الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول
فِي أَسبَاب التَّكْلِيف والمجازاة
(بَاب الإبداع والخلق وَالتَّدْبِير)
اعْلَم أَن الله تَعَالَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِيجَاد الْعَالم ثَلَاث صِفَات مترتبة:
أَحدهَا: الإبداع وَهُوَ إِيجَاد شَيْء لَا من شَيْء فَيخرج الشَّيْء من كتم الْعَدَم بِغَيْر مَادَّة: وَسُئِلَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَن أول هَذَا الْأَمر؟ فَقَالَ: كَانَ الله وَلم يكن شَيْء قبله.
وَالثَّانيَِة: الْخلق وَهُوَ إِيجَاد الشَّيْء من شَيْء كَمَا خلق آدم من التُّرَاب:
{وَخلق الجان من مارج من نَار} .
وَقد دلّ الْعقل وَالنَّقْل على أَن الله تَعَالَى خلق الْعَالم أنواعا وأجناسا وَجعل لكل نوع وجنس خَواص، فنوع الْإِنْسَان مثلا خاصته النُّطْق، وَظُهُور الْبشرَة واستواء الْقَامَة، وَفهم الْخطاب، وَنَوع الْفرس خاصته الصهيل، وَكَون بَشرته شعراء، وقامته عوجاء، وَألا يفهم الْخطاب،
وخاصة السم إهلاك الْإِنْسَان الَّذِي يتَنَاوَلهُ، وخاصة الزنجبيل الْحَرَارَة واليبوسة، وخاصة الكافور الْبُرُودَة، وعَلى هَذَا الْقيَاس جَمِيع الْأَنْوَاع من الْمَعْدن والنبات وَالْحَيَوَان.
وَجَرت عَادَة الله تَعَالَى أَلا تنفك الْخَواص عَمَّا جعلت خَواص لَهَا، وَأَن تكون مشخصات الْأَفْرَاد خُصُوصا فِي تِلْكَ الْخَواص، وتعينا لبَعض محتملاتها، فَكَذَلِك مميزات الْأَنْوَاع خُصُوصا فِي خَواص أجناسها، وَأَن تكون مَعَاني هَذِه الْأَسَامِي المترتبة فِي الْعُمُوم وَالْخُصُوص، كالجسم والنامي وَالْحَيَوَان وَالْإِنْسَان وَهَذَا الشَّخْص متمازجة متشابكة فِي الظَّاهِر، ثمَّ يدْرك الْعقل الْفرق بَينهَا، ويضيف كل خَاصَّة إِلَى مَا هِيَ خَاصَّة لَهُ،
وَقد بَين النَّبِي صلى الله عليه وسلم خَواص كثير من الْأَشْيَاء، وأضاف الْآثَار إِلَيْهَا كَقَوْلِه صلى الله عليه وسلم:
" التلبينة مجمة لفؤاد الْمَرِيض ". وَقَوله فِي الْحبَّة السَّوْدَاء:
" شِفَاء من كل دَاء إِلَى السام " وَقَوله فِي أَبْوَال الْإِبِل وَأَلْبَانهَا:
" شِفَاء للذربة بطونهم " وَقَوله فِي الشبرم:
" حَار جَار ".
وَالثَّالِثَة تَدْبِير عَالم المواليد ومرجعه إِلَى تصيير حوادثها مُوَافقَة للنظام الَّذِي ترتضيه حكمته مفضية إِلَى الْمصلحَة الَّتِي اقتضاها وجوده كَمَا أنزل من السَّحَاب مَطَرا، وَأخرج بِهِ نَبَات الأَرْض ليَأْكُل مِنْهُ النَّاس والأنعام، فَيكون سَببا لحياتهم إِلَى أجل مَعْلُوم. وكما أَن إِبْرَاهِيم صلوَات الله عَلَيْهِ ألقِي فِي النَّار
فَجَعلهَا الله بردا وَسلَامًا؛ ليبقى حَيا، وكما أَن أَيُّوب عليه السلام كَانَ اجْتمع فِي بدنه مَادَّة الْمَرَض، فَأَنْشَأَ الله تَعَالَى عينا فِيهَا شِفَاء مَرضه. وكما أَن الله تَعَالَى نظر إِلَى أهل الأَرْض فمقتهم عربهم وعجمهم، فَأوحى إِلَى نبيه صلى الله عليه وسلم أَن ينذرهم ويجاهدم؛ ليخرج من شَاءَ من الظُّلُمَات إِلَى النُّور.
وتفصيل ذَلِك أَن القوى المودعة فِي المواليد الَّتِي لَا تنفك عَنْهَا لما تزاحمت وتصادمت أوجبت حِكْمَة الله حُدُوث أطوار مُخْتَلفَة بَعْضهَا جَوَاهِر وَبَعضهَا أَعْرَاض والأعراض إِمَّا أَفعَال أَو إرادات من ذَوَات الْأَنْفس أَو غَيرهَا، وَتلك الأطوار لَا شَرّ فِيهَا بِمَعْنى عدم صُدُور مَا يَقْتَضِيهِ سَببه أَو صُدُور ضد مَا يَقْتَضِيهِ، وَالشَّيْء الَّذِي اعْتبر بِسَبَبِهِ الْمُقْتَضى لوُجُوده كَانَ حسنا لَا محَالة كالقطع حسن من حَيْثُ أَنه يَقْتَضِيهِ جَوْهَر الْحَدِيد وَإِن كَانَ قبيحا من حَيْثُ فَوت بنية إِنْسَان، لَكِن فِيهَا شَرّ بِمَعْنى حُدُوث شَيْء غَيره أوفق بِالْمَصْلَحَةِ مِنْهُ بِاعْتِبَار الْآثَار أَو عدم حُدُوث شَيْء آثاره محمودة، وَإِذا تهيأت أَسبَاب هَذَا الشَّرّ اقْتَضَت رَحْمَة الله بعباده ولطفه بهم وَعُمُوم قدرته على الْكل وشمول علمه بِالْكُلِّ أَن يتَصَرَّف فِي تِلْكَ القوى والأمور الحاملة لَهَا بِالْقَبْضِ والبسط والإحالة والإلهام، حَتَّى تفضى تِلْكَ الْجُمْلَة إِلَى الْأَمر الْمَطْلُوب