن نسخ القعود لا يدل على فساد تلك العلة، وإنما يقتضي أنه قد عارضها ما ترجح عليها، مثل كون القيام فرضاً في الصلاة، فلا يسقط الفرض بمجرد المشابهة الصورية، وهذا محل اجتهاد، وأما المشابهة الصورية إذا لم تسقط فرضاً - كذا - كانت تلك العلة التي علل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم سليمة عن معارض أو نسخ؛ لأن القيام في الصلاة ليس بمشابهة في الحقيقة، فلا يكون محذوراً، فالحكم إذا علل بعلة، ثم نسخ مع بقاء العلة، فلا بد أن يكون غيرها ترجح عليها وقت النسخ أو ضعف تأثيرها، أما أن تكون في نفسها باطلة فهذا محال، هذا كله لو كان الحكم هنا منسوخاً، فكيف والصحيح أن هذا الحديث محكم قد عمل به غير واحد من الصحابة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع كونهم عملوا بصلاته في مرضه، وقد استفاض عنه الأمر به استفاضة صحيحة صريحة يمتنع معها أن يكون حديث المرض ناسخاً له على ما هو مقرر في غير هذا الموضع، (فهو محكم) إما بجواز الأمرين؛ إذ فعل القيام لا ينافي فعل القعود، وإما بالفرق بين المبتدئ للصلاة قاعداً، والصلاة التي ابتدأها الإمام قائماً لعدم دخول هذه الصلاة في قوله:"وإذا صلى قاعداً "، ولعدم المفسدة التي علل بها، ولأن بناء فعل آخر الصلاة على أولها أولى من بنائها على صلاة الإمام، ونحو ذلك من الأمور المذكورة وغير هذا الموضع".
«أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى رجلاً وهو جالس معتمد على يده اليسرى في الصلاة، فقال: «إنها صلاة اليهود» ، وفي رواية: لا تجلس هكذا، إنما هذه جلسة الذين يُعَذَّبون» (1).
ومن «الجنائز» :
8 -
عن جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(1) الرواية الأولى للحاكم وغيره بإسناد صحيح. والأخرى لأحمد بسند حسن على شرط مسلم، وقد تكلمنا عليهما في "تخريج صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم "، وانظر ما يأتي برقم (2) من "الآداب والعادات".
قال شيخ الإسلام (ص 31):
"ففي هذا الحديث النهي عن هذه الجلسة، معللة بأنها جلسة المعذبين، وهذه مبالغة في مجانبة هديهم. وأيضاً فروى البخاري عن مسروق عن عائشة أنها كانت تكره أن يجعل يده في خاصرته، وتقول: إن اليهود تفعله. ورواه أيضاً من حديث أبي هريرة قال: نُهي عن التخصر في الصلاة، ورواه مسلم بلفظ: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم) ".
(تنبيه): أخرج أبو داود حديث ابن عمر هذا بلفظ:
"نهى أن يعتمد الرجل على يده إذا نهض في الصلاة "، وهو منكر بهذا اللفظ، تفرد به شيخ أبي داود محمد بن عبدالملك الغزالي، وهو سيئ الحفظ، وخالفه الإمام أحمد وغيره في لفظه، وقد فصلت القول في ذلك في "سلسلة الأحاديث الضعيفة"(رقم 967).
(2)
أخرجه الطحاوي في "مشكل الآثار"، وأحمد، وغيرهما كابن سعد (2/ 2 / 72)، وله شاهد من حديث ابن عباس، وقد تكلمت على طرقه، وبينت ما فيها من الكلام في "نقد كتاب التاج" رقم (299)، لكن قال شيخ الإسلام (ص 33):
"وهو مروي من طرق فيها لين، لكن يصدق بعضها بعضاً، وفيه التنبيه على مخالفتنا لأهل الكتاب حتى في وضع الميت في أسف القبر".
ومن «الصوم» :
1 -
عن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«فَصْلُ مابين صيامنا وصيام أهل الكتاب أَكْلة السحر» (1).
2 -
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«لا يزال الدين ظاهراً ما عَجَّل الناس الفطر، لأن اليهود والنصارى يؤخرون» (2).
3 -
عن ليلى امرأة بشير ابن الخصاصية رضي الله عنه وعنها قالت: أردت أن أصوم يومين مواصلة، فنهاني عنه بشير، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاني عن ذلك، وقال:
(1) أخرجه مسلم (3/ 130 - 131)، وأصحاب "السنن"، وأحمد (4/ 197 و 202).
(2)
رواه الترمذي وأحمد بإسناد حسن، وقد خرجناه في "التعليقات الجياد على زاد المعاد".
قال شيخ الإسلام:
"وهذا نص في أن ظهور الدين الحاصل بتعجيل الفطر لأجل مخالفة اليهود والنصارى، وإذا كان مخالفتهم سبباً لظهور الدين، فإنما المقصود بإرسال الرسل أن يظهر دين الله على الدين كله، فتكون نفس مخالفتهم من أكبر مقاصد البعثة".
(3)
أخرجه أحمد (5/ 225)، وكذا سعيد بن منصور كما في "الاقتضاء"(ص 29) من طريق =
4 -
عن ابن عباس قال:
5 -
عن أم سلمة رضي الله عنها قالت:
«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم يوم السبت ويوم الأحد أكثر مما يصوم من الأيام،
= عبيد الله بن إياد بن لقيط عن أبيه عنها. وهذا إسناد صحيح، وليلى صحابية كما في "التقريب" وغيره، وعزاه الحافظ في "الفتح"(4/ 164) للطبراني أيضاً، وعبد بن حميد وابن أبي حاتم في "تفسيرهما" بإسناد صحيح إلى ليلى.
قال شيخ الإسلام:
"فعلل النهي عن الوصال بأنه صوم النصارى، وهو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويشبه أن يكون من رهبانيتهم التي ابتدعوها".
(1)
أخرجه مسلم (3/ 151)، والبيهقي (4/ 287)، وغيرهما.
قال شيخ الإسلام (ص 41):
"فهذا يوم عاشوراء يوم فاضل يُكَفِّر سنة ماضية، صامه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بصيامه، ورغب فيه، ثم لما قيل له (قبيل وفاته): إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، أمر بمخالفتهم، بضم يوم أخر إليه، وعزم على ذلك، ولهذا استحب العلماء منهم الإمام أحمد أن يصوم تاسوعاء وعاشوراء، وبذلك عللت الصحابة رضي الله عنهم. قال سعيد ابن منصور: حدثنا
…
عن ابن عباس: صوموا التاسع والعاشر، خالفوا اليهود".
قلت: وإسناده صحيح على شرطهما، وأخرجه البيهقي (4/ 287)، وقد روى نحوه مرفوعاً بسند ضعيف.
ويقول: إنهما يوما عيد المشركين، فأنا أحب أن أخالفهم» (1).
(1) أخرجه أحمد (6/ 324)، والحاكم (1/ 436)، ومن طريقه البيهقي (4/ 303) من طريق عبدالله بن محمد بن عمر بن علي عن أبيه عن كريب عنها. وهذا إسناد حسن ، وقال الحاكم:"صحيح"، ووافقه الذهبي، وصححه أيضاً ابن خزيمة كما في"نيل الأوطان "(4/ 214)، ونسبه لابن حبان أيضاً.
وقد عزاه ابن القيم في "الزاد"(1/ 237) لـ "سنن" النسائي أيضاً، وتبعه الحافظ في "الفتح"(10/ 298)، والظاهر أنهما يقصدان "السنن الكبرى " له، لأني لم أجده في "سننه الصغرى"، ولذلك لم يورده النابلسي في "الذخائر"، وهو إنما ينقل فيه عن "الصغرى" كما نص في المقدمة، بل أورده الهيثمي في "المجمع"(3/ 198)، وقال:
"رواه الطبراني في "الكبير"، ورجاله ثقات، وصححه ابن حبان".
وهذا قصور منه، حيث لم يعزه للمسند، وكأنه قد فاته ذلك، ثم قال الحافظ:"وأشار بقوله: "يوما عيد" إلى أن يوم السبت عيد عند اليهود، والأحد عيد عند النصارى، وأيام العيد لا تصام، فخالفهم بصيامها، ويستفاد من هذا أن الذي قاله بعض الشافعية من كراهة إفراد السبت وكذا الأحد ليس جيداً، بل الأولى في المحافظة على ذلك يوم الجمعة كما ورد الحديث الصحيح فيه، وأما السبت والأحد فالأولى أن يصاما معاً وفرادي امتثالاً لعموم الأمر بمخالفة أهل الكتاب، ثم قال: وقد جمعت المسائل التي وردت الأحاديث فيها بمخالفة أهل الكتاب، فزادت على الثلاثين حكماً، وقد أودعتها كتابي الذي أسميته (القول الثبت في الصوم يوم السبت) ".
قلت: والذي تيسر لي جمعه منها في هذه العجالة قريب من الثلاثين حكماً التقطتها من ثلاثين حديثاً ونيف. والحمد لله على توفيقه وهدايته.
ثم بدا لي أن في الحديث ضعفاً، بينته في "سلسلة الأحاديث الضعيفة"(1099)، وأنه من الناحية الفقهية لا يُشرع صوم السبت إلا في الفرض؛ كما حكاه الطحاوي في "شرح المعاني"(1/ 399) عن بعض أهل العلم، وذلك لنهيه صلى الله عليه وسلم عنه نهياً عاماً في قوله " "لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم
…
"، وهو مخرج في "الإرواء" (960). وراجع تعليقي عليه من الناحية الفقهية على "صحيح الترغيب" (1/ 509)، والاستدراك (16) آخر الثاني من "الصحيحة" الطبعة الجديدة / المعارف.
ومن «الحج» :
1 -
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:
«إن المشركين كانوا لا يفيضون من «جمع» (1) حتى تشرق الشمس على «ثبير» (2)، وكانوا يقولون: أشرق ثبير كيما نغير، فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم، فدفع قبل أن تطلع الشمس» (3).
(1) أي: مزدلفة، قيل: سميت به لأن آدم وحواء عليهما السلام لما أُهْبِطا اجتمعا بها!
(2)
جبل معروف عند مكة.
(3)
أخرجه البخاري (3/ 418)، وأبو داود (1/ 305)، والنسائي (2/ 48 - 49)، والترمذي (2/ 104 - بتحفة الأحوذي)، والدارمي (2/ 59 - 60)، وابن ماجه (2/ 241)، والبيهقي (5/ 124 - 125)، وأحمد (رقم 84 و 200 و 275 و 375 و 385)، وقال الترمذي:"حسن صحيح".
قال شيخ الإسلام (ص 57):
وقد روي في هذا الحديث فيما أظنه أنه قال: خالف هدينا هدي المشركين ". قلت: وهذا وهم منه رحمة الله، فليس هذا الذي ذكره في شيء من طرق الحديث، وإنما هو في حديث آخر أخرجه الطبراني (20/ 24 / 28) من طريق ابن جريج عن محمد بن قيس بن مخرمة عن المسور بن مخرمة رضي الله عنهما قال: "خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد؛ فإن أهل الشرك والأوثان كانوا يدفعون من ها هنا عند غروب الشمس حتى تكون الشمس على رؤوس الجبال مثل عمائم الرجال على رؤوسها، هدينا مخالف هديهم، وكانوا يدفعون من المشعر الحرام عند طلوع الشمس على رؤوس الجبال مثل عمائم الرجال، هدينا مخالف لهديهم ". وأخرجه الحاكم (2/ 277 و 3/ 523)، وقال: صحيح على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي، وفيه نظر من وجهين:
الأول: أن محمد بن قيس بن مخرمة لم يرو له البخاري مطلقاً.
الآخر: أن ابن جريج يدلس كما قال الذهبي نفسه في "الميزان"، وقال أحمد:"إذا قال: "أخبرونا" أو"سمعت"؛ حسبك به".
وأنت ترى أنه لم يصرح بسماعة هنا، بل عنعنة فكانت علة.
والحديث أورده الهيثمي في "المجمع"(3/ 255) مثل رواية الحاكم، ثم قال:"رواه الطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح".
ومن «الذبائح» :
1 -
عن رافع بن خديج قال:
(1) أخرجه البخاري (9/ 513 - 517 و 553)، ومسلم (6/ 78 و 79)، وأبو داود (2/ 6)، والنسائي (2/ 207)، والترمذي (2/ 350 - 351)، وابن ماجه (2/ 284)، والبيهقي (9/ 247)، وأحمد (3/ 463 و 4/ 140)، والطحاوي في "شرح المعاني "(2/ 306).
قال شيخ الإسلام (ص 54 - 55):
"نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الذبح بالظفر معللاً بأنها مدى الحبشة، كما علل السن بأنه عظم. وقد اختلف الفقهاء في هذا، فذهب أهل الرأي إلى أن علة النهي كون الذبح بالسن والظفر يشبه الخنق، أو هو مظنة الخنق، والمنخنقة محرمة، وسوغوا على هذا الذبحَ بالسن والظفر المنزوعين لأن التذكية بالآلات المنفصلة المحددة لا خنق فيه، والجمهور منعوا من ذلك مطلقاً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم استثنى السن والظفر مما أنهر الدم، فعلم أنه من المحدد الذي لا يجوز التذكية به، ولو كان لكونه خنقاً لم يستثنه، والمظنة إنما تقام مقام الحقيقة إذا كانت الحكمة خفيفة أو غير منضبطة، فأما مع ظهورها وانضباطها فلا، وأيضاً فإنه مخالف لتعليل رسول الله صلى الله عليه وسلم المنصوص في الحديث،
…
فقوله صلى الله عليه وسلم: "وأما الظفر فمدى الحبشة" بعد قوله: "وسأحدثكم عن ذلك "، يقتضي أن هذا الوصف - وهو كونه مدى الحبشة - له تأثير في المنع، إما أن يكون علة، أو دليلاً على العلة، أو وصفاً من أوصاف العلة أو دليلها، والحبشة في أظفارهم طول، فيذكون بها دون سائر الأمم، فيجوز أن يكون نهيه عن ذلك لما فيه من مشابهتهم فيما يختصون به ". وفي "الفتح" ما خلاصته:
"قوله: "وأما الظفر فمدى الحبشة "، أي: وهم كفار وقد نهيتم عن التشبه بهم. قاله ابن الصلاح وتبعه النووي، واعترض عليه بأنه لو كان كذلك لامتنع الذبح بالسكين وسائر ما يذبح به الكفار، وأجيب بأن الذبح بالسكين هو الأصل، وأما ما يلحق بها فهو الذي يعتبر فيه التشبيه لصنفها، ومن ثم كانوا يسألون عن جواز الذبح بغير السكين وشبهها كما سيأتي واضحاً".
ومن «الأطعمة» :
1 -
عن عدي بن حاتم، قال:«قلت: يا رسول الله! إني أسألك عن طعام لا أدعه إلا تحرجاً، قال: لا تدع شيئاً ضارعت فيه نصرانية (1)» (2).
(1) أخرجه أحمد (4/ 258 و 377)، والبيهقي (7/ 279)، والترمذي أيضاً (2/ 384)؛ من طريق شعبة عن سماك بن حرب قال: سمعت مري بن قطري قال: سمعت عدي بن حاتم به، وكذا رواه ابن حبان (1/ 274 / 33/ الإحسان). وهذا سند حسن بما بعده، رجاله ثقات رجال مسلم، غير مري بن قطري، وقد وثقه ابن حبان، وقال فيه الحافظ في "التقريب":
"مقبول"، أي: إذا توبع، ولم يتفرد به، فقد أخرجه أبو داود (2/ 142)، والترمذي أيضاً، وابن ماجه (2/ 192)، وكذا البيهقي، وأحمد (5/ 226 و 227)؛ من طرق عن سماك بن حرب: حدثني قبيصة بن هلب عن أبيه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول - وسأله رجل فقال: إن من الطعام طعاماً أتحرج منه؟ - فقال:
"لا يتخلجن في نفسك شيء ضارعت فيه النصرانية".
وهذا الإسناد كالذي قبله، إلا أن قبيصة بن هلب وثقه العجلي أيضاً، وقال الترمذي:"هذا حديث حسن".
(2)
أي: شابهت لأجله أهل الملة النصرانية من حيث امتناعهم إذا وقع في قلب أحدهم أنه حرام أو مكروه، وهذا في المعنى تعليل النهي، والمعنى: لا تتحرج فإنك إن فعلت ذلك؛ ضارعت فيه النصرانية؛ فإنه من دأب النصارى وترهبهم. كذا في "تحفة الأحوذي" في شرح حديث هلب الآتي قريباً شاهداً لحديث عدي.
ومن «اللباس والزينة» :
1 -
عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: «رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم علي ثوبين معصفرين، فقال: إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها» (1).
(1) أخرجه مسلم (6/ 144)، والنسائي (2/ 298)، والحاكم (4/ 190)، وأحمد (2/ 162 و 164 و 193 و 207 و 211)، والرامهرمزي في " المحدث الفاصل "(ق 69/ 2)، وقال الحاكم:
"حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه "، وقد وهم في استدراكه على مسلم.
وفي هذا الحديث النهي عن لبس ثياب الكفار الخاصة بهم. قال شيخ الإسلام (ص 57 - 58): "وعلل النهي عن لبسها بأنها من ثياب الكفار، وسواء أراد أنها مما يستحله الكفار بأنهم يستمتعون بخلاقهم في الدنيا، أو مما يعتاده الكفار لذلك؛ كما أنه في الحديث قال: "إنهم يستمتعون بآنية الذهب والفضة في الدنيا، وهي للمؤمنين في الآخرة"، ولهذا كان العلماء يجعلون اتخاذ الحرير وأواني الذهب والفضة تشبهاً بالكفار، ففي "الصحيحين" عن أبي عثمان النهدي قال"كتب إلينا عمر رضي الله ونحن بأذربيجان مع عتبة بن فرقد: يا عتبة! إنه ليس من كد أبيك ولا من كد أمك، فاشبع المسلمين في رحالهم مما تشبع منه في رحلك، وإياك والتنعم، وزي أهل الشرك، ولبوس الحرير، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبوس الحرير، وقال: إلا هكذا، ورفع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إصبعيه الوسطى والسبابة وضمهما".
وروى أبو بكر الخلال بإسناده عن محمد بن سيرين أن حذيفة بن اليمان أتى بيتاً فرأى فيه حادثتين (في المخطوطة (ق 50/ 2) حارستان) فيه أباريق الصفر والرصاص فلم يدخله، وقال: من تشبه بقوم فهو منهم، وفي لفظ آخر: فرأى شيئاً من زي العجم، فخرج، وقال: من تشبه بقوم فهو منهم".
2 -
عن علي رضي الله عنه رفعه: «إياكم ولبوس الرهبان، فإنه من تزيا بهم أو تشبه، فليس مني» (1).
(1) أخرجه الطبراني في "الأوسط " بسند لا بأس به. كذا في "الفتح"(10/ 223).
وأقول الآن في هذه الطبعة: لعل الحافظ يعني: لا بأس بسنده في الشواهد، فقد وقفت على إسناده، فتبين أن فيه عللاً تضطرني إلى الحكم عليه بالضعف، ولذلك بادرت إلى إخراجه في "الأحاديث الضعيفة"(3234)، وتفصيل القول فيه هناك، والله تعالى هو الهادي.
(1) العثانين: جمع عثنون، وهي اللحية، و (السبال) جمع (سبلة) بالتحريك، وهي الشارب.
(2)
أخرجه أحمد (5/ 264) من طريق القاسم قال: سمعت أبا أمامة به.
قلت: وهذا إسناد حسن، رجاله كلهم ثقات غير القاسم - وهو ابن عبد الرحمن أبو عبد الرحمن الدمشقي - وهو حسن الحديث، وقال الهيثمي في "المجمع" (5/ 131):"رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح؛ خلا القاسم، وهو ثقة، وفيه كلام لا يضر".
وفيه أن شيخ أحمد فيه: زيد بن يحيى، وليس من رجال الصحيح؛ لا البخاري ولا مسلم. فجعله منهم سهو منه. ثم ذكر للحديث شاهداً من رواية جابر بن عبدالله عن الطبراني في "الأوسط"، قال في آخره:
"وخالفوا أولياء الشيطان بكل ما استطعتم ".
وحديث أبي أمامة حسنه الحافظ في "الفتح"(9/ 291)، وقال:"وأخرج الطبراني نحوه من حديث أنس ".
4 -
عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(1) أخرجه البخاري (10/ 288)، ومسلم (1/ 153)، وأبو عوانة (1/ 189)، والبيهقي (1/ 150)، من طريق نافع عنه، إلا أن أبا عوانة قال:"المجوس"، بدل:"المشركون"، ويشهد له ما أخرجه البيهقي (1/ 151)؛ من طريق ميمون بن مهران عن عبد الله بن عمر قال: ذُكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم المجوس، فقال:
"إنهم يوفرون سبالهم، ويحلقون لحاهم، فخالفوهم".
ورجاله ثقات غير أبي بكر محمد بن جعفر المزكي، فلم أجد من ترجمه. لكن أخرجه ابن حبان في "صحيحه"(2452 - الإحسان) من طريق أخرى، ولذلك خرجته في " الصحيحة"(2834). ويشهد له أيضاً حديث أبي هريرة الآتي بعده، ففيه:
"خالفوا المجوس "، ولهذا قال الحافظ في "الفتح":
"وهو المراد في حديث ابن عمر، فإنهم كانوا يقصون لحاهم، ومنهم من كان يحلقها ".
قال شيخ الإسلام (ص 28):
"فأمر صلى الله عليه وسلم بمخالفة المشركين مطلقاً، ثم قال: أحفوا الشوارب، وأوفوا اللحى، وهذه الجملة الثانية بدل من الأولى، فإن الإبدال يقع في الجمل كما يقع في المفردات، قال: فلفظ مخالفة المشركين دليل على أن جنس المخالفة أمر مقصود للشارع، وإن عينت في هذا الفعل، فإن تقديم المخالفة علة تقديم العام على الخاص، كما يقال: أكرم ضيفك؛ أطعمه وحادثه، فأمرك بالإكرام أولاً، دليل على أن إكرام الضيف مقصود، ثم عينت الفعل الذي يكون إكراماً في ذلك الوقت، والتقرير من هذا الحديث شبيه بالتقرير من قوله: لا يصبغون فخالفهم".
سيأتي هذا الحديث بعد هذا بحديث، ثم ذكر حديث أبي هريرة، وهو الحديث المذكور أعلاه، والتالي تخريجه.
5 -
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«جزوا الشوارب وأرخوا اللحى؛ خالفوا المجوس» (1).
6 -
وعنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
(1) أخرجه مسلم (1/ 153)، وأبو عوانة (1/ 188)، والبيهقي (1/ 150)، وأحمد (2/ 153 و 366)؛ من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عنه. وله شاهد من حديث أنس، أورده في"المجمع"(5/ 166)، وقال:"رواه البزار، وفيه الحسن بن جعفر، وهو ضعيف متروك".
وقد أخرجه الطحاوي (2/ 333) من طريق أخرى ضعيفة أيضاً قال شيخ الإسلام:
"فعقب الأمر بالوصف المشتق المناسب، وذلك دليل على أن مخالفة المجوس أمر مقصود للشارع، وهو العلة في هذا الحكم، أو علة أخرى أو بعض علة، وإن كان الأظهر عند الإطلاق أنه علة تامة، ولهذا لما فهم السلف كراهة التشبه بالمجوس في هذا وغيره؛ كرهوا أشياء غير منصوصة بعينها عن النبي صلى الله عليه وسلم من هدي المجوس، وقال المروزي: سألت أبا عبدالله - يعني أحمد بن حنبل - عن حلق القفا؟ فقال: هو من فعل المجوس، ومن تشبه بقوم فهو منهم
…
وذكر الخلال عن المعتمر بن سليمان التميمي قال: كان أبي إذا جز شعره لم يحلق قفاه، قيل له: لم؟ قال: كان يكره أن يتشبه بالعجم. والسلف تارة يعللون الكراهة بالتشبه بأهل الكتاب، وتارة بالتشبه بالأعاجم، وكلا العلتين منصوص في السنة، مع أن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم قد أخبر بوقوع المشابهة لهؤلاء وهؤلاء؛ كما قدمنا بيانه".
(2)
أخرجه البخاري (10/ 291)، ومسلم (6/ 155)، وأبو داود (2/ 195)، والنسائي =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= (2/ 273)، وابن ماجه (2/ 381)، وأحمد (2/ 240 و 260 و 309 و 401).
قال الشوكاني في "نيل الأوطار"(1/ 105):
" والحديث يدل على أن العلة في شرعية الصباغ، وتغيير الشيب، هي مخالفة اليهود والنصارى، وبهذا يتأكد استحباب الخضاب، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبالغ في مخالفة أهل الكتاب، ويأمر بها، وهذه السنة قد كثر اشتغال السلف بها، ولهذا ترى المؤرخين في التراجم لهم يقولون: "وكان يخضب"، "وكان لا يخضب"، قال ابن الجوزي: قد اختصب جماعة من الصحابة والتابعين، وقال أحمد بن حنبل وقد رأى رجلاً قد خضب لحيه: إني لأرى رجلاً يحيى ميتاً من السنة، وفرح به حين رآه صبغ بها".
وقال شيخ الإسلام (ص 24) بعد أن ذكر الحديث:
"هذا فيه أمرٌ بمخالفتهم، وذلك يقتضي أن يكون جنس مخالفتهم أمراً مقصوداً للشارع؛ لأنه إن كان الأمر بجنس المخالفة حصل المقصود، وإن كان الأمر بالمخالفة في تغيير الشعر فقط؛ فهو لأجل ما فيه من المخالفة، فالمخالفة إما علة مفردة، أو علة أخرى، أو بعض علة، وعلى جميع التقديرات تكون مأموراً بها مطلوبة للشارع؛ لأن الفعل المأمور به إذا عُبَّرَ عنه بلفظ مشتق من معنى أعم من ذلك الفعل؛ فلا بد أن يكون ما منه الاشتقاق أمراً مطلوباً، لا سيما إن ظهر لنا أن المعنى المشتق منه معنى مناسب للحكمة، كما لو قيل للضيف: "أكرمه"؛ بمعنى: أطعمه، وللشيخ الكبير: "وقره"؛ بمعنى: اخفض صوتك له، أو نحوه، وذلك لوجوه".
قلت: ثم أطال في بيانها إلى (ص 28) وفيه من الفوائد العلمية ما لا يوجد في غيره، ومما جاء فيه (ص 27):
"وهذا وإن دل على أن مخالفتهم أمر مقصود للشرع، فذلك لا ينفي أن تكون في نفس الفعل الذي خولفوا فيه مصلحة مقصودة مع قطع النظر عن مخالفتهم، فإن هنا شيئين:
أحدهما: أن نفس المخالفة لهم في الهدي الظاهر مصلحة ومنفعة لعباد الله المؤمنين، لما =
= في مخالفتهم من المجانبة والمباينة التي توجب المباعدة عن أعمال أهل الجحيم، وإنما يظهر بعض المصلحة في ذلك لمن تنور قلبه حتى رأى ما اتصف به المغضوب عليهم والضالون من المرض الذي ضرره أشد من ضرر أمراض الأبدان.
والثاني: أن نفس ما هم عليه من الهدى والخلق قد يكون مضراً أو منقصاً، فينهي عنه، ويؤمر بضده، لما فيه من المنفعة والكمال،
وليس شيء من أمورهم إلا وهو: إما مضر أو ناقص، لأن ما بأيديهم من الأعمال المبتدعة والمنسوخة ونحوها مضرة، وما بأيديهم مما لم ينسخ أصله، فهو يقبل الزيادة والنقص، فمخالفتهم فيه بأن يشرع ما يحصله على وجه الكمال، ولا يتصور أن يكون شيء من أمورهم كاملاً قط، إذاً المخالفة لهم فيها منفعة وصلاح لنا في كل أمورهم، حتى ما هم عليه من إتقان أمور دنياهم قد يكون مضراً بالآخرة، أو بما هو أهم
منه من أمر الدنيا، فالمخالفة فيه صلاح لنا
…
وحقيقة الأمر أن جميع أعمال الكافر وأموره لا بد فيها من خلال يمنعها أن تتم منفعة بها، ولو فرض صلاح شيء من أموره على التمام لا ستحق بذلك ثواب الآخرة، ولكن كل أموره إما فاسدة، وإما ناقصة، فالحمد لله على نعمة الإسلام التي هي أعظم النعم، وأم كل خير كما يحب ربنا ويرضى، فقد تبين أن نفس مخالفتهم أمر مقصود للشارع في الجملة، ولهذا كان الإمام أحمد وغيره من الأئمة يعللون الأمر بالصبغ بعلة المخالفة". ثم ساق بعض النقول في ذلك عن أحمد.
(1)
أخرجه أحمد (2/ 161 و 499) من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عنه.
قلت: وهذا إسناد حسن. وأخرجه ابن حبان في "صحيحة"(5449 - الإحسان)، وتابعه عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أحمد (2/ 356)، والترمذي (3/ 55)، وقال: "حديث =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= حسن صحيح "، وله شواهد كثيرة:
منها عن الزبير بن العوام، أخرجه أحمد (رقم 1415): حدثنا محمد بن كناسة: حدثنا هشام بن عروة عن عثمان بن عروة عن أبيه عن الزبير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكره، دون قوله:"ولا بالنصارى". ومن طريق ابن كناسة هذا أخرجه النسائي (2/ 278)، وأبو نعيم (2/ 180)، والخطيب (5/ 404 - 405).
قلت: وهذا إسناد صحيح، وقال أبو نعيم:"غريب من حديث عروة، تفرد به ابن كناسة، وحدث به عن ابن كناسة الأئمة؛ أبو بكر بن أبي شيبة ، وابن نمير، وأحمد بن حنبل، وأبو خيثمة".
فأشار بهذا إلى أن الإسناد صحيح، لكن أعله ابن معين والدارقطني بالإرسال كما حكى ذلك الخطيب، وقال الدارقطني:
"رواه الحفاظ من أصحاب هشام عن هشام عن عروة مرسلاً "، ثم أخرجه النسائي والخطيب (4/ 77) من طريق أحمد بن جناب الحدثي: حدثنا عيسى بن يونس عن هشام بن عروة عن أبيه عن ابن عمر مرفوعاً.
وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم، لكنه أعل أيضاً، فقال النسائي بعد أن ساقه والذي قبله:"كلاهما غير محفوظ ".
وقال الخطيب: " تفرد بن أحمد بن جناب عن عيسى ".
قلت: وهما ثقتان، فلا يضر تفردهما بهذا الإسناد، وكل هذه الأسانيد عن هشام صحيحه، وقد كان له في هذا الحديث عدة أسانيد، وهذا منها.
ومنها ما أخرجه الخطيب (5/ 405 و 9/ 378)؛ من طريق عبد الله بن أحمد الأهوازي الجواليقي: حدثنا زيد بن الحريش: حدثنا ابن رجاء عن سفيان عن هشام ابن عُروة عن أبيه عن عائشة مرفوعاً به.
وهذا إسناد لا بأس به في المتابعات، رجاله كلهم ثقات معروفون، غير زيد بن الحريش؛ =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= أورده في "اللسان"، وقال:
"قال ابن حبان في "الثقات": ربما أخطأ، وقال ابن القطان: مجهول الحال" ولم يتفرد به، فقد قال الخطيب عقيبه " "وهكذا رواه أبو مروان يحيى بن أبي زكريا الغساني عن هشام".
وقال الدارقطني:
"وكذلك روى حفص بن عمر الحبطي عن هشام ".
لكن يحيى بن أبي زكريا وحفص بن عمر ضعيفان، فالعمدة على رواية سفيان، وقد أورد الهيثمي حديث عائشة هذا في "المجمع"(5/ 160 - 161)، وقال:"رواه الطبراني في "الأوسط " عن شيخ له اسمه أحمد، ولم أعرفه، والظاهر أنه ثقة لأنه أكثر عنه، وبقية رجاله ثقات ".
ومن شواهد هذا الحديث ما أخرجه الطبراني في "الأوسط"(1/ 10 / 2/ 141 بترقيمي) عن أنس بن مالك قال:
كنا يوماً عند النبي صلى الله عليه وسلم فدخلت عليه اليهود، فرآهم بيض اللحى، فقال:"مالكم لا تغيرون؟ ".
فقيل: إنهم يكرهون! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لكنَّكم غَيِّروا؛ وإياي والسواد ".
قال الهيثمي (5/ 160): "وفيه ابن لهيعة، وبقية رجاله ثقات، وهو حديث حسن".
قلت: وبالجملة فالحديث صحيح بهذه الطرق والشواهد.
قال شيخ الإسلام:
"وهذا اللفظ - يريد المذكور في المتن - أدل على الأمر بمخالفتهم، والنهي عن مشابهتهم فإنه إذا نهى عن التشبه بهم في بقاء بياض الشيب الذي ليس من فعلنا، فلأنْ ينهى عن إحداث التشبه بهم أولى، ولهذا كان هذا التشبه بهم يكون حراماً، بخلاف الأول".
وقال المناوي:
"وفيه ندب مخالفة اليهود والنصارى مطلقاً، فإن العبرة بعموم اللفظ".
8 -
عن ابن عباس قال:
(1) أخرجه البخاري (6/ 447 / و 7/ 221 و 10/ 297)، ومسلم (7/ 83)، وأبو داود (2/ 193)، والنسائي (2/ 292)، وابن ماجه (2/ 383)، وأحمد (رقم 2209 و 2362 و 2605 و 2944). وقد عزاه بعضهم للشيخين وأصحاب "السنن"، فأوهم أنه في الترمذي أيضاً، وليس كذلك. ولم يعزه إليه النابلسي في "الذخائر"(رقم 3202).
ففي الحديث أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم استقر أخيراً على مخالفة أهل الكتاب حتى في الشَّعر!
قال شيخ الإسلام (ص 82):
"ولهذا صار الفرق شعار المسلمين، وكان من الشروط المشروطة على أهل الذمة {أن} لا يفرقوا شعورهم، وهذا كما أن الله شرع في أول الأمر استقبال بيت المقدس موافقة لأهل الكتاب، ثم إنه نسخ ذلك وأمره باستقبال الكعبة، وأخبر عن اليهود وغيرهم من السفهاء أنهم سيقولون [ما ولَاّهم عن قبلتهم التي كانوا عليها] ".
والسر في موافقته لأهل الكتاب أول الأمر ما ذكره الحافظ في "الفتح"، وهو:"أن أهل الأوثان أبعد عن الإيمان من أهل الكتاب، ولأن أهل الكتاب يتمسكون بشريعة في الجملة، فكان يحب موافقتهم ليتألفهم، ولو أدت موافقتهم إلى مخالفة أهل الأوثان، فلما أسلم أهل الأوثان الذين معه والذين حوله، واستمر أهل الكتاب على كفرهم، تمحضت المخالفة لأهل الكتاب"
قال الحافظ في " الفتح"(11/ 12): =
ومن «الآداب والعادات» :
1 -
عن جابر بن عبدالله مرفوعاً:
«لا تسلموا تسليم اليهود، فإن تسليمهم بالرؤوس والأكف والإشارة» (1)، (2).
= "أخرجه النسائي بسند جيد".
قلت: ولعله في "سننه الكبرى" أو في "عمل اليوم والليلة " له، ثم طبع هذا، وهو فيه برقم (340)، وفيه عنعنة أبي الزبير. انظر "الصحيحة"(1783). وقد أورده الهيثمي في " المجمع"(8/ 38) بنحوه، ثم قال:
"رواه أبو يعلي والطبراني في "الأوسط"، ورجال أبي يعلي رجال الصحيح". ويشهد له ما أخرجه الترمذي (3/ 386) من طريق ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى، فإن تسليم اليهود بالإشارة بالأصابع، وتسليم النصارى الإشارة بالأكف. وقال:
"هذا الإسناد ضعيف ".
قلت: وابن لهيعة إنما ضعف من قبل حفظه، والحديث الذي قبله يشهد لما رواه، وانظر الحديث الآتي:
(1)
قال النووي:
"والنهي عن السلام بالإشارة مخصوص بمن قدر على اللفظ حساً وشرعاً، وإلا فهي مشروعة لمن يكون في شغل يمنعه في التلفظ بجواب السلام كالمصلي والبعيد والأخرس، وكذا السلام على الأصم ". ذكره في "الفتح".
قلت: ثم إن الحديث عام يشمل - باستثناء من سبق - من سلم بالإشارة واللفظ معاً، أو بالإشارة دون اللفظ، وإن كان هذا أشد مخالفة؛ لجمعه بين ترك السنة - وهو إلقاء السلام أو ردّه - والتشبه بالكفار. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وأما النووي فقد حمله على هذا الأخير محتجًّا بحديث في ثبوته نظر، فقال في "الأذكار " (313) عقب حديث عمرو بن شعيب المتقدم:
"وأما الحديث الذي رويناه في كتاب الترمذي عن أسماء بنت يزيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر في المسجد يوماً وعصبة من النساء قعود، فأشار بيده بالتسليم، قال الترمذي: حديث حسن. فهذا محمول على أنه صلى الله عليه وسلم جمع بين اللفظ والإشارة، ويدل على هذا أن أبا داود روى هذا الحديث، وقال في روايته: فسلم علينا".
قلت: حديث أسماء هذا لا يصح، فلا يصلح للاعتماد عليه في إجازة ما دل مطلق حديث جابر وغيره على منعه، وذلك لأن إسناده يدور على شهر بن حوشب عنها، وهو مختلف فيه، وقد قال فيه ابن عدي:
"هو ممن لا يحتج به، ولا يتدين بحديثه "، قال الحافظ في "التقريب":"صدوق، كثير الإرسال والأوهام".
وكثيرة أوهامه مما لا يشك فيه من تتبع روايته وأحاديثه، ولذلك لا نشك أن ما تفرد به أو اختلف عليه فيه؛ أنه لا يحتج به، وإنما يعتبر به في الشواهد والمتابعات، وقد تفرد بذكر الإشارة في هذا الحديث، بل اختلف عليه فيها؛ فمنهم من أثبتها عنه، ومنهم من لم يذكرها البتة، فقد أخرج حديثه الترمذي (3/ 386)، والبخاري في "الأدب المفرد"(ص 151)، وأحمد (6/ 457 - 458)؛ من طريق عبد الحميد بن بهرام عن شهر به. وقال الترمذي:
"وهذا حديث حسن، قال أحمد بن حنبل " لا بأس بحديث عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب، قال محمد: شهر حسن الحديث، وقوى أمره، وقال: إنما تكلم فيه ابن عون".
قلت: قد تكلم فيه غيره أيضاً، فانظر ترجمته في "تهذيب التهذيب"، وقد ذكرت لك خلاصة ما يستفاد من أقوالهم فيه.
ثم أخرج الحديث أبو داود (2/ 343)، والدارمي (2/ 277)، وابن ماجه (2/ 398)، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وأحمد (6/ 452) من طريق ابن أبي حسين سمعه من شهر بن حوشب، يقول: أخبرته أسماء ابنة يزيد: مر علينا النبي صلى الله عليه وسلم في نسوة فسلم علينا. فلم يذكر ابن أبي الحسين- واسمه عبد الله بن عبد الرحمن - عنه الإشارة، وذكرها عبد الحميد بن بهرام، فاختلفا، فوجب الترجيح، ورواية ابن أبي حسين عندي أرجح، لأنه ثقة عند الجميع كما قال ابن عبد البر، وهو محتج به في " الصحيحين"، وليس كذلك ابن بهرام، فهو من كونه ليس من رجالهما، فقد قيل فيه:"إنه يهم"،
و"لا يحتج بحديثه"؛ فلا يصلح أن يعارض بروايته ويقال: "زيادة الثقة مقبولة"؛ لأن هذا محله فيما لو كان الزائد ثقة قوي الحفظ كما هو مبين في " المصطلح"، وليس الأمر كذلك هنا، فتنبه.
على أننا لو فرضنا أن ابن بهرام قد حفظ هذه الزيادة عن شهر، فذلك يدل على أن شهراً نفسه كان يضطرب فيها، فكان يرويها تارة، وتارة لا، وذلك مما يوهن الاعتماد عليها ولاحتجاج بها. ويؤيد هذا أن الحديث رواه غير شهر عن أسماء بدون الزيادة، فقال البخاري في " الأدب":
حدثنا مخلد قال: حدثنا مبشر بن إسماعيل عن ابن أبي غنية عن محمد بن مهاجر عن أبيه عن أسماء ابنة يزيد الأنصارية:
مربي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا في جوار أتراب لي، فسلم علينا.
وهذا إسناد صحيح إن شاء الله تعالى، ورجاله ثقات؛ رجال الصحيح، غير مهاجر والد محمد، وقد روى عنه جمع، وذكره ابن حبان في "الثقات"(5/ 427)، فالأخذ بحديثه هذا أولى، ولا سيما وهو مولى أسماء هذه، فهو أعلم بحديثها من شهر وبذلك يثبت أن أصل الحديث صحيح، وأن ذكر الإشارة فيه منكر من أوهام شهر بن حوشب، فلا يحتج بها، ولا يعارض الحديث الذي نحن في صدد الكلام عليه.
(تنبيه): قال الحافظ في "الفتح" بعد أن ساق حديث أسماء، واللفظ الذي فيه الإشارة: =
2 -
عن الشريد بن سويد قال:
= "وله شاهد من حديث جابر عن أحمد".
ونقله عن المباركفوري في "تحفة الأحوذي".
ويغلب على الظن أن قوله: "جابر" سبق قلم من الحافظ، والصواب:"جرير"، فإن الهيثمي لم يورد في "المجمع" (8/ 38) وغير حديثه ولفظه:
"مر النبي صلى الله عليه وسلم على نسوة، فسلم عليهن"، وهو في "المسند"(4/ 357 و 363)، و "عمل اليوم والليلة" لابن السني (رقم 221) وأبي يعلي، والطبراني، وقد تكلم عليه الهيثمي بما يدل على اضطراب إسناده، وفي بعض طرقه جابر عن طارق التيمي، قال الهيثمي:"فإن كان جابر هو الجعفي فهو ضعيف". وجزم الحافظ في "التعجيل" بأنه هو، وفيه نظر، فإنه وقع في السند جابر بن عبد الله، والجعفي اسم أبيه يزيد، فافترقا، والله أعلم.
(2)
ولهذا كانوا يكرهون التسليم باليد؛ كما قال عطاء بن أبي رباح فيما أخرجه البخاري في " الأدب المفرد"(146)، وإسناد صحيح على شرطه في " الصحيح".
(1)
أخرجه أبو داود (2/ 295)، والحاكم (4/ 269)، وأحمد (4/ 388)، وقال الحاكم:"صحيح الإسناد"، ووافقه الذهبي.
قلت: بل هو على شرط البخاري، وابن جريج قد صرح بالتحديث عند عبد الرزاق، كما في "كتاب الأحكام " لعبد الحق الإشبيلي (رقم 1284 - بتحقيقي).
ثم رأيته كما ذكره عبد الحق في "مصنف عبد الرزاق"(2/ 198 / 3058)، فزالت العلة، وصح الحديث والحمد لله. وروى عبد الرزاق أيضاً (10/ 415 / 19542) عن يحيى بن أبي كثير؛ قال:"زجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعتمد الإنسان على يده اليسرى إذا كان يأكل".
قلت: ورجاله ثقات؛ لكنه معضل، وفي عموم الذي قبله ما يؤيد هذا. والله أعلم.
ويشهد له حديث ابن عمر:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً ساقطاً يده في الصلاة، فقال:"لا تجلس هكذا؛ إنما هذه جلسة الذين يعذبون".
أخرجه أحمد (رقم 5972) بسند حسن صحيح، وقد تقدم في "الصلاة"(رقم 7 ص 173).
3 -
عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«نظفوا أفنيتكم، ولا تشبهوا باليهود؛ تجمع الأكباءَ (1) في دورها» (2).
(1) جمع (كِبى) بالكسر والقصر، في "القاموس":"كـ (إلى): الكُناسة".
(2)
حديث حسن، أخرجه الدولابي في " الكنى" (2/ 137) من طريق أبي الطيب هارون بن محمد قال: حدثنا بكير بن سمار عن عامر بن سعد عن سعد - في الأصل: سعيد وهو تحريف- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن الله نظيف يحب النظافة، جواد يحب الجود، كريم يحب الكرم، طيب يحب الطيب، فنظفوا
…
الحديث"، ورجاله ثقات؛ غير أبي الطيب هارون بن محمد، وهو ضعيف جداً. لكن أخرجه الترمذي من طريق أخرى عن خالد بن إلياس عن صالح بن أبي حسان قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: فذكره موقوفاً عليه. قال: فذكرت ذلك لمهاجر بن مسمار، فقال: حدثنيه عامر بن سعد عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. وقال الترمذي: "حديث غريب، وخالد بن إلياس يضعف".
قلت: وقد يتقوى بالطريق الأول، ويزيده قوة ما في "الجامع" عن سعد أيضاً مرفوعاً بلفظ:"طهروا أفنيتكم، فإن اليهود لا تنظف أفنيتها". رواه الطبراني في "الأوسط"، وقال الشارح المناوي:
"قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح؛ خلا شيخ الطبراني ".
قلت: فهذه الطريق غير الطريقين الأوليين قطعاً، فهو شاهد قوي للقدر الذي أوردنا من الحديث والله تعالى أعلم.
ثم وقفت على إسناد الطبراني في "زوائد المعجم الصغير والأوسط"(11/ 2)، فرأيت رجاله رجال الصحيح كما قال الهيثمي خلا شيخ الطبراني، وهو علي بن سعيد، وهو الرازي، وهو مختلف فيه، والراجح أنه حسن الحديث إذا لم يخالف.
وللحديث شاهد مرسل، أخرجه وكيع بن الجراح في "الزهد"(2/ 65 / 1)، وسنده ضعيف. وبالجملة؛ فالحديث ثابت قطعاً بهذه الطرق.
4 -
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«إياكم وهاتان (1) الكعبتان الموسومتان اللتان تزجران زجراً، فإنها ميسر العجم» (2).
(1) هكذا الرواية، وهي على لغة من يلزم المثنى الألف، وهي لغة صحيحة معروفة.
(2)
أخرجه الإمام أحمد (رقم 4263)، والبيهقي (10/ 215)، من طريق إبراهيم بن مسلم الهجري عن أبي الأحوص عنه.
والهجري هذا ضعيف، وقد ورد عنه موقوفاً على ابن مسعود. وأخرجه البيهقي أيضاً، وقال:"إنه المحفوظ".
قلت لكن الظاهر أنه ورد من عير طريق الهجري، فقد أورده الهيثمي في "المجمع"(8/ 113) باللفظ المذكور أعلاه، وقال:"رواه أحمد والطبراني، ورجال الطبراني رجال الصحيح".
والهجري ليس من رجال الصحيح، فدل على أن الطبراني رواه من طريق غيره، فتقوى الحديث به، ولا سيما أن له شاهداً، فقد جاء الحديث في" الكشاف "، وقال مخرجه الحافظ العسقلاني (4/ 18 رقم 145):
"رواه ابن مردويه من حديث سمرة بن جندب، ومن حديث أبي موسى الأشعري نحوه، ورواه أحمد والبخاري في"الأدب المفرد" من وجهين عن أبي الأحوص عن عبدالله بن مسعود ".
قلت: هو عند البخاري (ص 184) من طريق عبدالملك عن أبي الأحوص به موقوفاً، وهو عند أحمد من طريق الهجري مرفوعاً كما تقدم، وصنيع الحافظ يوهم أنهما أخرجاه كلاهما موقوفاً أو مرفوعاً، وليس كذلك.
وبالجملة فالحديث حسن أو صحيح. والله أعلم.
والحديث أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف "(8/ 737 / 6203)، وابن عدي في ترجمة الهجري من "الكامل"(1/ 213)، قال:
"وإبراهيم الهجري حدث عنه شعبة والثوري وغيرهما، وأحاديثه عامتها مستقيمة المتن، وإنما أنكروا عليه كثرة روايته عن أبي الأحوص عن عبدالله، وهو عندي ممَّن يكتب حديثه".
وروى له ابن أبي شيبة (6195) شاهداً عن قتادة؛ قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن اللعب بالكعبين؟ فقال: "إنها ميسر الأعاجم".
قال: وكان قتادة يكره اللعب بكل شيء حتى يكره اللعب بالحصى.
قلت: وإسناده صحيح؛ لكنه مرسل؛ فلا بأس به في الشواهد.
«متنوعات» :
1 -
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
«لا تُطروني (1)
كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، إنما أنا عبدالله، فقولوا:
(1) بضم أول من الإطراء، قال المناوي على "الشمائل":
"وهو المبالغة في المدح والغلو، فالمعنى: لا تجاوزوا الحد في مدحي بغير الواقع، فيجركم ذلك إلى الكفر كما جر النصارى لما تجاوزوا الحد في مدح عيسى عليه السلام بغير الواقع واتخذوه إلهاً. قال:
والتشبيه في قوله: "كما أطرت النصارى عيسى" في زعم الألوهية، ويصح أن يكون ليس بمجرد ذلك، بل لنسبة ما ليس فيه، فيكون أعم".
قلت: وهذا هو الصحيح، لأننا نعلم بالضرورة أن النصارى قد أطروا عيسى عليه السلام بغير الألوهية أيضاً، فمدح المسلمين للنبي صلى الله عليه وسلم بما ليس فيه يكون تشبهاً بالنصارى، فينهى عنه لأمرين:
الأول: كونه كذباً في نفسه، وهو صلى الله عليه وسلم أرفع مقاماً من أن يمدح به.
الآخر: سداً للذريعة، وخشية أن يؤدي ذلك إلى ما ادعته النصارى في نبيهم من الألوهية ونحوها. وقد وقع في هذا بعض المسلمين، على رغم من هذا الحديث وغيره، وذلك مصداق قوله صلى الله عليه وسلم:
"لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه". متفق عليه، وهو مخرج في "ظلال الجنة"(72 - 75).
قلت: ومع ذلك فإننا لا نزال نسمع بعضهم يترنم بقول القائل مخاطباً النبي صلى الله عليه وسلم:
فإن من جودك الدنيا وضرتها
…
ومن علومك علم اللوح والقلم!
فهذا شرك في بعض صفاته تعالى، فإن الله عز وجل كما أنه واحد في ربوبيته وألوهيته، فكذلك هو واحد في صفاته، لا يشاركه في شيء منها أحد من مخلوقاته، مهما سمت منزلته، وعلت رتبته، فهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم سيد البشر يسمع جارية تقول في غنائها البريء:
وفينا نبي يعلم ما في غد.
فيقول لها صلى الله عليه وسلم: "دعي هذا وقولي الذي كنت تقولين". أخرجه البخاري وغيره.
فأين قول هذه الجارية مما يردده بعض المسلمين منذ مئات السنين:
ومن علومك علم اللوح والقلم!
فهو عندهم ليس يعلم فقط ما في غد، بل يعلم ما كان وما سيكون مما سطره القلم في اللوح المحفوظ! بل هو بعض علمه! ! سبحانك هذا بهتان عظيم وإثم مبين. ومن كان له اطلاع على كتب الصوفية والتي يسمونها بالحقائق (! )، وكتب الموالد، ونحوها، يرى من هذا القبيل العجب العجاب.
وقد يتوهم كثير من الناس الذين يريدون أن يحسنوا الظن بكل الناس أن هذه الأقوال التي تقال في مدحه صلى الله عليه وسلم لا يقصدون معانيها الظاهرة منها، وأن كثيرين منهم لا يخطر في بالهم ذلك. ونحن نتمنى أن يكون هذا صحيحاً، ولكن:"ما كل ما يتمنى المرء يدركه"
…
فقد سمعنا من أناس يظن فيهم العلم والصلاح ما يجعلنا مضطرين أن نسيء الظن بهم وبعقائدهم، وآخر ما وقع من ذلك أن شيخاً منهم (هلك قريباً) كان يدرس في مسجد بني أمية، فسر قوله تعالى في سورة الحديد [هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم]، قال هو محمد صلى الله عليه وسلم، فلما اعتُرض عليه، حاول أن يلطف الأمر بشيء من التأويل، مصراً على إرجاع الضمير إليه صلى الله عليه وسلم، فلما قيل له اقرأ الآية التي بعدها:[هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش]، فهل هو محمد؟ فبهت
…
ومن يعلم مذهب القائلين بوحدة الوجود، لا يستغرب صدور مثل هذه الكفريات منهم.
عبدُ الله ورسوله» (1).
2 -
عن أبي واقد الليثي:
(1) أخرجه البخاري (6/ 381 و 12/ 124)، والترمذي في "الشمائل"(2/ 161)، والدارمي (2/ 320)، والطيالسي (رقم 25)، وأحمد (رقم 154 و 164 و 331 و 391).
«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى حنين، مرَّ بشجرة للمشركين، يُقال لها: ذات أنواط، يعلقون عليها أسلحتهم، (ويعكفون حولها)؛ قالوا: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
3 -
عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«بُعثتُ بين يدي الساعة بالسيف، حتى يُعْبَدَ الله وحده لا شريك له، وجُعِل رزقي تحت ظل رمحي، وجُعِلَ الذلة والصَّغار على مَن خالف أمري، ومن تشبَّه
(1) أخرجه الترمذي (3/ 213) والسياق له، وأحمد (5/ 218)، والرواية الأخرى له مع الزيادات التي بين القوسين من طريق الزهري عن سنان بن أبي سنان عنه. " وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين ".
وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح". وقواه ابن القيم في "إغاثة اللهفان"(2/ 300)، وعزاه في مكان آخر (1/ 205) للبخاري في "صحيحة "، وهذا وهم منه رحمه الله، فليس هو في "الصحيح"، ولم يعزه النابلسي في "الذخائر"(10461) إلا الترمذي، وأورده ابن كثير في" تفسيره"(3/ 243) من طريق ابن جرير وأحمد فقط، وكأنه ذهل عن كونه في الترمذي أحد الستة، وإلا لما أبعد النجعة!
فقد أنكر صلى الله عليه وسلم عليهم ذلك القول لمشابهته لقول اليهود، مع ظهور الفرق بينهما لفظاً وقصداً، فهو دليل واضح على أن مشابهة الكفار منكرة شرعاً، ولو كانت النية صالحة، ومثل هذه القصة في الدلالة على ما ذكرنا قصة صلاتهم وراءه صلى الله عليه وسلم قياماً وهو قاعد، وأمره إياهم بالقعود، وقد تقدمت مع الكلام عليها، فراجعها.
بقوم فهو منهم» (1).
(1) أخرجه أحمد (رقم 5114 و 5115 و 5667)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه"(2/ 73)، وابن عساكر (19/ 96 / 1)؛ من طريق عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان: حدثنا حسان بن عطية عن أبي منيب الجرشي عنه.
وهذا إسناد حسن، وفي ابن ثابت كلام لا يضر، وقد علق البخاري في "صحيحه"(6/ 75) بعضه، وقال الحافظ في "شرحه": "هو طرف من حديث أخرجه أحمد من طريق أبي منيب
…
وله شاهد مرسل بإسناد حسن أخرجه ابن أبي شيبة من طريق الأوزاعي عن سعيد بن جبلة عن النبي صلى الله عليه وسلم بتمامه".
قلت: وأخرج القطعة الأخيرة منه أبو داود (2/ 173) من طريق ابن ثابت به، وقال ابن تيمية في "الاقتضاء" (ص 39):"وهذا إسناد جيد".
وقال الحافظ العراقي في "تخريج الإحياء"(1/ 342): "سنده صحيح"
وقال الحافظ في "الفتح"(10/ 222):
"سنده حسن"، وثبته الحافظ ابن حجر في "الفتح"(10/ 274). وذكر في "بلوغ المرام"(4/ 239 - بشرح الصنعاني) أن ابن حبان صححه، وقد وجدت لابن ثوبان متابعاً قوياً، فقال الطحاوي في "مشكل الآثار" (1/ 88): وحدثنا أبو أمية: حدثنا محمد بن وهب بن عطية: حدثنا الوليد بن مسلم: حدثنا الأوزاعي عن حسان بن عطية به.
وهذا إسناد صحيح، رجاله كلهم ثقات معروفون، لولا أن الوليد بن مسلم يدلس تدليس التسوية، ولم يصرح بسماع الأوزاعي من حسان. والله أعلم.
وأبو أمية اسمه محمد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي. ولهذا القطعة شاهد من حديث حذيفة، أخرجه الطبراني في"الأوسط"، وفيه علي بن غراب، وقد وثقه غير واحد، وضعفه بعضهم، وبقية رجاله ثقات؛ كما في "المجمع"(10/ 271). =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قال شيخ الإسلام:
"وهذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم كما في قول:[ومن يتولهم منكم فإنه منهم]، وهو نظير ما سنذكره عن عبدالله بن عمرو أنه قال:
"من بني بأرض المشركين، وصنع نيروزهم ومهرجانهم، وتشبه بهم حتى يموت؛ حشر معهم يوم القيامة".
فقد يحمل هذا على التشبه المطلق، فإنه يوجب الكفر، ويقتضي تحريم أبعاض ذلك، وقد يحمل على أنه منهم في القدر المشترك الذي شابههم فيه، فإن كان كفراً أو معصية أو شعاراً لها كان حكمه كذلك، وبكل حال يقتضي تحريم التشبه بعلة كونه تشبهاً.
والتشبه يعم من فعل الشيء، لأجل أنهم فعلوه وهو نادر، ومن تبع غيره في فعل لغرض له في ذلك، إذا كان أصل الفعل مأخوذاً عن ذلك الغير، فأما من فعل الشيء واتفق أن الغير فعله أيضاً، ولم يأخذه أحدهما عن صاحبه، ففي كون هذا تشبهاً نظر، لكن قد ينهى عن هذا لئلا يكون ذريعة إلى التشبه، ولما فيه من المخالفة، كما أمر بصبغ اللحى وإحفاء الشوارب، مع أن قوله صلى الله عليه وسلم:"غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود"؛ دليل على أن التشبه بهم يحصل بغير قصد منا ولا فعل. بل مجرد ترك تغيير ما خلق فينا، وهذا أبلغ من الموافقة الفعلية الاتفاقية، وقد روى في هذا الحديث عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن التشبه بالأعاجم، وقال:"من تشبه بقوم فهو منهم ". ذكره القاضي أبو يعلي؛ وبهذا احتج غير واحد من العلماء على كراهة أشياء من زي غير المسلمين". ثم ذكر بعض النقول في ذلك عن أحمد وغيره، فمنها:
"قال محمد بن أبي حرب: سئل أحمد عن نعل سندي يخرج فيه؟ فكرهه للرجل والمرأة، وقال: إن كان للكنيف والوضوء (قلت: يعني: فلا بأس)، وأكره الصرار، وقال: هو من زي الأعاجم". =
فثبت مما تقدم أن مخالفة الكفار وترك التشبه بهم من مقاصد الشريعة الإسلامية العليا، فالواجب على كل مسلم رجالاً ونساءً أن يراعوا ذلك في شؤونهم كلها، وبصورة خاصة في أزيائهم وألبستهم؛ لما علمت من النصوص الخاصة فيها، وبذلك يتحقق صحة الشرط السابع في زي المرأة. هذا؛ قد يظن بعض الناس أن هذه المخالفة إنما هي أمر تعبُّدي محض، وليس كذلك، بل هو معقول المعنى، واضح الحكمة، فقد تقرر عند العلماء المحققين أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين الظاهر والباطن، وأن للأول تأثيراً في الآخر؛ إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، وإن كان ذلك مما قد لا يشعر به الإنسان في نفسه، ولكن قد يراه في غيره.
= ثم عقد شيخ الإسلام فصلاً خاصاً في بيان إجماع المسلمين على ما أفادته الأحاديث والآيات المتقدمة من الأمر بمخالفة الكفار، والنهي عن التشبه بهم، وأورد فيه أقوال الصحابة في ذلك، وما ورد عن الأئمة الأربعة وغيرهم، وضمن ذلك فوائد عزيزة قلما يوفق لها غيره، فراجع (ص 58 - 67)، وقد قال في خاتمته:
"وبدون ما ذكرناه يعلم إجماع الأمة على كراهة التشبه بأهل الكتاب والأعاجم في الجملة، وإن كانوا قد يختلفون في بعض الفروع، وإما لاعتقاد بعضهم أنه ليس من هدي الكفار، أو لاعتقاده أن فيه دليلاً راجحاً، أو لغير ذلك، كما أنهم مجمعون على اتباع الكتاب والسنة، وإن كان قد يخالف بعضهم شيئاً من ذلك النوع تأويل ". وقال الصنعاني في: سبل السلام":
"والحديث دال على أن من تشبه بالفساق كان منهم أو الكفار أو المبتدعة في أي شيء مما يختصون به؛ من ملبوس أو مركوب أو هيئة، قالوا: فإذا تشبه بالكافر في زي واعتقد أن يكون بذلك مثله، كفر، فإن لم يعتقد ففيه خلاف بين الفقهاء، منهم من يقول: يكفر، وهو ظاهر الحديث، ومنهم من قال: لا يكفر، ولكن يؤدب ".
قال شيخ الإسلام رحمه الله (ص 105 - 106):
«وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة، حتى إن الرجلين إذا كان من بلد واحد، ثم اجتمعا في دار غربة؛ كان بينهما من المودة والائتلاف أمر عظيم، وإن كان في مصرهما لم يكونا متعارفَين، أو كانا متهاجرَيْن، وذلك لأن الاشتراك في البلد نوع وصف اختصا به عن بلد الغربة.
بل لو اجتمع رجلان في سفر أو بلد غريب، وكانت بينهما مشابهة في العمامة، أو الثياب، أو الشعر، أو المركوب، نحو ذلك؛ لكان بينهما من الائتلاف أكثر مما بين غيرهما.
وكذلك تجد أرباب الصناعات الدنيوية يألف بعضهم بعضاً ما لا يألفون غيرهم، حتى إن ذلك يكون مع المعاداة والمحاربة، إما على الملك، وإما على الدين، وتجد الملوك ونحوهم من الرؤساء - وإن تباعدت ديارهم وممالكهم - بينهم مناسبة توِرث مشابهةً ورعاية من بعضهم لبعض، وهذا كله موجب الطباع ومقتضاه، إلا أن يمنع من ذلك دين أو غرض خاص.
فإذا كانت المشابهة في أُمور دنيوية تورث المحبة والموالاة، فكيف بالمشابهة في أُمور دينية؟ ! فإن إفضاءها إلى نوع من الموالاة أكثر وأشد، والمحبة والموالاة لهم تنافي الإيمان
…
وقال سبحانه: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22]، فأخبر سبحانه وتعالى أنه لا يوجد مؤمن يوادُّ كافراً، فمن وادَّ الكفار فليس بمؤمن، والمشابهة الظاهرة مظنة الموادَّة، فتكون محرمة».
وقال في مكان آخر (ص 6 - 7):
«وهذا الأمور الباطنة والظاهرة بينهما ارتباط ومناسبة، فإن ما يقوم بالقلب من الشعور والحال يوجب أموراً ظاهرة، وما يقوم بالظاهر من سائر الأعمال يوجب للقلب شعوراً وأحوالاً، وقد بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بالحكمة التي هي سنته، وهي الشرعة والمنهاج الذي شرعه له، فكان من هذا الحكمة أن شرع له من الأعمال والأقوال ما يباين سبيل المغضوب عليهم والضالين، فأمر بمخالفتهم في الهدى الظاهر، وإن لم يظهر لكثير من الخلق في ذلك مفسدة؛ لأمور:
منها: أن المشاركة في الهدى الظاهر تورث تناسباً وتشاكلاً بين المتشابهين، يقود إلى موافقة ما في الأخلاق والأعمال، وهذا أمر محسوس، فإن اللابس ثياب أهل العلم يجد من نفسه نوع انضمام إليهم، واللابس ثياب الجند المقاتلة مثلاً يجد من نفسه نوع تخَلُّقٍ بأخلاقِهم، ويصير طبعه متقاضياً لذلك؛ إلا أن يمنعه مانع.
ومنها أن المخالفة في الهدى الظاهر توجب مباينة ومفارقة توجب الانقطاع عن موجبات الغضب، وأسباب الضلال، والانعطاف على أهل الهدى والرضوان، وتحقق ما قطع الله من الموالاة بين جنده المفلحين وأعدائه الخاسرين، وكلما كان القلب أتم حياة، وأعرف بالإسلام الذي هو الإسلام - لست أعني مجرد التوسم به ظاهراً أو باطناً بمجرد الاعتقادات من حيث الجملة - كان إحساسه بمفارقة اليهود والنصارى باطناً وظاهراً أتم، وبعده عن أخلاقهم الموجودة في بعض المسلمين أشد.
ومنها أن مشاركتهم في الهدى الظاهر توجب الاختلاط الظاهر، حتى يرتفع التمييز ظاهراً بين المَهديِّين المَرضِيِّين، وبين المغضوب عليهم والضالين
…
إلى غير ذلك من الأسباب الحكيمة.
هذا إذا لم يكن ذلك الهدي الظاهر إلا مباحاً محضاً لو تجرد عن مشابهتهم، فأما إن كان من موجبات كفرهم؛ كان شعبة من شعب الكفر، فموافقتهم فيه موافقة في نوع من أنواع معاصيهم، فهذا أصل ينبغي أن يتفطن له».
وكان قد قال في أول الكتاب (ص 7 - 8):
«وهنا نكتة
…
وهي أن الأمر بموافقة قوم أو بمخالفتهم قد يكون لأن نفس قصد موافقتهم أو نفس موافقتهم؛ مصلحة، وكذلك نفس قصد مخالفتهم أو نفس مخالفتهم؛ مصلحة، بمعنى أن ذلك الفعل يتضمن مصلحة للعبد أو مفسدة، وإن كان ذلك الفعل الذي حصلت به الموافقة أو المخالفة لو تجرد عن الموافقة والمخالفة لم يكن فيه تلك المصلحة أو المفسدة، ولهذا نحن ننتفع بنفس متابعتنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم والسابقين في أعمال، لولا أنهم فعلوها لربما قد كان لا يكون لنا مصلحة؛ لما يورث ذلك من محبتهم، وائتلاف قلوبنا بقلوبهم، وأن ذلك يدعونا إلى موافقتهم في أمور أخرى، إلى غير ذلك من الفوائد، كذلك قد نتضرر بموافقتنا الكافرين في أعمال لولا أنهم يفعلونها لم نتضرر بفعلها، وقد يكون الأمر بالموافقة والمخالفة؛ لأن ذلك الفعل الذي يوافق فيه أو يخالف متضمن للمصلحة أو المفسدة ولو لم يفعلوه؛ لكن عبر عنه بالموافقة والمخالفة على سبيل الدلالة والتعريف، فتكون موافقتهم دليلاً على المفسدة، ومخالفتهم دليلاً على المصلحة، واعتبار الموافقة والمخالفة على هذا التقدير من باب قياس الدلالة، وعلى الأول من باب قياس العلة، وقد يجتمع الأمران - أعني الحكمة الناشئة من نفس الفعل الذي وافقناهم أو خالفناهم فيه، ومن نفس مشاركتهم فيه - وهذا هو الغالب على الموافقة والمخالفة المأمور بهما والمنهي عنهما، فلا بد من التفطن لهذا المعنى، فإنه به يُعرف معنى نهي الله لنا عن اتباعهم، وموافقتهم
مطلقاً ومقيداً».
قلت: وهذا الارتباط بين الظاهر والباطن مما قرره صلى الله عليه وسلم في قوله الذي رواه النعمان بن بشير قال:
«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوي صفوفنا حتى كأنما يسوي بها القداح (1)، حتى رأى أنَّا قد عقلنا عنه، ثم خرج يوماً، فقال:
«عباد الله! لَتُسَوُّنَّ صفوفكم أو لَيُخالِفَنَّ الله بين وُجوهِكُم، وفي رواية: قلوبكم» (2).
فأشار إلى أن الاختلاف في الظاهر - ولو في تسوية الصف - مما يوصل إلى اختلاف القلوب، فدل على أن الظاهر له تأثير في الباطن، ولذلك رأيناه صلى الله عليه وسلم ينهي عن التفرق، حتى في جلوس الجماعة، ويحضرني الآن في ذلك حديثان:
1 -
عن جابر بن سمرة قال:
«خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرآنا حِلقاً (3)، فقال: مالي أراكم عِزين؟ ! (4)» (5).
(1) جمع (قدح)، وهو السهم قبل أن يراش ويُنصَّل.
(2)
أخرجه مسلم وأبو عوانة في "صحيحهما"، والرواية الأخرى لأبي داود بسند صحيح، انظر كتابنا "صحيح أبي داود "(رقم 668 - 669).
(3)
هو بكسر الحاء وفتحها لغتان، جمع حلقة بإسكان اللام، وحكى الجوهري وغيره فتحها في لغة ضعيفة.
(4)
أي: متفرقين جماعة، وهو بتخفيف الزاي، الواحدة: عزة. معناه النهي عن التفرق والأمر بالاجتماع. كذا في "شرح مسلم" للنووي.
(5)
أخرجه مسلم (2/ 31)، وأحمد (5/ 93)، والطبراني في "المعجم الكبير".