المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(من أبواب الاعتصام بالكتاب والسنة) - حجة الله البالغة - جـ ١

[ولي الله الدهلوي]

فهرس الكتاب

- ‌(بَاب الإبداع والخلق وَالتَّدْبِير)

- ‌(بَاب ذكر عَالم الْمِثَال)

- ‌(بَاب ذكر الْمَلأ الْأَعْلَى)

- ‌(بَاب ذكر سنة الله الَّتِي أُشير إِلَيْهَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلنْ تَجِد لسنة الله تبديلا} )

- ‌(بَاب حَقِيقَة الرّوح)

- ‌(بَاب سر التَّكْلِيف)

- ‌(بَاب انْشِقَاق التَّكْلِيف من التَّقْدِير)

- ‌(بَاب اقْتِضَاء التَّكْلِيف المجازاة)

- ‌(بَاب اخْتِلَاف النَّاس فِي جبلتهم المستوجب لاخْتِلَاف أَخْلَاقهم وأعمالهم ومراتب كمالهم)

- ‌(بَاب فِي أَسبَاب الخواطر الباعثة على الْأَعْمَال)

- ‌(بَاب لصوق الْأَعْمَال بِالنَّفسِ وأحصائها عَلَيْهَا)

- ‌(بَاب ارتباط الْأَعْمَال بالهيئات النفسانية)

- ‌(بَاب أَسبَاب المجازاة)

- ‌(المبحث الثَّانِي)

- ‌(مَبْحَث كَيْفيَّة المجازاة فِي الْحَيَاة وَبعد الْمَمَات)

- ‌(بَاب الْجَزَاء على الْأَعْمَال فِي الدُّنْيَا)

- ‌(بَاب ذكر حَقِيقَة الْمَوْت)

- ‌(بَاب اخْتِلَاف أَحْوَال النَّاس فِي البرزخ)

- ‌(بَاب ذكر شَيْء من أسرار الوقائع الحشرية)

- ‌(المبحث الثَّالِث)

- ‌(مَبْحَث الارتفاقات)

- ‌(بَاب كَيْفيَّة استنباط الارتفاقات)

- ‌(بَاب الارتفاق الأول)

- ‌(بَاب فن أداب المعاش)

- ‌(بَاب تَدْبِير الْمنزل)

- ‌(بَاب فن الْمُعَامَلَات)

- ‌(بَاب سياسة الْمَدِينَة)

- ‌(بَاب سيرة الْمُلُوك)

- ‌(بَاب سياسة الأعوان)

- ‌(بَاب الارتفاق الرَّابِع)

- ‌(بَاب اتِّفَاق النَّاس على أصُول الارتفاقات)

- ‌(بَاب الرسوم السائرة فِي النَّاس)

- ‌(المبحث الرَّابِع)

- ‌(مَبْحَث السَّعَادَة)

- ‌(بَاب حَقِيقَة السَّعَادَة)

- ‌(بَاب اخْتِلَاف النَّاس فِي السَّعَادَة)

- ‌(بَاب توزع النَّاس فِي كَيْفيَّة تَحْصِيل هَذِه السَّعَادَة)

- ‌(بَاب الْأُصُول الَّتِي يرجع إِلَيْهَا تَحْصِيل الطَّرِيقَة الثَّانِيَة)

- ‌(بَاب طَرِيق اكْتِسَاب هَذِه الْخِصَال وتكميل ناقصها ورد فائتها)

- ‌(بَاب الْحجب الْمَانِعَة عَن ظُهُور الْفطْرَة)

- ‌(بَاب طَرِيق رفع هَذِه الْحجب)

- ‌(المبحث الْخَامِس)

- ‌(مَبْحَث الْبر وَالْإِثْم)

- ‌(مُقَدّمَة فِي بَيَان حَقِيقَة الْبر وَالْإِثْم)

- ‌(بَاب التَّوْحِيد)

- ‌(بَاب فِي حَقِيقَة الشّرك)

- ‌(بَاب أَقسَام الشّرك)

- ‌(بَاب الْإِيمَان بِصِفَات الله تَعَالَى)

- ‌(بَاب الْإِيمَان بِالْقدرِ)

- ‌(بَاب الْإِيمَان بِأَن الْعِبَادَة حق الله تَعَالَى على عباده لِأَنَّهُ منعم عَلَيْهِم مجَاز لَهُم بالارادة)

- ‌(بَاب تَعْظِيم شَعَائِر الله تَعَالَى)

- ‌(بَاب أسرار الْوضُوء وَالْغسْل)

- ‌(بَاب أسرار الصَّلَاة)

- ‌(بَاب أسرار الزَّكَاة)

- ‌(بَاب أسرار الصَّوْم)

- ‌(بَاب أسرار الْحَج)

- ‌(بَاب أسرار انواع من الْبر)

- ‌(بَاب طَبَقَات الاثم)

- ‌(بَاب مفاسد الآثام)

- ‌(بَاب فِي الْمعاصِي الَّتِي هِيَ فِيمَا بَينه وَبَين نَفسه)

- ‌(بَاب الآثام الَّتِي هِيَ فِيمَا بَينه وَبَين النَّاس)

- ‌(المبحث السَّادِس)

- ‌(مَبْحَث السياسات الملية)

- ‌(بَاب الْحَاجة إِلَى هداة السبل ومقيمى الْملَل)

- ‌(بَاب حَقِيقَة النُّبُوَّة وخواصها)

- ‌(بَاب بَيَان أَن أصل الدّين وَاحِد والشرائع والمناهج مُخْتَلفَة)

- ‌(بَاب أَسبَاب نزُول الشَّرَائِع الْخَاصَّة بعصر دون عصر وَقوم دون قوم)

- ‌(بَاب أَسبَاب الْمُؤَاخَذَة على المناهج)

- ‌(بَاب أسرار الحكم وَالْعلَّة)

- ‌(بَاب الْمصَالح الْمُقْتَضِيَة لتعيين الْفَرَائِض والأركان والآداب وَنَحْو ذَلِك)

- ‌(بَاب أسرار الْأَوْقَات)

- ‌(بَاب أسرار الْأَعْدَاد والمقادير)

- ‌(بَاب أسرار الْقَضَاء والرخصة)

- ‌(بَاب إِقَامَة الارتفاقات واصلاح الرسوم)

- ‌(بَاب الْأَحْكَام الَّتِي يجر بَعْضهَا لبَعض)

- ‌(بَاب ضبط الْمُبْهم وتميز الْمُشكل والتخريج من الْكُلية وَنَحْو ذَلِك)

- ‌(بَاب التَّيْسِير)

- ‌(بَاب أسرار التَّرْغِيب والترهيب)

- ‌(بَاب طَبَقَات الْأمة بِاعْتِبَار الْخُرُوج إِلَى الْكَمَال الْمَطْلُوب أَو ضِدّه)

- ‌(بَاب الْحَاجة إِلَى دين ينْسَخ الْأَدْيَان)

- ‌(بَاب احكام الدّين من التحريف)

- ‌(بَاب أَسبَاب اخْتِلَاف دين نَبينَا صلى الله عليه وسلم وَدين الْيَهُود والنصرانية)

- ‌(بَاب أَسبَاب النّسخ)

- ‌(بَاب بَيَان مَا كَانَ عَلَيْهِ حَال أهل الْجَاهِلِيَّة فاصلحه النَّبِي صلى الله عليه وسلم

- ‌(المبحث السَّابِع مَبْحَث استنباط الشَّرَائِع من حَدِيث النَّبِي صلى الله عليه وسلم

- ‌(بَاب بَيَان أَقسَام عُلُوم النَّبِي صلى الله عليه وسلم

- ‌(بَاب الْفرق بَين الْمصَالح والشرائع)

- ‌(بَاب كَيْفيَّة تلقي الْأمة الشَّرْع من النَّبِي صلى الله عليه وسلم

- ‌(بَاب طَبَقَات كتب الحَدِيث)

- ‌(بَاب كَيْفيَّة فهم المُرَاد من الْكَلَام)

- ‌(بَاب كَيْفيَّة فهم الْمعَانِي الشَّرْعِيَّة من الْكتاب وَالسّنة)

- ‌(بَاب الْقَضَاء فِي الْأَحَادِيث الْمُخْتَلفَة)

- ‌(تَتِمَّة)

- ‌(بَاب أَسبَاب اخْتِلَاف الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فِي الْفُرُوع)

- ‌(بَاب أَسبَاب اخْتِلَاف مَذَاهِب الْفُقَهَاء)

- ‌(بَاب الْفرق بَين أهل الحَدِيث وَأَصْحَاب الرَّأْي)

- ‌(بَاب حِكَايَة حَال النَّاس قبل الْمِائَة الرَّابِعَة وَبعدهَا)

- ‌(فصل)

- ‌(الْقسم الثَّانِي

- ‌(فِي بَيَان أسرار مَا جَاءَ عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم تَفْصِيلًا)

- ‌(من أَبْوَاب الْإِيمَان)

- ‌(من أَبْوَاب الِاعْتِصَام بِالْكتاب وَالسّنة)

- ‌(من أَبْوَاب الطَّهَارَة)

- ‌(فصل فِي الْوضُوء)

- ‌(صفة الْوضُوء)

- ‌(مُوجبَات الْوضُوء)

- ‌(الْمسْح على الْخُفَّيْنِ)

- ‌(صفة الْغسْل)

- ‌(مُوجبَات الْغسْل)

- ‌(مَا يُبَاح للْجنب والمحدث وَمَا لَا يُبَاح لَهما)

- ‌(التَّيَمُّم)

- ‌(آدَاب الْخَلَاء)

- ‌(خِصَال الْفطْرَة ومأ يتَّصل بهَا)

- ‌(أَحْكَام الْمِيَاه)

- ‌(تَطْهِير النَّجَاسَات)

- ‌(من أَبْوَاب الصَّلَاة)

- ‌(فضل الصَّلَاة)

- ‌(أَوْقَات الصَّلَاة)

- ‌(الْأَذَان)

- ‌(الْمَسَاجِد)

- ‌(ثِيَاب الْمُصَلِّي)

- ‌(الْقبْلَة)

الفصل: ‌(من أبواب الاعتصام بالكتاب والسنة)

(من أَبْوَاب الِاعْتِصَام بِالْكتاب وَالسّنة)

قد حذرنا النَّبِي صلى الله عليه وسلم مدَاخِل التحريف بأقسامها. وَغلظ النَّهْي عَنْهَا، وَأخذ العهود من أمته فِيهَا، فَمن أعظم أَسبَاب التهاون ترك الْأَخْذ بِالسنةِ، وَفِيه قَوْله صلى الله عليه وسلم: مَا من نَبِي بَعثه الله فِي أمته قبلي إِلَّا كَانَ لَهُ من أمته حواريون وَأَصْحَاب يَأْخُذُونَ بسنته، ويقتدون بأَمْره، ثمَّ إِنَّهَا تخْتَلف من بعدهمْ خلوف يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، ويفعلون مَا لَا يؤمرون، فَمن جاهدهم بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤمن، وَمن جاهدهم بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤمن، وَمن جاهدهم بِقَلْبِه فَهُوَ مُؤمن، وَلَيْسَ وَرَاء ذَلِك من الْإِيمَان حَبَّة خَرْدَل " وَقَوله صلى الله عليه وسلم:" لَا أَلفَيْنِ أحدكُم مُتكئا على أريكته يَأْتِيهِ الْأَمر من أَمْرِي مِمَّا أمرت بِهِ أَو نهيت عَنهُ، فَيَقُول: لَا أَدْرِي مَا وَجَدْنَاهُ فِي كتاب الله اتبعناه " وَرغب فِي الْأَخْذ بِالسنةِ جدا لَا سِيمَا عِنْد اخْتِلَاف النَّاس.

وَفِي التشدد قَوْله صلى الله عليه وسلم: " لَا تشددوا على أَنفسكُم، فيشدد الله عَلَيْكُم " ورده على عبد الله بن عَمْرو والرهط الَّذين تقالوا عبَادَة النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَأَرَادُوا شاق الطَّاعَات.

وَفِي التعمق قَوْله صلى الله عليه وسلم: " مَا بَال أَقوام يتنزهون عَن الشَّيْء أصنعه، فوَاللَّه إِنِّي لأعلمهم بِاللَّه وأشدهم خشيَة لَهُ " وَقَوله صلى الله عليه وسلم

: " مَا ضل قوم بعد هدى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الجدل " وَقَوله صلى الله عليه وسلم: " أَنْتُم أعلم بِأُمُور دنياكم ".

وَفِي الْخَلْط قَوْله صلى الله عليه وسلم لمن أَرَادَ الْخَوْض فِي علم الْيَهُود " أمتهوكون أَنْتُم كَمَا تهوكت الْيَهُود والنصار؟ لقد جِئتُكُمْ بهَا بَيْضَاء نقية وَلَو كَانَ مُوسَى حَيا لما وَسعه إِلَّا اتباعي "، وَجعله صلى الله عليه وسلم من أبْغض النَّاس من هُوَ مبتغ فِي الْإِسْلَام سنة الْجَاهِلِيَّة.

وَفِي الِاسْتِحْسَان قَوْله صلى الله عليه وسلم: " من أحدث فِي أمرنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رد " وَضرب الْمَلَائِكَة لَهُ صلى الله عليه وسلم مثل رجل بنى دَارا، وَجعل فِيهَا مأدبة، وَبعث دَاعيا أَقُول هَذَا إِشَارَة إِلَى تَكْلِيف النَّاس بِهِ وَجعله كالأمر المحسوس إكمالا للتعليم.

ص: 288

قَوْله صلى الله عليه وسلم: " مثلي كَمثل رجل استوقد نَارا، الحَدِيث وَقَوله صلى الله عليه وسلم: " إِنَّمَا مثلي وَمثل مَا بَعَثَنِي الله بِهِ كَمثل رجل أَتَى قوما فَقَالَ يَا قوم إِنِّي رَأَيْت الْجَيْش بعيني " الحَدِيث

دَلِيل ظَاهر على أَن هُنَالك أعمالا تستوجب فِي أَنْفسهَا عذَابا قبل الْبعْثَة، وَقَوله صلى الله عليه وسلم: " مثل مَا بَعَثَنِي الله بِهِ من الْهدى وَالْعلم كَمثل الْغَيْث الْكثير أصَاب أَرضًا الحَدِيث فِيهِ بَيَان قبُول أهل الْعلم هدايته صلى الله عليه وسلم بِأحد وَجْهَيْن، الرِّوَايَة صَرِيحًا، وَالرِّوَايَة دلَالَة بِأَن استنبطوا، وأخبروا بالمستنبطات، أَو عمِلُوا بِالشَّرْعِ، فاهتدى النَّاس بهديهم، وَعدم قبُول أهل الْجَهْل رَأْسا.

قَوْله صلى الله عليه وسلم فِي الموعظة البليغة: " فَعَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين المهديين ".

أَقُول انتظام الدّين يتَوَقَّف على اتِّبَاع سنَن النَّبِي، وانتظام السياسة الْكُبْرَى يتَوَقَّف على الانقياد للخلفاء فِيمَا يأمرونهم بِالِاجْتِهَادِ فِي بَاب الارتفاقات وَإِقَامَة الْجِهَاد، وأمثال ذَلِك مَا لم يكن إبداعا لشريعة أَو مُخَالفا لنَصّ.

" خطّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَهُم خطا ثمَّ قَالَ: هَذَا سَبِيل الله، ثمَّ خطّ خُطُوطًا عَن يَمِينه وَعَن شِمَاله وَقَالَ: هَذِه سبل، على كل سَبِيل مِنْهَا شَيْطَان يَدْعُو إِلَيْهِ وَقَرَأَ. {وَأَن هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبعُوهُ وَلَا تتبعوا السبل فَتفرق بكم عَن سَبيله} .

أَقُول الْفرْقَة النَّاجِية هم الآخذون فِي العقيدة وَالْعَمَل جَمِيعًا بِمَا ظهر من الْكتاب وَالسّنة، وَجرى عَلَيْهِ جُمْهُور الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَإِن اخْتلفُوا فِيمَا

بَينهم فِيمَا لم يشْتَهر فِيهِ نَص، وَلَا ظهر من الصَّحَابَة اتِّفَاق عَلَيْهِ اسْتِدْلَالا مِنْهُم بِبَعْض مَا هُنَالك أَو تَفْسِيرا لمجمله.

وَغير النَّاجِية كل فرقة انتحلت عقيدة خلاف عقيدة السّلف أَو عملا دون أَعْمَالهم.

قَوْله صلى الله عليه وسلم: " لَا تَجْتَمِع هَذِه الْأمة على الضَّلَالَة " وَقَوله صلى الله عليه وسلم: " يبْعَث الله لهَذِهِ الْأمة على راس كل أمة سنة من يجدد لَهَا دينهَا " وَتَفْسِيره فِي حَدِيث آخر: يحمل هَذَا الْعلم من كل خلف عَدو لَهُ ينفون عَنهُ تَحْرِيف الغالين وانتحال المبطلين وَتَأْويل الْجَاهِلين ".

اعْلَم أَن النَّاس لما اخْتلفُوا فِي الدّين، وأفسدوا فِي الأَرْض قرع ذَلِك بَاب جود الْحق

ص: 289

فَبعث مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وَأَرَادَ بذلك إِقَامَة الْملَّة العوجاء، ثمَّ لما توفّي النَّبِي صلى الله عليه وسلم صَارَت تِلْكَ الْعِنَايَة بِعَينهَا متوجهة إِلَى حفظ علمه ورشده فِيمَا بَينهم، فأورثت فيهم إلهامات وتقريبات، فَفِي حَظِيرَة الْقُدس دَاعِيَة لإِقَامَة الْهِدَايَة فيهم مَا لم تقم السَّاعَة، فَوَجَبَ لذَلِك أَن يكون فيهم لَا محَالة أمة قَائِمَة بِأَمْر الله، وَأَن لَا يجتمعوا على الضَّلَالَة بأسرهم، وَأَن يحفظ الْقُرْآن فيهم، وَأوجب اخْتِلَاف استعدادهم أَن يلْحق بِمَا عِنْدهم مَعَ ذَلِك شَيْء من التَّغَيُّر، فانتظرت الْعِنَايَة لناس مستعدين قضى لَهُم بالتنويه، فأورث فِي قُلُوبهم الرَّغْبَة فِي الْعلم، وَنفى تَحْرِيف الغالين وَهُوَ إِشَارَة إِلَى التشدد والتعمق، وانتحال المبطلين وَهُوَ إِشَارَة إِلَى الِاسْتِحْسَان وخلط مِلَّة بِملَّة، وَتَأْويل الْجَاهِلين وَهُوَ إِشَارَة إِلَى التهاون، وَترك الْمَأْمُور بِهِ بِتَأْوِيل ضَعِيف

قَوْله صلى الله عليه وسلم: " من يرد الله بِهِ خير يفقهه فِي الدّين " وَقَوله صلى الله عليه وسلم: " أَن الْعلمَاء وَرَثَة الْأَنْبِيَاء " وَقَوله صلى الله عليه وسلم: " فضل الْعَالم على العابد كفضلي على أدناكم " وأمثال ذَلِك، اعْلَم أَن الْعِنَايَة الإلهية إِذا حلت بشخص، وصيره الله مَظَنَّة لتدبير إلهي لَا بُد أَن يصير مرحوما وَأَن تُؤمر الْمَلَائِكَة بمحبته وتعظيمه لحَدِيث محبَّة جِبْرَائِيل

وَوضع الْقبُول فِي الأَرْض، وَلما انْتقل النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَنزلت الْعِنَايَة الْخَاصَّة بِهِ بِحَسب حفظ مِلَّته إِلَى حَملَة الْعلم وَرُوَاته ومشيعيه، فانتج فيهم فَوَائِد لَا تحصى

قَوْله صلى الله عليه وسلم: " نضر الله عبدا سمع مَقَالَتي فحفظها ووعاها وأداها كَمَا سَمعهَا " أَقُول: سَبَب هَذَا الْفضل أَنه مَظَنَّة لحمل الْهِدَايَة النَّبَوِيَّة إِلَى الْخلق.

قَوْله صلى الله عليه وسلم: " من كذب عَليّ مُتَعَمدا، فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار " قَوْله صلى الله عليه وسلم: " يكون فِي آخر الزَّمَان دجالون كذابون ".

أَقُول لما كَانَ طَرِيق بُلُوغ الدّين إِلَى الْأَعْصَار الْمُتَأَخِّرَة إِنَّمَا هِيَ الرِّوَايَة، وَإِذا دخل الْفساد من وَجهه الرِّوَايَة لم يكن لَهُ علاج الْبَتَّةَ كَانَ الْكَذِب على النَّبِي صلى الله عليه وسلم كَبِيرَة، وَوَجَب الِاحْتِيَاط فِي الرِّوَايَة لِئَلَّا يرْوى كذبا.

قَوْله صلى الله عليه وسلم: " حدثوا عَن بني إِسْرَائِيل وَلَا حرج " وَقَوله صلى الله عليه وسلم " لَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تكذبوهم " أَقُول: الرِّوَايَة عَن أهل الْكتاب تجوز فِيمَا سَبيله سَبِيل الِاعْتِبَار، وَحَيْثُ يكون الآمن عَن الِاخْتِلَاط فِي شرائع الدّين، وَلَا تجوز فِيمَا سوى ذَلِك،، وَمِمَّا يَنْبَغِي أَن يعلم أَن غَالب الْإسْرَائِيلِيات المدسوسة فِي كتب التَّفْسِير، وَالْأَخْبَار منقولة عَن أَخْبَار أهل الْكتاب لَا يَنْبَغِي أَن يبْنى عَلَيْهَا حكم واعتقاد فَتدبر.

قَوْله صلى الله عليه وسلم: " من تعلم علما مِمَّا يَنْبَغِي بِهِ وَجه الله لَا يتعلمه إِلَّا ليصيب بِهِ عرضا من الدُّنْيَا لم يحد عرف الْجنَّة يَوْم الْقِيَامَة " يَعْنِي رِيحهَا

ص: 290

أَقُول يحرم طلب الْعلم الديني لأجل الدُّنْيَا وَيحرم تَعْلِيم من يرى فِيهِ الْغَرَض الْفَاسِد لوجوه: مِنْهَا أَن مثله لَا يَخْلُو غَالِبا من تَحْرِيف الدّين لأغراض الدُّنْيَا بِتَأْوِيل ضَعِيف، فَوَجَبَ سد الذريعة وَمِنْهَا ترك حُرْمَة الْقُرْآن وَالسّنَن وَعدم الاكتراث بهَا.

قَوْله صلى الله عليه وسلم: " من سُئِلَ عَن علم علمه، ثمَّ كتمه، ألْجم يَوْم الْقِيَامَة بلجام من نَار " أَقُول يحرم كتم الْعلم عِنْد الْحَاجة إِلَيْهِ لِأَنَّهُ أصل التهاون وَسبب نِسْيَان الشَّرَائِع، وأجزية الْمعَاد تبنى على المناسبات فَلَمَّا كَانَ الْإِثْم كف لِسَانه عَن النُّطْق جوزي بشبح الْكَفّ وَهُوَ اللجام من نَار.

قَوْله صلى الله عليه وسلم: " الْعلم ثَلَاثَة آيَة محكمَة، أَو سنة قَائِمَة، أَو فَرِيضَة عادلة، وَمَا كَانَ سوى ذَلِك فَهُوَ فضل " أَقُول هَذَا ضبط وتحديد لما يجب عَلَيْهِم بالكفاية، فَيجب معرفَة الْقُرْآن لفظا، وَمَعْرِفَة محكمَة بالبحث عَن شرح غَرِيبه وَأَسْبَاب نُزُوله وتوجيه معضله وناسخه ومنسوخه أما المتشابهة فحكمة التَّوَقُّف أَو الإرجاع إِلَى الْمُحكم وَالسّنة الْقَائِمَة مَا ثَبت فِي الْعِبَادَات والارتفاقات من الشَّرَائِع وَالسّنَن مِمَّا يشْتَمل عَلَيْهِ علم الْفِقْه، والقائمة مَا لم ينْسَخ، وَلم يهجر، وَلم يشذ رَاوِيه، وَجرى عَلَيْهِ جُمْهُور الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ. أَعْلَاهَا مَا اتّفق فُقَهَاء الْمَدِينَة والكوفة عَلَيْهِ، وآيته أَن يتَّفق على ذَلِك الْمذَاهب الْأَرْبَعَة، ثمَّ مَا كَانَ فِيهِ قَولَانِ لجمهور الصَّحَابَة أَو ثَلَاثَة، ذَلِك كل قد عمل بِهِ طَائِفَة من أهل الْعلم، وَآيَة ذَلِك أَن تظهر فِي مثل الْمُوَطَّأ وجامع عبد الرَّزَّاق ورواياتهم وَمَا سوى ذَلِك فَإِنَّمَا هُوَ استنباط بعض الْفُقَهَاء دون بعض تَفْسِيرا وتخريجا واستدلالا واستنباطا، وَلَيْسَ من الْقَائِمَة وَالْفَرِيضَة العادلة الْأَنْصِبَاء للْوَرَثَة، وَيلْحق بِهِ أَبْوَاب الْقَضَاء مِمَّا سَبيله قطع الْمُنَازعَة بَين الْمُسلمين بِالْعَدْلِ فَهَذِهِ الثَّلَاثَة يحرم خلو الْبَلَد عَن غالبها لتوقف الدّين عَلَيْهِ، وَمَا سوى ذَلِك من بَاب الْفضل وَالزِّيَادَة.

وَنهى صلى الله عليه وسلم عَن الأغلوطات، وَهِي الْمسَائِل الَّتِي يَقع الْمَسْئُول عَنْهَا فِي الْغَلَط ويمتحن بهَا أذهان النَّاس، وَإِنَّمَا نهى عَنْهَا لوجوه.

مِنْهَا أَن فِيهَا إِيذَاء وإذلالا للمسئول عَنهُ وعجبا وبطرا لنَفسِهِ

وَمِنْهَا أَنَّهَا تفتح بَاب التعمق وَإِنَّمَا الصَّوَاب مَا كَانَ عِنْد الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ أَن يُوقف

ص: 291

على ظَاهر السّنة، وَمَا هُوَ بِمَنْزِلَة الظَّاهِر من الْإِيمَاء والاقتضاء والفحوى، وَألا يمعن جدا أَلا يقتحم فِي الِاجْتِهَاد حَتَّى يضْطَر إِلَيْهِ، وَتَقَع الْحَادِثَة فَإِن الله يفتح عِنْد ذَلِك الْعلم عناية مِنْهُ بِالنَّاسِ، وَأما تهيئته من قبل فمظنة الغلظ.

قَوْله صلى الله عليه وسلم: " من قَالَ فِي الْقُرْآن بِرَأْيهِ، فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده فِي النَّار " - أَقُول: يحرم الْخَوْض فِي التَّفْسِير لمن لَا يعرف اللِّسَان الَّذِي نزل الْقُرْآن بِهِ والمأثور عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابه وَالتَّابِعِينَ من شرح غَرِيب وَسبب نزُول وناسخ ومنسوخ.

قَوْله صلى الله عليه وسلم: " المراء فِي الْقُرْآن كفر " أَقُول: يحرم الْجِدَال فِي الْقُرْآن وَهُوَ أَن يرد الحكم الْمَنْصُوص بِشُبْهَة يجدهَا فِي نَفسه:

قَوْله صلى الله عليه وسلم: " إِنَّمَا هلك من كَانَ قبلكُمْ بِهَذَا ضربوا كتاب الله بعضه بِبَعْض " أَقُول: يحرم التدارؤ بِالْقُرْآنِ، وَهُوَ أَن يسْتَدلّ وَاحِد بِآيَة، فَيردهُ آخر بِآيَة أُخْرَى طلبا لإِثْبَات مَذْهَب نَفسه، وَهدم وضع صَاحبه، أَو ذَهَابًا إِلَى نصْرَة مَذْهَب بعض الْأَئِمَّة على مَذْهَب بعض، وَلَا يكون جَامع الهمة على ظُهُور الصَّوَاب والتدارؤ بِالسنةِ مثل ذَلِك.

قَوْله صلى الله عليه وسلم: " لكل آيَة مِنْهَا ظهر وبطن وَلكُل حد مطلع " أَقُول أَكثر مَا فِي الْقُرْآن بَيَان صِفَات الله تَعَالَى وآياته، وَالْأَحْكَام والقصص والاحتجاج على الْكفَّار وَالْمَوْعِظَة بِالْجنَّةِ وَالنَّار - فالظهر - الْإِحَاطَة بِنَفس مَا سيق الْكَلَام لَهُ والبطن فِي آيَات الصفاء التفكر فِي آلَاء الله والمراقبة، وَفِي آيَات الْأَحْكَام الاستنباط بِالْإِيمَاءِ وَالْإِشَارَة والفحوى والاقتضاء كاستنباط عَليّ رضي الله عنه من قَوْله تَعَالَى:

{وَحمله وفصاله ثَلَاثُونَ شهرا} .

إِن هَذِه مُدَّة الْحمل قد تكون سِتَّة أشهر لقَوْله:

{حَوْلَيْنِ كَامِلين}

وَفِي الْقَصَص معرفَة منَاط الثَّوَاب والمدح أَو الْعَذَاب أَو الذَّم، وَفِي العظة رقة الْقلب وَظُهُور الْخَوْف والرجاء وأمثال ذَلِك ومطلع كل حد الاستعداد الَّذِي بِهِ يحصل كمعرفة اللِّسَان والْآثَار وكلطف الذِّهْن واستقامة الْفَهم.

ص: 292

قَوْله تَعَالَى:

{مِنْهُ آيَات محكمات هن أم الْكتاب وَأخر متشابهات}

أَقُول الظَّاهِر أَن الْمُحكم مَا لم يحْتَمل إِلَّا وَجها وَاحِدًا مثل:

{حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم وبناتكم وأخواتكم}

والمتشابه مَا احْتمل وُجُوهًا، وَإِنَّمَا المُرَاد بَعْضهَا كَقَوْلِه تَعَالَى:

{لَيْسَ على الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات جنَاح فِيمَا طعموا}

حملهَا الزائغون على إِبَاحَة الْخمر مَا لم يكن بغي أَو إِفْسَاد فِي الأَرْض، وَالصَّحِيح حملهَا على شاربيها قبل التَّحْرِيم.

قَوْله صلى الله عليه وسلم " إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ " أَقُول: النِّيَّة الْقَصْد والعزيمة، وَالْمرَاد هَهُنَا الْعلَّة الغائبة الَّتِي يتصورها الْإِنْسَان فيبعثه على الْعَمَل مثل طلب ثَوَاب من الله أَو طلب رضَا الله، وَالْمعْنَى لَيْسَ للأعمال أثر فِي تَهْذِيب النَّفس وَإِصْلَاح عوجها إِلَّا إِذا كَانَت صادرة من تصور مقصد مِمَّا يرجع إِلَى التَّهْذِيب دون الْعَادة وموافقة النَّاس أَو الرِّيَاء والسمعة أَو قَضَاء

جبلة، كالقتال من الشجاع الَّذِي لَا يَسْتَطِيع الصَّبْر عَن الْقِتَال، فلولا مجاهدة الْكفَّار لصرف هَذَا الْخلق فِي قتال الْمُسلمين، وَهُوَ مَا سُئِلَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم " الرجل وَيُقَاتل رِيَاء يُقَاتل شجاعة فأيها فِي سَبِيل الله؟ فَقَالَ: من قَاتل لتَكون كلمة الله هِيَ الْعليا فَهُوَ فِي سَبِيل الله " وَالْفِقْه فِي ذَلِك أَن عَزِيمَة الْقلب روح الْأَعْمَال أشباح لَهَا.

قَوْله صلى الله عليه وسلم: " الْحَلَال بَين، وَالْحرَام بَين، وَبَينهمَا مُشْتَبهَات، فَمن اتَّقى الشُّبُهَات فقد اسْتَبْرَأَ لدينِهِ وَعرضه " أَقُول قد تتعارض الْوُجُوه فِي الْمَسْأَلَة، فَتكون السّنة حِينَئِذٍ الِاسْتِبْرَاء وَالِاحْتِيَاط، فَمن التَّعَارُض أَن تخْتَلف الرِّوَايَة تَصْرِيحًا كمس الذّكر، هَل ينْقض الْوضُوء، أثْبته الْبَعْض، ونفاه الْآخرُونَ، وَلكُل وَاحِد حَدِيث يشْهد لَهُ، كَالنِّكَاحِ للْمحرمِ سوغه طَائِفَة، ونفاه آخَرُونَ، وَاخْتلفت الرِّوَايَة.

وَمِنْه أَن يكون اللَّفْظ الْمُسْتَعْمل فِي هَذَا الْبَاب غير منضبط الْمَعْنى يكون مَعْلُوما بِالْقِسْمَةِ والمثال، وَلَا يكون مَعْلُوما بِالْحَدِّ الْجَامِع الْمَانِع، فَيخرج ثَلَاث مواد، مَادَّة يُطلق عَلَيْهِ اللَّفْظ يَقِينا، ومادة لَا يُطلق عَلَيْهَا يَقِينا، ومادة لَا يدْرِي هَل يَصح الْإِطْلَاق عَلَيْهَا أم لَا.

وَمِنْه أَن يكون الحكم مَنُوطًا يَقِينا بعلة هِيَ مَظَنَّة لمقصد يَقِينا، وَيكون نوع لَا يُوجد فِيهِ الْمَقْصد، وَيُوجد فِيهِ الْعلَّة كالأمة الْمُشْتَرَاة مِمَّن لَا يُجَامع مثله، هَل يجب استبراؤها؟ فَهَذِهِ وأمثالها يتَأَكَّد الِاحْتِيَاط فِيهَا.

ص: 293