الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(بَاب الْفرق بَين الْمصَالح والشرائع)
اعْلَم أَن الشَّارِع أفادنا نَوْعَيْنِ من الْعلم متمايزين بأحكامهما متباينين فِي منازلهما.
فأحد النَّوْعَيْنِ علم الْمصَالح والمفاسد أَعنِي مَا بَينه من تَهْذِيب النَّفس باكتساب الْأَخْلَاق النافعة فِي الدُّنْيَا أَو فِي الْآخِرَة وَإِزَالَة أضدادها، وَمن تَدْبِير الْمنزل وآداب المعاش وسياسة الْمَدِينَة غير مُقَدّر لذَلِك بمقادير مُعينَة وَلَا ضَابِط مُبْهمَة بحدود مضبوطه وَلَا مُمَيّز لمشكلة بأمارات مَعْلُومَة، بل رغب فِي الحمائد، وزهد فِي الرذائل تَارِكًا كَلَامه إِلَى مَا يفهم مِنْهُ أهل اللُّغَة مديرا للطلب أَو الْمَنْع على أنفس الْمصَالح لَا على مظان مَنْصُوبَة لَهَا وأمارات معرفَة إِيَّاهَا كَمَا مدح الْكيس والشجاعة، وَأمر بالرفق والتودد وَالْقَصْد فِي الْمَعيشَة وَلم يبين أَن الْكيس مثلا مَا حَده الَّذِي يَدُور عَلَيْهِ الطّلب، وَمَا مظنته الَّتِي يُؤَاخذ النَّاس بهَا، وكل مصلحَة حثنا الشَّرْع عَلَيْهَا وكل مفْسدَة ردعنا عَنْهَا فَإِن ذَلِك لَا يَخْلُو من الرُّجُوع إِلَى أحد أصُول ثَلَاثَة أَحدهَا: تَهْذِيب النَّفس بالخصال الْأَرْبَع النافعة فِي الْمعَاد أَو سَائِر الْخِصَال النافعة فِي الدُّنْيَا، وَثَانِيها إعلاء كلمة الْحق وتمكين الشَّرَائِع وَالسَّعْي فِي إشاعتها وَثَالِثهَا انتظام أَمر النَّاس وَإِصْلَاح ارتفاقاتهم وتهذيب رسومهم، وَمعنى رُجُوعهَا إِلَيْهَا أَن يكون للشَّيْء دخل فِي تِلْكَ الْأُمُور إِثْبَاتًا لَهَا أَو نفيا إِيَّاهَا بِأَن يكون شُعْبَة من خصْلَة مِنْهَا أَو ضدا لشعبتها أَو مَظَنَّة لوجودها أَو عدمهَا أَو متلازما مَعهَا أَو مَعَ ضدها أَو طَرِيق إِلَيْهَا أَو إِلَى الْإِعْرَاض عَنْهَا، وَالرِّضَا فِي الأَصْل إِنَّمَا يتَعَلَّق بِتِلْكَ الْمصَالح، والسخط إِنَّمَا يناط بِتِلْكَ الْمَفَاسِد قبل بعث الرُّسُل وَبعده سَوَاء، وَلَوْلَا تعلق الرِّضَا والسخط بتينك القبيلتين لم يبْعَث الرُّسُل، وَذَلِكَ لِأَن الشَّرَائِع وَالْحُدُود إِنَّمَا كَانَت بعد بعث الرُّسُل، فَمَا كَانَ فِي
التَّكْلِيف بهَا والمؤاخذة عَلَيْهَا ابْتِدَاء لطف، وَلَكِن الْمصَالح والمفاسد كَانَت مُؤثرَة مقتضية لتهذيب النَّفس أَو تلويثها أَو انتظام أُمُورهم أَو فَسَادهَا قبل بعث الرُّسُل، فَاقْتضى لطف الله أَن يخبروا بِمَا يهمهم، ويكلفوا بِمَا لَا بُد لَهُم مِنْهُ، وَلم يكن يتم ذَلِك إِلَّا بمقادير وَشَرَائِع، فَاقْتضى اللطف تِلْكَ الْقَبِيلَة بِالْعرضِ، وَهَذَا النَّوْع مَعْقُول الْمَعْنى، فَمِنْهُ مَا تستقل الْعُقُول العامية بفهمه، وَمِنْه مَا لَا يفهمهُ إِلَّا عقول الأذكياء الفائض عَلَيْهِم الْأَنْوَار من قُلُوب الْأَنْبِيَاء نبههم الشَّرْع، فتنبهوا، ولوح لَهُم، فتفطنوا، وَمن أتقن الْأُصُول الَّتِي ذَكرنَاهَا لم يتَوَقَّف فِي شَيْء مِنْهَا.
وَالنَّوْع الثَّانِي علم الشَّرَائِع وَالْحُدُود والفرائض: أَعنِي مَا بَين الشَّرْع من الْمَقَادِير،
فنصب للْمصَالح مظان وأمارات مضبوطة مَعْلُومَة، وأدار الحكم عَلَيْهَا، وكلف النَّاس بهَا، وَضبط أَنْوَاع الْبر بِتَعْيِين الْأَركان والشروط والآداب، وَجعل من كل نوع حدا يطْلب مِنْهُم لَا محَالة وحدا يندبون إِلَيْهِ من غير إِيجَاب، وَاخْتَارَ من كل بر عددا يُوجب عَلَيْهِم، وَآخر يندبون إِلَيْهِ، فَصَارَ التَّكْلِيف مُتَوَجها إِلَى أنفس تِلْكَ المظان، وَصَارَت الْأَحْكَام دَائِرَة على أنفس تِلْكَ الأمارات، وَصَارَ مرجع هَذَا النَّوْع إِلَى قوانين السياسة الملية،
…
وَلَيْسَ كل مَظَنَّة لمصْلحَة توجب عَلَيْهِم، وَلَكِن مَا كَانَ مِنْهَا مضبوطا أمرا محسوسا أَو وَصفا ظَاهرا يُعلمهُ الْخَاصَّة والعامة، وَرُبمَا يكون للايجاب وَالتَّحْرِيم أَسبَاب طارئة يكْتب لأَجلهَا فِي الْمَلأ الْأَعْلَى فَيتَحَقَّق هُنَالك صُورَة الْإِيجَاب وَالتَّحْرِيم كسؤال سَائل ورغبة قوم فِيهِ أَو أعراضهم عَنهُ، وكل ذَلِك غير مَعْقُول الْمَعْنى بِمَعْنى أَنا وَإِن كُنَّا نعلم قوانين التَّقْدِير والتشريع، فَلَا نعلم وجود كِتَابَته فِي الْمَلأ الْأَعْلَى وَتحقّق صُورَة الْوُجُوب فِي حَظِيرَة الْقُدس إِلَّا بِنَصّ الشَّرْع، فَإِنَّهُ من الْأُمُور الَّتِي لَا سَبِيل إِلَّا إِدْرَاكهَا إِلَّا الْإِخْبَار الإلهي مثل ذَلِك - كَمثل الجمد - نعلم
أَن سَبَب حُدُوثه برودة تضرب المَاء وَلَا نعلم أَن مَاء الْقَعْب فِي ساعتنا هَذِه صَار جمدا أَو لَا إِلَّا بِالْمُشَاهَدَةِ أَو إِخْبَار من شَاهد، فعلى هَذَا الْقيَاس نعلم أَنه لَا بُد من تَقْدِير النّصاب فِي الزَّكَاة، ونعلم أَن مِائَتي دِرْهَم وَخَمْسَة أَو سَاق قدر صَالح للنصاب، لِأَنَّهُ يحصل بهَا غَنِي مُعْتَد بِهِ، وهما أَمْرَانِ مضبوطان مستعملان عِنْد الْقَوْم، وَلَا نعلم أَن الله تَعَالَى كتب علينا هَذَا النّصاب، وأدار الرِّضَا، والسخط عَلَيْهِ إِلَّا بِنَصّ الشَّرْع، كَيفَ وَكم من سَبَب لَهُ لَا سَبِيل إِلَى مَعْرفَته إِلَّا الْخَبَر، وَهُوَ قَوْله صلى الله عليه وسلم:" أعظم الْمُسلمين فِي الْمُسلمين جرما " الحَدِيث وَقَوله صلى الله عليه وسلم: " خشيت أَن يكْتب عَلَيْكُم ".
وَقد اتّفق من يعْتد بِهِ من الْعلمَاء على أَن الْقيَاس لَا يجْرِي فِي بَاب الْمَقَادِير، وعَلى أَن حَقِيقَة الْقيَاس تَعديَة حكم الأَصْل إِلَى الْفَرْع لعِلَّة مُشْتَركَة لَا جعل مَظَنَّة مصلحَة عِلّة أَو جعل شَيْء مُنَاسِب ركنا أَو شرطا، وعَلى أَنه لَا يصلح الْقيَاس لوُجُود الْمصلحَة، وَلَكِن لوُجُود عِلّة مصبوطة أدير عَلَيْهَا الحكم، فَلَا يُقَاس مُقيم بِهِ حرج على الْمُسَافِر فِي رخص الصَّلَاة وَالصَّوْم فان دفع الْحَرج مصلحَة الترخيص لاعلة الْقصر والأفطار، وَإِنَّمَا الْعلَّة هِيَ السّفر فَهَذِهِ الْمسَائِل لم يخْتَلف فِيهَا الْعلمَاء إِجْمَالا، وَلَكِن يحملهَا أَكْثَرهم عِنْد التَّفْصِيل وَذَلِكَ لِأَنَّهُ رُبمَا تشتبه الْمصلحَة بِالْعِلَّةِ، والتشريع، وَبَعض الْفُقَهَاء عِنْدَمَا خَاضُوا فِي الْقيَاس تحيروا فلجوا بِبَعْض الْمَقَادِير، وأنكروا استبدالها بِمَا يقرب مِنْهَا، وتسامحوا فِي بَعْضهَا، فنصبوا أَشْيَاء مقَامهَا،
…
مِثَال ذَلِك تقديرهم نِصَاب الْقطن بِخَمْسَة أحمال، ونصبهم ركُوب
السَّفِينَة مَظَنَّة لدوران الرَّأْس، وإدارة رخصَة الْعُقُود فِي الصَّلَاة عَلَيْهِ، وَتَقْدِير المَاء بالعشر فِي الْعشْر وَكلما أفهم الشَّرْع الْمصلحَة فِي مَوضِع، فَوَجَدنَا تِلْكَ الْمصلحَة فِي مَوضِع آخر عرفنَا أَن الرِّضَا يتَعَلَّق بهَا بِعَينهَا لَا بِخُصُوص ذَلِك الْموضع، بِخِلَاف الْمَقَادِير
فان الرِّضَا يتَعَلَّق هُنَاكَ بالمقادير أَنْفسهَا،
…
تَفْصِيل ذَلِك أَن من ترك صَلَاة وَقت كَانَ آثِما وَإِن شغل ذَلِك الْوَقْت بِالذكر وَسَائِر الطَّاعَات، وَمن ترك زَكَاة مَفْرُوضَة، وَصرف أَكثر من ذَلِك المَال فِي وُجُوه الْخَيْر كَانَ آثِما، وَكَذَلِكَ إِن لبس الْحَرِير وَالذَّهَب فِي الْخلْوَة حَيْثُ لَا يتَصَوَّر كسر قُلُوب الْفُقَرَاء وَحمل النَّاس على الْإِكْثَار من الدُّنْيَا وَلم يقْصد بِهِ الترفه - كَانَ آثِما وَكَذَلِكَ إِن شرب الْخمر بنية التَّدَاوِي، وَلم يكن هُنَاكَ فَسَاد، وَلَا ترك صَلَاة كَانَ آثِما لِأَن الرِّضَا والسخط متعلقان فأنفس هَذِه الْأَشْيَاء، وَإِن كَانَ الْغَرَض الْأَصْلِيّ كبحهم عَن الْفساد وَحَملهمْ على الْمصَالح، وَلَكِن الْحق علم أَن سياسة الْأمة لَا تمكن فِي هَذَا الْوَقْت إِلَّا بايجاب أنفس هَذِه الْأَشْيَاء وتحريمها فَتوجه الرِّضَا والسخط إِلَى أَنْفسهَا، وَكتب ذَلِك فِي الْمَلأ الْأَعْلَى بِخِلَاف مَا إِذا لبس الصُّوف الرفيع الَّذِي هُوَ أَعلَى وأغلى من الْحَرِير، وَاسْتعْمل أواني الْيَاقُوت فَإِنَّهُ لَا يَأْثَم بِنَفس هَذَا الْفِعْل، وَلَكِن إِن تحقق كسر قُلُوب الْفُقَرَاء وَحمل النَّاس على فعل ذَلِك أَو قصد الترفه بعد من الرَّحْمَة لأجل تِلْكَ الْمَفَاسِد وَإِلَّا فَلَا، وَحَيْثُ وجدت الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فعلوا مَا يشبه التَّقْدِير، فانما مُرَادهم بَيَان الْمصلحَة وَالتَّرْغِيب فِيهَا، والمفسدة والترهيب عَنْهَا، وَإِنَّمَا أخرجُوا تِلْكَ الصُّورَة مخرج الْمثل لَا يقصدون إِلَيْهَا بالخصوص، وَإِنَّمَا يقصدون إِلَى الْمعَانِي وَإِن اشْتبهَ الْأَمر بَادِي الرَّأْي، وَحَيْثُ جوز الشَّرْع استبدال مِقْدَار بِقِيمَتِه كَبِنْت المخاص بِقِيمَتِهَا على قَول فعلى التَّسْلِيم هُوَ أَيْضا نوع من التَّقْدِير، وَذَلِكَ لِأَن التَّقْدِير لَا يُمكن الِاسْتِقْصَاء فِيهِ بِحَيْثُ يُفْضِي إِلَى التَّضْيِيق، وَلَكِن رُبمَا يقدر بِأَمْر ينطبق على أُمُور كَثِيرَة كَبِنْت الْمَخَاض نَفسهَا فانها رُبمَا كَانَت بنت مَخَاض آرفه من بنت مَخَاض، وَرُبمَا كَانَ التَّقْدِير بِالْقيمَةِ تَقْديرا بِحَدّ مَعْلُوم فِي الْجُمْلَة كتقدير نِصَاب الْقطع بِمَا يكون قِيمَته ربع دِينَار أَو ثَلَاثَة دَرَاهِم.
وَاعْلَم أَن التَّحْرِيم والايجاب وَالتَّحْرِيم من التَّقْدِير، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كثيرا مَا تعن مصلحَة أَو مفْسدَة لَهَا صور كَثِيرَة، فَتعين صُورَة للايجاب أَو التَّحْرِيم، لِأَنَّهَا من الْأُمُور المضبوطة أَو لِأَنَّهَا مِمَّا عرفُوا حَالهَا فِي الْملَل السَّابِقَة، أَو رَغِبُوا فِيهَا أَكثر رَغْبَة وَلذَلِك اعتذر النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَقَالَ:" خشيت أَن يكْتب عَلَيْكُم " وَقَالَ " لَوْلَا أَن أشق على أمتِي لأمرتهم بِالسِّوَاكِ " وَإِذا كَانَ الْأَمر على ذَلِك لم يجز حمل غير الْمَنْصُوص حكمه على الْمَنْصُوص