الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالْحَالة المركبة مِنْهَا تسمى بالفطرة، وللفطرة أَسبَاب تحصل بهَا، بَعْضهَا علمية، وَبَعضهَا عملية، وحجب تصد الْإِنْسَان عَنْهَا، وحيل تكسر الْحجب، وَنحن نُرِيد أَن ننبهك على هَذِه الْأُمُور، فاستمع لما يُتْلَى عَلَيْك بِتَوْفِيق الله تَعَالَى وَالله أعلم.
(بَاب طَرِيق اكْتِسَاب هَذِه الْخِصَال وتكميل ناقصها ورد فائتها)
اعْلَم أَن اكْتِسَاب هَذِه الْخِصَال يكون بتدبيرين: تَدْبِير علمي، وتدبير عَمَلي.
أما التَّدْبِير العلمي، فَإِنَّمَا احْتِيجَ لَهُ لِأَن الطبيعة منقادة للقوى العلمية، وَلذَلِك ترى سُقُوط الشَّهْوَة والشبق عِنْد خطور مَا يُورث فِي النَّفس كَيْفيَّة الْحيَاء أَو الْخَوْف، فَمَتَى امْتَلَأَ علمه بِمَا يُنَاسب الْفطْرَة جر ذَلِك إِلَى تحققها فِي النَّفس، وَلذَلِك أَن يعْتَقد أَن لَهُ رَبًّا منزها عَن الأدناس البشرية، لَا يعزب عَنهُ مِثْقَال ذرة فِي الأَرْض وَلَا فِي السَّمَاء، مَا يكون من نجوى ثَلَاثَة إِلَّا هُوَ رابعهم وَلَا خَمْسَة إِلَّا هُوَ سادسهم، يفعل مَا يَشَاء، وَيحكم مَا يُرِيد لاراد لقضائه، وَلَا مَانع لحكمه، منعم بِأَصْل الْوُجُود وتوابعه من النعم الجسمانية
والنفسانية، مجَاز على أَعماله، إِن خيرا فَخير، وَإِن شرا فشر، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:" أذْنب عَبدِي ذَنبا، فَعلم أَن لَهُ رَبًّا يغْفر الذَّنب، وَيَأْخُذ بالذنب، قد غفرت لعبدي ".
وَبِالْجُمْلَةِ فيعتقد اعتقادا مؤكدا مَا يُفِيد الهيبة وَغَايَة التَّعْظِيم، وَمَا لَا يبْقى وَلَا يذر فِي قلبه جنَاح بعوضة من إخبات غَيره ورهبته، ويعتقد أَن كَمَال الْإِنْسَان أَن يتَوَجَّه إِلَى ربه، ويعبده، وَأَن أحسن حالات الْبشر أَن يتشبه بِالْمَلَائِكَةِ، وَيَدْنُو مِنْهُم، وَأَن هَذِه الْأُمُور مقربة لَهُ من ربه، وَأَن الله تَعَالَى ارتضى مِنْهُم ذَلِك، وَأَنه حق الله عَلَيْهِ لَا بُد لَهُ توفيقه.
وَبِالْجُمْلَةِ فَيعلم علما لَا يحْتَمل النقيض أَن سعادته فِي اكْتِسَاب هَذِه، وَأَن شقاوته فِي إهمالها، وَلَا بُد لَهُ من سَوط يُنَبه البهيمية تَنْبِيها قَوِيا، ويزعجها إزعاجا شَدِيدا، وَاخْتلف مسالك الْأَنْبِيَاء فِي ذَلِك فَكَانَ عُمْدَة مَا أنزل الله تَعَالَى على إِبْرَاهِيم عليه السلام التَّذْكِير بآيَات الله الباهرة وَصِفَاته الْعليا ونعمه الآفاقية والنفسانية، حَتَّى يصحح بِمَا لَا مزِيد عَلَيْهِ أَنه حقيق أَن يبذلوا لَهُ الملاذ، وَأَن يؤثروا ذكره على مَا سواهُ، وَأَن يحبوه حبا شَدِيدا، ويعبدوه بأقصى مجهودهم، وَضم الله مَعَه لمُوسَى عليه السلام التَّذْكِير بأيام الله، وَهُوَ بَيَان مجازاة الله تَعَالَى للمطيعين والعصاة فِي الدُّنْيَا، وتقليبه النعم والنقم حَتَّى يتَمَثَّل فِي صُدُورهمْ الْخَوْف من الْمعاصِي، ورغبة قَوِيَّة فِي الطَّاعَات، وَضم مَعَهُمَا ل نَبينَا صلى الله عليه وسلم الْإِنْذَار والتبشير بحوادث الْقَبْر، وَمَا بعده، وَبَيَان خَواص الْبر والاثم،
وَلَا يُفِيد أصل الْعلم بِهَذِهِ الْأُمُور، بل لَا بُد من تكرارها وتردادها وملاحظتها كل حِين، وَجعلهَا بَين عَيْنَيْهِ حَتَّى تمتلئ القوى العلمية بهَا، فتنقاد الْجَوَارِح لَهَا، وَهَذِه الثَّلَاثَة مَعَ اثْنَيْنِ آخَرين أَحدهمَا بَيَان الْأَحْكَام من الْوَاجِب وَالْحرَام وَغَيرهمَا، وَثَانِيهمَا مخاصمة الْكفَّار - فنون خَمْسَة هِيَ عُمْدَة عُلُوم الْقُرْآن الْعَظِيم.
أما التَّدْبِير العملي، فالعمدة فِيهِ التَّلَبُّس بهيآت وأفعال وَأَشْيَاء تذكر النَّفس الْخصْلَة الْمَطْلُوبَة، وتنبهها لَهَا، وتهيجها إِلَيْهَا، وتحثها عَلَيْهَا إِمَّا لتلازم عَادَة بَينهَا وَبَين الْخصْلَة، أَو لكَونهَا مَظَنَّة لَهَا بِحكم الْمُنَاسبَة الجبلية، فَكَمَا أَن الْإِنْسَان إِذا أَرَادَ أَن يُنَبه نَفسه للغضب، ويحضره بَين عَيْنَيْهِ يتخيل الشتم الَّذِي تفوه بِهِ المغضوب عَلَيْهِ، وَالَّذِي يلْحقهُ من الْعَار وَنَحْو ذَلِك، والنائحة إِذا أَرَادَت أَن تجدّد عهدها بالفجع تذكر نَفسهَا محَاسِن الْمَيِّت، وتتخيلها، وتبعث من خواطرها الْخَيل وَالرجل إِلَيْهَا، وَالَّذِي يُرِيد الْجِمَاع، يتَمَسَّك بداوعيه، ونظائر هَذَا الْبَاب كَثِيرَة جدا لَا تعصى على من يُرِيد الْإِحَاطَة بجوانب الْكَلَام، فَكَذَلِك لكل وَاحِدَة من هَذِه الْخِصَال أَسبَاب تكتسب بهَا، والاعتماد فِي معرفَة تِلْكَ الْأُمُور على ذوق أهل الأذواق السليمة، فأسباب الْحَدث امتلاء الْقلب بِحَالَة سفلية، كقضاء الشَّهْوَة من النِّسَاء جماعا ومباشرة، وإضماره مُخَالفَة الْحق وإحاطة لَهُنَّ الْمَلأ الْأَعْلَى بِهِ، وَكَونه حاقبا حاقنا، وَقرب الْعَهْد بالبول وَالْغَائِط وَالرِّيح، وَهَذِه الثَّلَاثَة فضول الْمعدة، وتوسخ الْبدن والبخر واجتماع المخاط ونبات الشّعْر على الْعَانَة والابط وتلطخ الثَّوْب وَالْبدن بالنجاسات المستقذرة، وامتلاء الْحَواس بِصُورَة تذكر الْحَالة السفلية كالقاذورات وَالنَّظَر إِلَى الْفرج ومسافدة الْحَيَوَانَات وَالنَّظَر الممعن فِي الْجِمَاع والطعن فِي الْمَلَائِكَة وَالصَّالِحِينَ وَالسَّعْي فِي إِيذَاء النَّاس، وَأَسْبَاب الطَّهَارَة إِزَالَة هَذِه الْأَشْيَاء واكتساب أضدادها وَاسْتِعْمَال مَا تقرر فِي الْعَادَات كَونه نظافة بالغه كالغسل وَالْوُضُوء وَلبس أحسن الثِّيَاب وَاسْتِعْمَال الطّيب، فَإِن اسْتِعْمَال هَذِه الْأَشْيَاء تنبه النَّفس على صفة الطَّهَارَة، وَأَسْبَاب الإخبات مُؤَاخذَة نَفسه بِمَا هُوَ أَعلَى حالات التَّعْظِيم عِنْده من الْقيام