الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(أَحْكَام الْمِيَاه)
قَوْله صلى الله عليه وسلم: " لَا يبولن أحدكُم فِي المَاء الدَّائِم الَّذِي لَا يجْرِي ثمَّ يغْتَسل فِيهِ ".
أَقُول: مَعْنَاهُ النَّهْي عَن كل وَاحِد من الْبَوْل فِي المَاء وَالْغسْل فِيهِ مثل حَدِيث: " لَا يخرج الرّجلَانِ يضربان الْغَائِط كاشفين عَن عورتهما يتحدثان فَإِن الله يمقت على ذَلِك " وَيبين ذَلِك رِوَايَة النَّهْي عَن الْبَوْل فِي المَاء فَقَط وَرِوَايَة أُخْرَى النَّهْي عَن الِاغْتِسَال فَقَط وَالْحكمَة أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا لَا يَخْلُو من أحد أَمريْن: إِمَّا أَن يُغير المَاء بِالْفِعْلِ، أَو يُفْضِي إِلَى التَّغْيِير بِأَن يرَاهُ النَّاس بِفعل، فيتتابعوا، وَهُوَ بِمَنْزِلَة اللاعنين اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يكون المَاء مستبحرا أَو جَارِيا والعفاف أفضل كل حَال.
وَأما المَاء الْمُسْتَعْمل فَمَا كَانَ أحد من طوائف النَّاس يَسْتَعْمِلهُ فِي الطَّهَارَة، وَكَانَ كالمهجور المطرود فأبقاه النَّبِي صلى الله عليه وسلم على مَا كَانَ عِنْدهم، وَلَا شكّ أَنه طَاهِر.
قَوْله صلى الله عليه وسلم: " إِذا بلغ المَاء ملتين لم يحمل خبثا ".
أَقُول مَعْنَاهُ لم يحمل خبثا معنويا إِنَّمَا يحكم بِهِ الشَّرْع دون الْعرف وَالْعَادَة، فَإِذا تغير أحد أَوْصَافه بِالنَّجَاسَةِ، وفحشت النَّجَاسَة كَمَا أَو كيفا
فَلَيْسَ مِمَّا ذكر، وَإِنَّمَا جعل الْقلَّتَيْنِ حدا فاصلا بَين الْكثير والقليل لأمر ضَرُورِيّ لَا بُد مِنْهُ، وَلَيْسَ تحكما وَلَا جزَافا - وَكَذَا سَائِر الْمَقَادِير الشَّرْعِيَّة - وَذَلِكَ أَن للْمَاء محلين مَعْدن واوان، أما الْمَعْدن فالآبار والعيون، وَيلْحق بهَا الأودية، أما الْأَوَانِي فالقرب والقلال والجفان والمخاضب والأداوة، وَكَانَ الْمَعْدن يتضررون بتنجسه، ويقاسون الْحَرج فِي نزحه، وَأما الْأَوَانِي فتملأ فِي كل يَوْم وَلَا حرج فِي إراقتها، والمعادن لَيْسَ لَهَا غطاء، وَلَا يُمكن سترهَا من رَوْث الدَّوَابّ وولغ السبَاع، وَأما الْأَوَانِي فَلَيْسَ فِي تغطيتها وحفظها كثير حرج اللَّهُمَّ إِلَّا من الطوافين والطوافات، والمعدن كثير غرير لَا يُؤثر فِيهِ كثير من النَّجَاسَات بِخِلَاف الْأَوَانِي، فَوَجَبَ أَن يكون حكم الْمَعْدن غير حكم الْأَوَانِي، وَأَن يرخص فِي الْمَعْدن مَا لَا يرخص فِي الْأَوَانِي، وَلَا يصلح فارقا بَين حد الْمَعْدن وحد الْأَوَانِي إِلَّا القلتان لِأَن مَاء الْبِئْر وَالْعين لَا يكون أقل من الْقلَّتَيْنِ أَلْبَتَّة وكل مَا دون الْقلَّتَيْنِ من الأودية لَا يُسمى حوضا وَلَا جوبة، وَإِنَّمَا يُقَال لَهُ حفيرة وَإِذا كَانَ قدر قُلَّتَيْنِ فِي مستو من الأَرْض يكون غَالِبا سَبْعَة أشبار، وَذَلِكَ أدنى الْحَوْض، وَكَانَ أَعلَى الْأَوَانِي الْقلَّة وَلَا يعرف أَعلَى مِنْهَا عِنْدهم آنِية،
وَلَيْسَت القلال سَوْدَاء: فقلة عِنْدهم تكون قلَّة وَنصفا، وَقلة وربعا، وَقلة وَثلثا، وَلَا تعرف قلَّة تكون كقلتين فَهَذَا حد لَا تبلغه الْأَوَانِي، وَلَا ينزل مِنْهُ الْمَعْدن، فَضرب حدا فاصلا بَين الْكثير والقليل، وَمن يقل بالقلتين اضْطر إِلَى مثلهمَا فِي ضبط المَاء الْكثير - كالمالكية - والرخصة فِي آبار الفلوات من نَحْو أبعار الْإِبِل فَمن هُنَا يَنْبَغِي أَن يعرف الْإِنْسَان أَمر الْحُدُود الشَّرْعِيَّة فَإِنَّهَا نازلة على وَجه ضَرُورِيّ لَا يَجدونَ مِنْهُ بدا، وَلَا يجوز الْعقل غَيرهَا.
قَوْله صلى الله عليه وسلم: " المَاء طهُور لَا يُنجسهُ شَيْء " وَقَوله صلى الله عليه وسلم: " المَاء لَا يجنب " وَقَوله صلى الله عليه وسلم: " الْمُؤمن لَا ينجس " وَمثله مَا فِي الْأَخْبَار من أَن الْبدن لَا ينجس وَالْأَرْض لَا تنجس.
أَقُول: معنى ذَلِك كُله يرجع إِلَى نفي نَجَاسَة خَاصَّة تدل عَلَيْهِ الْقَرَائِن الحالية والقالية فَقَوله: " المَاء لَا ينجس " مَعْنَاهُ الْمَعَادِن لَا تنجس بملاقاة النَّجَاسَة إِذا أخرجت، ورميت، وَلم يتَغَيَّر أحد أَوْصَافه، وَلم تفحش، وَالْبدن يغسل، فيطهر، وَالْأَرْض يُصِيبهَا الْمَطَر وَالشَّمْس، وتدلكها الأرجل فَتطهر، وَهل يُمكن أَن يظنّ ببئر بضَاعَة أَنَّهَا كَانَت تَسْتَقِر فِيهَا النَّجَاسَات؟ ! كَيفَ وَقد جرت عَادَة بني آدم بالاجتناب عَمَّا هَذَا شَأْنه، فَكيف يستقى بهَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم؟ بل كَانَت تقع فِيهَا النَّجَاسَات من غير أَن يقْصد إلقاؤها كَمَا تشاهد من آبار زَمَاننَا، ثمَّ تخرج تِلْكَ النَّجَاسَات، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَام سَأَلُوا عَن الطَّهَارَة الشَّرْعِيَّة الزَّائِدَة على مَا عِنْدهم، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم:" المَاء طهُور لَا يُنجسهُ شَيْء " يَعْنِي لَا ينجس نَجَاسَة غير مَا عنْدكُمْ، وَلَيْسَ هَذَا تَأْوِيلا وَلَا صرفا عَن الظَّاهِر بل هُوَ كَلَام الْعَرَب فَقَوله تَعَالَى:
{قل لَا أجد فِيمَا أُوحِي إِلَيّ محرما على طاعم} الْآيَة.
مَعْنَاهُ مِمَّا اختلفتم فِيهِ، وَإِذا سُئِلَ الطَّبِيب عَن شَيْء فَقَالَ لَا يجوز اسْتِعْمَاله عرف أَن المُرَاد نفي الْجَوَاز بِاعْتِبَار صِحَة الْبدن، وَإِذا سُئِلَ فَقِيه عَن شَيْء فَقَالَ لَا يجوز عرف أَنه يُرِيد نفي الْجَوَاز الشَّرْعِيّ،