الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فِيهِ حكم الْمصلحَة الْخَاصَّة بذلك الْوَقْت، فكثيرا مَا كَانَ تضييقا على الَّذين يأْتونَ من بعد، وَلذَلِك كَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يكره الْمسَائِل، وَكَانَ يَقُول:" ذروني مَا تركتكم، فَإِنَّمَا هلك من قبلكُمْ بِكَثْرَة سُؤَالهمْ وَاخْتِلَافهمْ على أَنْبِيَائهمْ ". وَقَالَ: " إِن أعظم الْمُسلمين فِي الْمُسلمين جرما من سَأَلَ شَيْئا فَحرم لأجل مسئلته " وَجَاء فِي الْخَبَر: " أَن بني إِسْرَائِيل لَو ذَبَحُوا أَي بقرة شَاءُوا كفت عَنْهُم لَكِن شَدَّدُوا فَشدد عَلَيْهِم " وَالله أعلم.
(بَاب أَسبَاب الْمُؤَاخَذَة على المناهج)
لنبحث عَن المناهج والشرائع الَّتِي ضربهَا الله تَعَالَى لِعِبَادِهِ هَل يَتَرَتَّب الثَّوَاب وَالْعَذَاب عَلَيْهَا كَمَا يَتَرَتَّب على أصُول الْبر والاثم، أَو لَا يَتَرَتَّب إِلَّا على مَا جعلت مظنات وأشباحا وقوالب لَهُ؟ فَمن ترك صَلَاة وَقت من الْأَوْقَات، وَقَلبه مطمئن بالاخبات، هَل يعذب بِتَرْكِهَا؟ وَمن صلى صَلَاة وَأدّى الْأَركان والشروط حَسْبَمَا يخرج عَن الْعهْدَة، وَلم يرجع بِشَيْء من الاخبات، وَلم يدْخل ذَلِك فِي صميم قلبه هَل يُثَاب على فعلهَا؟ وَلَيْسَ الْكَلَام فِي كَون مَعْصِيّة المناهج مفْسدَة عَظِيمَة من جِهَة كَونهَا قدحا فِي السّنة الراشدة، وفتحا لباب الْإِثْم، وغشا بِالنِّسْبَةِ إِلَى جمَاعَة الْمُسلمين، وضررا للحي وَالْمَدينَة والإقليم بِمَنْزِلَة سيل سد مجْرَاه لمصْلحَة الْمَدِينَة، فجَاء رجل،
ونقب السد، وَنَجَا بِنَفسِهِ وَأهْلك أهل مدينته، وَلَكِن الْكَلَام فِيمَا يرجع إِلَى نَفسه من إحاطة السَّيِّئَات بهَا أَو إحاطة الْحَسَنَات.
فَذهب أهل الْملَل قاطبة إِلَى أَنَّهَا توجب الثَّوَاب وَالْعَذَاب بِنَفسِهَا، فالمحققون مِنْهُم والراسخون فِي الْعلم والحواريون من أَصْحَاب الْأَنْبِيَاء عليهم السلام يدركون مَعَ ذَلِك وَجه الْمُنَاسبَة والارتباط لتِلْك الأشباح والقوالب بأصولها وأرواحها، وَعَامة حَملَة الدّين ووعاة الشَّرَائِع يكتفون بِالْأولِ، وَذهب فلاسفة الْإِسْلَام إِلَى أَن الْعَذَاب وَالثَّوَاب إِنَّمَا يكونَانِ على الصِّفَات النفسانية والأخلاق المتشبثة بذيل الرّوح، وَإِنَّمَا ذكر قوالبها وأشباحها فِي الشَّرَائِع تفهيما وتقريبا للمعاني الدقيقة إِلَى أذهان النَّاس، هَذَا تَحْرِير الْمقَام على مشرب الْقَوْم.
أَقُول: وَالْحق مَا ذهب إِلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ من أهل الْملَل - بَيَان ذَلِك أَن الشَّرَائِع لَهَا معدات وَأَسْبَاب تشخصها، وترجح بعض محتملاتها على بعض، وَالْحق يعلم أَن الْقَوْم لَا يَسْتَطِيعُونَ الْعَمَل بِالدّينِ إِلَّا بِتِلْكَ الشَّرَائِع والمناهج، وَيعلم أَن هَذِه الأوضاع هِيَ الَّتِي يَلِيق أَن تكون عَلَيْهِم، فتندرج فِي عناية الْحق بالقوم أزلا، ثمَّ لما تهَيَّأ الْعَالم لفيضان صور الشَّرَائِع وإيجاد شخوصها المثالية، فاوجدها وأفاضها، وتقرر هُنَالك أمرهَا - كَانَت أصلا من الْأُصُول، ثمَّ لما فتح الله على الْمَلأ الْأَعْلَى هَذَا الْعلم،
وألهمهم أَن المظنات قَائِمَة مقَام الْأُصُول، وَأَنَّهَا أشباحها وتماثيلها، وَأَنه لَا يُمكن تَكْلِيف الْقَوْم إِلَّا بِتِلْكَ - حصل فِي حَظِيرَة الْقُدس إِجْمَاع مَا على أَنَّهَا هِيَ بِمَنْزِلَة اللَّفْظ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَقِيقَة الْمَوْضُوع لَهَا، وَالصُّورَة الذهنية بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَقِيقَة الخارجية المنتزعة مِنْهَا، وَالصُّورَة التصويرية بِالنِّسْبَةِ إِلَى من انتقشت مكشافا لَهُ، وَالصُّورَة الخطية بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَلْفَاظ الْمَوْضُوعَة هِيَ لَهَا، فَإِنَّهُ فِي كل ذَلِك لما قويت العلاقة بَين الدَّال والمدلول، وَحصل بَينهمَا تلازم وتعانق أجمع فِي حيّز مَا من الأحياز أَنه هُوَ، ثمَّ ترشح شبح هَذَا الْعلم أَو حَقِيقَته فِي مدركات
بني آدم عربهم وعجمهم، فاتفقوا عَلَيْهِ، فَلَنْ ترى أحدا إِلَّا ويضمر فِي نَفسه شُعْبَة من ذَلِك، وَرُبمَا سميناه وجودا شَبِيها للمدلول، وَرُبمَا كَانَ لهَذَا الْوُجُود آثَار عَجِيبَة لَا تخفى على المتتبع، وَقد روعي فِي الشَّرَائِع بعض ذَلِك، وَلذَلِك جعلت الصَّدَقَة من أوساخ المتصدقين، وسرت شناعة الْعَمَل فِي الْأُجْرَة، ثمَّ لما بعث النَّبِي صلى الله عليه وسلم، وأيد بِروح الْقُدس، وَنَفث فِي روعه إصْلَاح الْقَوْم، وَفتح لجوهر روحه فج وَاسع إِلَى الهمة القوية فِي بَاب نزُول الشَّرَائِع وصدور الشخوص المثالية، فعزم على ذَلِك أقْصَى عزيمته، ودعا للموافقين، وَلعن على الْمُخَالفين بِجهْد همته، وَأَن هممهم تخترق السَّبع الطباق، وَأَنَّهُمْ يستسقون، وَمَا هُنَالك قزعة سَحَاب، فتنشأ أَمْثَال الْجبَال فِي الْحَال وَأَنَّهُمْ يدعونَ، فيحيى الْمَوْتَى بدعوتهم - تَأَكد انْعِقَاد الرِّضَا والسخط فِي حَظِيرَة الْقُدس، وَهُوَ قَوْله صلى الله عليه وسلم " إِن إِبْرَاهِيم نبيك وَعَبْدك دَعَا لمَكَّة وَأَنا أَدْعُو للمدينة " الحَدِيث.
ثمَّ إِن هَذَا العَبْد إِذا علم أَن الله تَعَالَى أمره بِكَذَا وَكَذَا، وَأَن الْمَلأ الْأَعْلَى تؤيد النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَأْمر، وَينْهى، وَعلم أَن إهمال هَذَا والإقدام على ذَلِك اجتراء على الله وتفريط فِي جنب الله، ثمَّ أقدم على الْعَمَل عَن قصد وَعمد، وَهُوَ يرى ويبصر - فَإِن ذَلِك لَا يكون إِلَّا لغاشية عَظِيمَة من الْحجب وانكسار تَامّ للملكية، وَذَلِكَ يُوجب قيام خَطِيئَة بِالنَّفسِ، وَإِذا أقدم على عمل شاق تنجم عَنهُ طَبِيعَته لَا لمراءة النَّاس، بل تقربا من الله وحفظا على مرضياته، فَإِن ذَلِك لَا يكون إِلَّا لغاشية عَظِيمَة من الْإِحْسَان وانكسار تَامّ للبهيمية، وَذَلِكَ يُوجب قيام حَسَنَة بِالنَّفسِ، أما من ترك صَلَاة وَقت من الْأَوْقَات، فَيجب أَن يبْحَث عَنهُ لم تَركهَا؟ وَأي شَيْء حمله على ذَلِك؟ فَإِن نَسِيَهَا، أَو نَام عَنْهَا، أَو جهل وُجُوبهَا، أَو شغل عَنْهَا بِمَا لَا يجد مِنْهُ بدا، فنص الْملَّة أَنه لَيْسَ بآثم، وَإِن تَركهَا وَهُوَ يعلم، ويتذكر،
وَأمره بِيَدِهِ، فَإِن ذَلِك لَا يكون لَا محَالة إِلَّا من حزازة فِي دينه، وغاشية شيطانية أَو نفسانية غشيت بصيرته، وَهُوَ يرجع إِلَى نَفسه، وَأما من صلى صَلَاة، وَخرج عَن عُهْدَة مَا وَجب عَلَيْهِ،