الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تَفْصِيل ذَلِك أَن الأولى إِنَّمَا تَأتي من قوم ذَوي تجاذب، وَقَلِيل مَا هم، وبرياضات شاقة، وتفرغ قوى، وَقَلِيل من يَفْعَلهَا، وَإِنَّمَا أئمتها قوم أهملوا معاشهم، وَلَا دَعْوَة لَهُم فِي الدُّنْيَا، وَلَا تتمّ إِلَّا بِتَقْدِيم جملَة صَالِحَة من الثَّانِيَة وَلَا يخلوا من إهمال إِحْدَى السعادتين إصْلَاح الارتفاقات فِي الدُّنْيَا وَإِصْلَاح النَّفس للآخرة، فَلَو أَخذ بهَا أَكثر النَّاس خربَتْ الدُّنْيَا، وَلَو كلفوا بهَا كَانَ كالتكاليف بالمحال، لِأَن الارتفاقات صَارَت كالجبلة، وَالثَّانيَِة إِنَّمَا أئمتها المفهمون، وذوو إصْلَاح، وهم القائمون برياسة الدّين وَالدُّنْيَا مَعًا، ودعوتهم هِيَ المقبولة، وسنتهم هِيَ المتبعة، وينحصر فِيهَا كَمَال المصطلحين من السَّابِقين أَصْحَاب الْيَمين، وهم أَكثر النَّاس وجودا، ويتمكن مِنْهَا الذكي والغبي، والمشتغل والفارغ، وَلَا حرج فِيهَا وتكفي العَبْد فِي استقامة نَفسه، وَدفع أعوجاجها، وَدفع الآلام المتوقعة فِي الْمعَاد عَنْهَا، إِذْ لكل نفس أَفعَال ملكية تتنعم بوجودها، وتتألم بفقدها أما أَحْكَام التجرد فسيلقي إِلَيْهَا نشآت الْقَبْر والحشر من حَيْثُ لَا يدْرِي بجبلتها وَلَو بعد حِين.
…
ستبدي لَك الْأَيَّام مَا كنت جَاهِلا
…
ويأتيك بالأخبار من لم تزَود
…
وَبِالْجُمْلَةِ فالإحاطة واستقصاء وُجُوه الْخَيْر كالمحال فِي حق الْأَكْثَرين، وَالْجهل الْبَسِيط غير الضار، وَالله أعلم.
(بَاب الْأُصُول الَّتِي يرجع إِلَيْهَا تَحْصِيل الطَّرِيقَة الثَّانِيَة)
اعْلَم أَن طرق تَحْصِيل السَّعَادَة على الْوَجْه الثَّانِي كَثِيرَة جدا غير أَنِّي فهمني الله تَعَالَى بفضله أَن مرجعها إِلَى خِصَال أَربع تتلبس بهَا البهيمية مَتى غطتها النَّفس النطقية، وقسرتها على مَا يُنَاسِبهَا، وَهِي أشبه حالات الْإِنْسَان بِصفة الْمَلأ الْأَعْلَى معدة للحوقة بهم، وانخراطه فِي سلكهم، وفهمني أَنه إِنَّمَا بعث الْأَنْبِيَاء للدعوة إِلَيْهَا والحث عَلَيْهَا وَأَن الشَّرَائِع تَفْصِيل لَهَا وراجعة إِلَيْهَا.
أَحدهَا: الطَّهَارَة، وحقيقتها أَن الْإِنْسَان عِنْد سَلامَة فطرته وَصِحَّة مزاجه وتفرع قلبه من الْأَحْوَال السلفية الشاغلة لَهُ عَن التَّدْبِير إِذا تلطخ بالنجاسات، وَكَانَ حاقبا حاقنا قريب الْعَهْد من الْجِمَاع ودواعيه، انقبضت نَفسه، وأصابه ضيق وحزن، وَوجد نَفسه فِي غاشية عَظِيمَة، ثمَّ إِذا تخفف عَن الأخبثين، ودلك بدنه، واغتسل وَلبس أحسن ثِيَابه، وتطيب انْدفع عَنهُ ذَلِك الانقباض، وَوجد مَكَانَهُ انشراحا وسرورا وانبساطا كل ذَلِك لَا لمراءاة النَّاس وَالْحِفْظ على رسومه، بل لحكم النَّفس النطقية فَقَط،
فالحالة الأولى تسمى حَدثا، وَالثَّانيَِة الطَّهَارَة، والذكي من النَّاس، وَالَّذِي يرى مِنْهُ سَلامَة أَحْكَام النَّوْع وتمكين الْمَادَّة لأحكام الصُّورَة النوعية يعرف الْحَالَتَيْنِ متميزة كل وَاحِدَة من الْأُخْرَى، وَيُحب إِحْدَاهمَا، وَيبغض الْأُخْرَى لطبيعته، والغبي مِنْهُم إِذا أَضْعَف شَيْئا من البهيمية، ولج بالطهارات والتبتل، وتفرغ لمعرفتها، لَا بُد يعرفهما ويميز كل وَاحِدَة من الْأُخْرَى، وَالطَّهَارَة أشبه الصِّفَات النسمية بحالات الْمَلأ الْأَعْلَى فِي تجردها عَن الألواث البهيمية، وابتهاجها بِمَا عِنْدهَا من النُّور، وَلذَلِك كَانَت معدة لتلبس النَّفس
بكمالها بِحَسب الْقُوَّة العملية، وَالْحَدَث إِذا تمكن من الْإِنْسَان وأحاط بِهِ من بَين يَدَيْهِ وَمن خَلفه أورث لَهُ اسْتِعْدَادًا لقبُول وساوس الشَّيَاطِين ورؤيتهم بحاسة الْحس الْمُشْتَرك، ولمنامات موحشة، ولظهور الظلمَة عَلَيْهِ فِيمَا يَلِي النَّفس النطقية، وتمثل الْحَيَوَانَات الملعونة اللئيمة وَإِذا تمكنت الطَّهَارَة مِنْهُ، وأحاطت بِهِ، وتنبه لَهَا، وركن إِلَيْهَا أورثت اسْتِعْدَادًا لقبُول إلهامات الْمَلَائِكَة ورؤيتها، ولمنامات صَالِحَة، ولظهور الْأَنْوَار، وتمثل الطَّيِّبَات والأشياء الْمُبَارَكَة المعظمة.
وَالثَّانيَِة: الإخبات لله تَعَالَى، وَحَقِيقَته أَن الْإِنْسَان عِنْد سَلَامَته وتفرغه إِذا ذكر بآيَات الله تَعَالَى وَصِفَاته، وأمعن فِي التَّذَكُّر تنبهت النَّفس النطقية، وخضعت الْحَواس والجسد لَهَا، وَصَارَت كالحائرة الكليلة، وَوجد ميلًا إِلَى جَانب الْقُدس، وَكَانَ كَمثل الْحَالة الَّتِي تعتري السوقة بِحَضْرَة الْمُلُوك، وملاحظة عجز أنفسهم، واستبداد أُولَئِكَ بِالْمَنْعِ وَالعطَاء، وَهَذِه الْحَالة أقرب الْحَالَات النسمية، وأشبهها بِحَال الْمَلأ الْأَعْلَى فِي توجهها إِلَى بارئها، وهيمانها فِي جَلَاله، واستغراقها فِي تقديسه وَلذَلِك كَانَت معدة لخُرُوج النَّفس إِلَى كمالها العلمي أَعنِي انتقاش الْمعرفَة الإلهية فِي لوح ذهنها، واللحوق بتك الحضرة بِوَجْه من الْوُجُوه وَإِن كَانَت الْعبارَة تقصر عَنهُ.
وَالثَّالِثَة: السماحة، وحقيقتها كَون النَّفس بِحَيْثُ لَا تنقاد لدواعي الْقُوَّة البهيمية، وَلَا يتشبح فِيهَا نقوشها، وَلَا يلْحق بهَا ضَرَر لوثها، وَذَلِكَ لِأَن النَّفس إِذا تصرفت فِي أَمر معاشها، وتاقت للنِّسَاء، وعاسفت اللَّذَّات، أَو قرمت لطعام فاجتهدت فِي تَحْصِيله حَتَّى استوفت مِنْهَا حَاجَتهَا، وَكَذَلِكَ إِذا غضِبت أَو شحت بِشَيْء، فَإِنَّهَا لَا بُد فِي تِلْكَ الْحَالة تستغرق سَاعَة فِي هَذِه الْكَيْفِيَّة لَا ترفع إِلَى مَا وَرَائِهَا النّظر أَلْبَتَّة، ثمَّ إِذا
زايلت تِلْكَ الْحَالة، فَإِن كَانَت سَمْحَة خرجت من تِلْكَ المضايق كَأَن لم تكن فِيهَا قطّ، وَإِن كَانَت غير
ذَلِك فَإِنَّهَا تشتبك مَعهَا تِلْكَ الكيفيات، وتتشبح كَمَا تتشبح نقوش الْخَاتم فِي الشمعة فَإِذا فَارَقت الْجَسَد، وتخففت عَن العلائق الظلمانية المتراكمة، وَرجعت إِلَى مَا عِنْدهَا لم تَجِد شَيْئا مِمَّا كَانَ فِي الدُّنْيَا من مخلفات الملكية فَحصل لَهَا الْأنس، وَصَارَت فِي أرغد عَيْش.
والشحيحة تتمثل نقوشها عِنْدهَا، كَمَا ترى بعض النَّاس يسرق مِنْهُ مَال نَفِيس فَإِن كَانَ سخيا لم يجدله بَالا، وَإِن كَانَ رَكِيك النَّفس صَار كَالْمَجْنُونِ، وتمثلت عِنْده، والسماحة وضدها لَهما ألقاب كَثِيرَة بِحَسب مَا يكونَانِ فِيهِ، فَمَا كَانَ مِنْهُمَا فِي المَال يُسمى سخاوة وشحا، وَمَا كَانَ فِي دَاعِيَة شَهْوَة الْفرج أَو الْبَطن يُسمى عفة وشرة، وَمَا كَانَ فِي دَاعِيَة الرَّفَاهِيَة والنبو عَن المشاق يُسمى صبرا وهلعا، وَمَا كَانَ فِي دَاعِيَة الْمعاصِي الممنوعة عَنْهَا فِي الشَّرْع يُسمى تقوى وفجورا، وَإِذا تمكنت السماحة من الْإِنْسَان بقيت نَفسه عرية عَن شهوات الدُّنْيَا، واستعدت للذات الْعلية الْمُجَرَّدَة، والسماحة هَيْئَة تمنع الْإِنْسَان من أَن يتَمَكَّن مِنْهُ ضد الْكَمَال الْمَطْلُوب علما وَعَملا.
الرَّابِعَة الْعَدَالَة، وَهِي ملكة فِي النَّفس تصدر عَنْهَا الْأَفْعَال الَّتِي يُقَام بهَا نظام الْمَدِينَة والحي بسهولة، وَتَكون النَّفس كالمجبول على تِلْكَ الأفاعيل والسر فِي ذَلِك أَن الْمَلَائِكَة والنفوس الْمُجَرَّدَة عَن العلائق الجسمانية ينطبع فِيهَا مَا أَرَادَ الله فِي خلق الْعَالم من إصْلَاح النظام وَنَحْوه، فتنقلب مرضياتها إِلَى مَا يُنَاسب ذَلِك النظام، فَهَذِهِ طبيعة الرّوح الْمُجَرَّدَة، فَإِن فَارَقت جَسدهَا وفيهَا شَيْء من هَذِه الصّفة ابتهجت كل الابتهاج، وَوجدت سَبِيلا إِلَى اللَّذَّة الْمُفَارقَة عَن اللَّذَّات الخسيسة، وَإِن فَارَقت وفيهَا ضد هَذِه الْخصْلَة ضَاقَ
عَلَيْهَا الْحَال، وتوحشت، وتألمت، فَإِذا بعث الله نَبيا لإِقَامَة الدّين، وليخرج النَّاس من الظُّلُمَات إِلَى النُّور، وَيقوم النَّاس بِالْعَدْلِ، فَمن سعى فِي إِشَاعَة هَذَا النُّور، ووطأ لَهُ فِي النَّاس كَانَ مرحوما، وَمن سعى لردها وإخمالها كَانَ ملعونا مرجوما، وَإِذا تمكنت الْعَدَالَة من الْإِنْسَان وَقع اشْتِرَاك بَينه وَبَين حَملَة الْعَرْش ومقربي الحضرة من الْمَلَائِكَة الَّذين هم وسائط نزُول الْجُود والبركات، وَكَانَ ذَلِك بَابا مَفْتُوحًا بَينه وَبينهمْ، ومعدا لنزول ألوانهم وصبغهم بِمَنْزِلَة تَمْكِين النَّفس من إلهام الْمَلَائِكَة والانبعاث حسبها.
فَهَذِهِ الْخِصَال الْأَرْبَع إِن تحققت حَقِيقَتهَا، وفهمت كَيْفيَّة اقتضائها للكمال العلمي والعملي وإعدادها للانسلاك فِي سلك الْمَلَائِكَة، وفطنت كَيْفيَّة انشعاب الشَّرَائِع الإلهية بِحَسب كل عصر مِنْهَا - أُوتيت الْخَيْر الْكثير، وَكنت فَقِيها فِي الدّين مِمَّن أَرَادَ الله بهم خيرا،