الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تفصيلها حرج شَدِيد، وَأَيْضًا وَالنَّاس إِذا اعتنوا باقامة مَا ضبط بِهِ الْبر اعتناء شَدِيدا لم يحسوا بفوائد الْبر، وَلم يتوجهوا إِلَى أرواحها كَمَا ترى كثيرا من المجودين لَا يتدبرون معنى الْقُرْآن لاشتغال بالهم بالالفاظ، فَلَا أوفق بِالْمَصْلَحَةِ من أَن يُفَوض إِلَيْهِم الْأَمر بعد أصل الضَّبْط، وَالله أعلم.
وَمِنْهَا أَن الشَّارِع لم يخاطبهم إِلَّا على ميزَان الْعقل الْمُودع فِي أصل خلقتهمْ قبل أَن يتعانوا دقائق الْحِكْمَة وَالْكَلَام وَالْأُصُول، فَأثْبت لنَفسِهِ جِهَة فَقَالَ:
{الرَّحْمَن على الْعَرْش اسْتَوَى} .
وَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم لَا مرأة سَوْدَاء: " أَيْن الله فَأَشَارَتْ إِلَى السَّمَاء فَقَالَ هِيَ مُؤمنَة " وَلم يكلفهم فِي معرفَة اسْتِقْبَال الْقبْلَة وأوقات الصَّلَاة والأعياد حفظ مسَائِل الْهَيْئَة والهندسة وَأَشَارَ بقوله " الْقبْلَة مَا بَين الْمشرق وَالْمغْرب " إِذا اسْتقْبل الْكَعْبَة إِلَى وَجه المسئلة وَقَالَ: " الْحَج يَوْم تحجون وَالْفطر يَوْم تفطرون " وَالله أعلم.
(بَاب أسرار التَّرْغِيب والترهيب)
من نعْمَة الله تبارك وتعالى على عباده أَن أوحى إِلَى أنبيائه صلوَات الله عَلَيْهِم مَا يَتَرَتَّب على الْأَعْمَال من الثَّوَاب وَالْعَذَاب؛ ليخبروا الْقَوْم بِهِ، فتمتلئ قُلُوبهم رَغْبَة وَرَهْبَة، ويتقيدوا بالشرائع بداعية منبعثه من أنفسهم كَسَائِر مَا فِيهِ دفع ضرّ أَو جلب نفع وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
{وانها لكبيرة إِلَّا على الخاشعين الَّذين يظنون أَنهم ملاقوا رَبهم وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُون} .
ثمَّ إِن هَهُنَا قَوَاعِد كُلية إِلَيْهَا ترجع جزيئات التَّرْغِيب والترهيب، وَكَانَ فُقَهَاء الصَّحَابَة يعلمونها إِجْمَالا، وَإِن لم يَكُونُوا أحرزوها تَفْصِيلًا، وَمِمَّا يدل على مَا ذكرنَا مَا جَاءَ فِي الحَدِيث أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: " وَفِي بضع أحدكُم صَدَقَة، فَقَالُوا يَأْتِي أَحَدنَا شَهْوَته، وَيكون لَهُ فِيهَا أجر؟ قَالَ
أَرَأَيْتُم لَو وَضعهَا فِي حرَام كَانَ عَلَيْهِ وزر " فَمَا توقفوا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة دون غَيرهَا، وَمَا اشْتبهَ عَلَيْهِم لميتها إِلَّا لما عِنْدهم من معرفَة مُنَاسبَة الْأَعْمَال لأجزيتها، وَأَنَّهَا ترجع إِلَى أصل مَعْقُول الْمَعْنى، وَلَوْلَا ذَلِك لم يكن لسؤالهم وَلَا لجواب النَّبِي صلى الله عليه وسلم بِالِاعْتِبَارِ بِأَصْل وَاضح - وَجه، وَقَوْلِي هَذَا نَظِير مَا قَالَه الْفُقَهَاء فِي حَدِيث، " لَو كَانَ على أَبِيك دين أَكنت قاضيه؟ قَالَ نعم قَالَ فدين الله أَحَق أَن يقْضِي " من أَنه يدل على أَن الْأَحْكَام معلقَة بأصول
كُلية
وَحَاصِل السُّؤَال أَن الصَّدقَات ترجع إِلَى تَهْذِيب النَّفس كالتسبيح والتهليل وَالتَّكْبِير أَو إِقَامَة الْمصلحَة فِي نظام الْمَدِينَة، وَأَن السَّيِّئَات ترجع إِلَى أضداد هَاتين. وَقَضَاء شَهْوَة الْفرج اتِّبَاع لداعية البهيمية، وَلَا يعقل فِيهِ مصلحَة زَائِدَة على الْعَادَات أَو نَحْو ذَلِك مِمَّا يرجع إِلَى معرفَة كُلية واستغراب رُجُوع الْمَسْأَلَة إِلَيْهَا.
وَحَاصِل الْجَواب أَن جماع الحليلة يحصن فرجهَا وفرجه، وَفِيه خلاص مِمَّا يكون قَضَاء الشَّهْوَة فِي غير محلهَا اقتحاما فِيهِ.
وللترغيب والترهيب طرق: وَلكُل طَرِيقه سر، وَنحن ننبهك على مُعظم تِلْكَ الطّرق.
فَمِنْهَا بَيَان الْأَثر الْمُتَرَتب على الْعَمَل الَّذِي تهذب النَّفس من انكسار إِحْدَى القوتين أَو غلبتها وظهورها، ولسان الشَّارِع أَن يعبر عَن ذَلِك بكتابه الْحَسَنَات ومحو السَّيِّئَات كَقَوْلِه صلى الله عليه وسلم:" من قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ الْملك وَله الْحَمد وَهُوَ على كل شَيْء قدير فِي يَوْم مائَة مرّة كَانَ لَهُ عدل عشر رِقَاب، وَكتب لَهُ مائَة حَسَنَة، ومحيت عَنهُ مائَة سَيِّئَة، وَكَانَت لَهُ حرْزا من الشَّيْطَان يَوْمه ذَلِك حَتَّى يُمْسِي، وَلم يَأْتِ أحد بِأَفْضَل مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلَّا رجل عمل أَكثر مِنْهُ " وَقد ذكرنَا سره فِيمَا سبق.
وَمِنْهَا بَيَان أَثَره فِي الْحِفْظ عَن الشَّيْطَان وَغَيره كَقَوْلِه صلى الله عليه وسلم " وَكَانَ فِي حرز من الشَّيْطَان حَتَّى يُمْسِي " وَقَوله صلى الله عليه وسلم " لَا يستطيعها البطلة " أَو توسيع الرزق وَظُهُور الْبركَة وَنَحْو ذَلِك، والسر فِي بعض ذَلِك أَنه طلب من الله السَّلامَة، وَهُوَ سَبَب أَن يُسْتَجَاب دعاؤه، وَهُوَ قَوْله صلى الله عليه وسلم رَاوِيا عَن الله تبارك وتعالى:" وَلَئِن استعاذني لأعيذنه، وَلَئِن سَأَلَني لأعطينه " وَفِي الْبَعْض الآخر إِن الغوص فِي ذكر الله والتوجه إِلَى الجبروت والاستمداد من الملكوت يقطع الْمُنَاسبَة بهؤلاء، وَإِنَّمَا التَّأْثِير بالمناسبة، وَفِي الْبَعْض الآخر أَن الْمَلَائِكَة تدعوا لمن كَانَ على هَذِه الْحَالة، فَيدْخل فِي شراج كَثِيرَة، فَتَارَة فِي جلب نفع، وَتارَة فِي دفع ضَرَر. وَمِنْهَا بَيَان أَثَره فِي الْمعَاد، وسره ينْكَشف بمقدمتين.
إِحْدَاهمَا أَن الشَّيْء لَا يحكم عَلَيْهِ بِكَوْنِهِ سَببا للثَّواب أَو الْعَذَاب فِي الْمعَاد حَتَّى يكون لَهُ مُنَاسبَة بِأحد سببي المجازاة،
إِمَّا أَن يكون لَهُ دخل فِي الْأَخْلَاق الْأَرْبَعَة المبنية عَلَيْهَا السَّعَادَة وتهذيب النَّفس إِثْبَاتًا أَو نفيا، وَهِي النَّظَافَة والخشوع لرب الْعَالمين، وسماحة النَّفس، وَالسَّعْي فِي إِقَامَة الْعدْل بَين النَّاس، أَو يكون لَهُ دخل فِي تمشية مَا أجمع الْمَلأ الْأَعْلَى على تمشيته من التَّمْكِين للشرائع والنصرة للأنبياء عليهم السلام إِثْبَاتًا أَو نفيا، وَمعنى الْمُنَاسبَة أَن يكون الْعَمَل مَظَنَّة لوُجُود هَذَا الْمَعْنى أَو متلازما لَهُ فِي الْعَادة أَو طَرِيقا إِلَيْهِ، كَمَا أَن كَونه يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ لَا يحدث فيهمَا نَفسه مَظَنَّة الاخبات وتذكر جلال الله والترقي من حضيض البهيمية، وكما أَن إسباغ الْوضُوء طَرِيق إِلَى النَّظَافَة
المؤثرة فِي النَّفس، وكما أَن بذل المَال الخطير الَّذِي يشح بِهِ عَادَة وَالْعَفو عَمَّن ظلم وَترك المراء فِيمَا هُوَ حق لَهُ مَظَنَّة لسماحه النَّفس ومتلازم لَهَا، وكما أَن إطْعَام الجائع وَسقي الظمآن وَالسَّعْي فِي إطفاء ثائرة الْحَرْب من بَين الْأَحْيَاء مَظَنَّة إصْلَاح الْعَالم وَطَرِيق إِلَيْهِ، وكما أَن حب الْعَرَب طَرِيق إِلَى التزيى بزيهم، وَذَلِكَ طَرِيق عطف إِلَى الْأَخْذ بالملة الحنيفية، لِأَنَّهَا تشخصت فِي عاداتهم وتنويه بِأَمْر الشَّرِيعَة المصطفوية، وكما أَن الْمُحَافظَة على تَعْجِيل الْفطر تبَاعد عَن اخْتِلَاط الْملَل وتحريفها، وَمَا زَالَت طوائف النَّاس من الْحُكَمَاء وَهل الصناعات والأطباء يديرون الْأَحْكَام على مظانها، وَمَا زَالَ الْعَرَب جارين على ذَلِك فِي خطبهم ومحاوراتهم، وَقد ذكرنَا بعض ذَلِك
…
، أَو يكون عملا شاقا أَو خاملا أَو غير مُوَافق للطبيعة لَا يَقْصِدهُ، وَلَا يقدم عَلَيْهِ إِلَّا المخلص حق الْإِخْلَاص، فَيصير شرحا لإخلاصه كالتضلع من مَاء زَمْزَم وكحب عَليّ رضي الله عنه فَإِنَّهُ كَانَ شَدِيدا فِي أَمر الله وكحب الْأَنْصَار فَإِنَّهُ لم تزل الْعَرَب المعدية واليمينية متباعضين فِيمَا بَينهم حَتَّى ألفهم الْإِسْلَام، فالتأليف معرف لدُخُول بشاشة الْإِسْلَام فِي الْقلب وكالطلوع على الْجَبَل والسهر فِي حراسة جيوش الْمُسلمين فَإِنَّهُ معرف لصدق عزيمته فِي إعلاء كلمة الله وَحب دينه.
الْمُقدمَة الثَّانِيَة أَن الْإِنْسَان إِذا مَاتَ وَرجع إِلَى نَفسه وَإِلَى هيآتها الَّتِي انصبغت بهَا، الملائمة لَهَا، والمنافرة إِيَّاهَا - لَا بُد أَن تظهر صُورَة التألم والتنعم بأقرب مَا هُنَالك، وَلَا اعْتِبَار فِي ذَلِك للملازمة الْعَقْلِيَّة، بل لنَوْع آخر من الْمُلَازمَة لأَجلهَا يجر بعض حَدِيث
النَّفس بَعْضًا، وعَلى حسبها يَقع تشبح الْمعَانِي فِي الْمَنَام كَمَا يظْهر منع الْمُؤَذّن النَّاس عَن الْجِمَاع وَالْأكل بِصُورَة الْخَتْم على الْفروج والأفواه، ثمَّ إِن فِي عَالم الْمِثَال مناسبات تبنى عَلَيْهَا الْأَحْكَام، فَمَا ظهر جِبْرِيل فِي صُورَة دحْيَة دون غَيره إِلَّا لِمَعْنى، وَلَا ظَهرت النَّار
على مُوسَى عليه السلام إِلَّا لِمَعْنى، فالعارف بِتِلْكَ المناسبات يعلم أَن جَزَاء هَذَا الْعَمَل فِي أَي صُورَة يكون، كَمَا أَن الْعَارِف بِتَأْوِيل الرُّؤْيَا يعرف أَنه أَي معنى ظهر فِي صُورَة مَا رَآهُ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَمن هَذَا الطَّرِيق يعلم النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَن الَّذِي يكتم الْعلم، ويكف نَفسه عَن التَّعْلِيم عِنْد الْحَاجة إِلَيْهِ يعذب بلجام من نَار، لِأَنَّهُ تألمت النَّفس بالكف، واللجام شبح الْكَفّ وَصورته، وَالَّذِي يحب المَال، وَلَا يزَال يتَعَلَّق بِهِ خاطره يطوق بِشُجَاعٍ أَقرع، وَالَّذِي يتعانى فِي حفظ الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير والأنعام، ويحوط بهَا عَن الْبَذْل لله يعذب بِنَفس تِلْكَ الْأَشْيَاء على مَا تقرر عِنْدهم من وَجه التأذي، وَالَّذِي يعذب نَفسه بحديدة أَو سم، وَيُخَالف أَمر الله بذلك يعذب بِتِلْكَ الصُّورَة، وَالَّذِي يكسو الْفَقِير يكسى يَوْم الْقِيَامَة من سندس الْجنَّة، وَالَّذِي يعْتق مُسلما ويفك رقبته عَن آفَة الرّقّ الْمُحِيط بِهِ يعْتق بِكُل عُضْو مِنْهُ عُضْو مِنْهُ من النَّار.
وَمِنْهَا تَشْبِيه ذَلِك الْعَمَل بِمَا تقرر فِي الأذهان حسنه أَو قبحه، أما من جِهَة الشَّرْع أَو الْعَادة وَفِي ذَلِك لَا بُد من أَمر جَامع بَين الشَّيْئَيْنِ مُشْتَرك بَينهمَا وَلَو بِوَجْه من الْوُجُوه، كَمَا شبه المرابط فِي الْمَسْجِد بعد صَلَاة الصُّبْح إِلَى طُلُوع الشَّمْس بِصَاحِب حجَّة وَعمرَة، وَشبه الْعَائِد فِي هِبته بالكلب الْعَائِد فِي قيئه، ونسبته إِلَى المحبوبين أَو المبغوضين، وَالدُّعَاء لفَاعِله أَو عَلَيْهِ، وكل ذَلِك يُنَبه على حَال الْعَمَل إِجْمَالا من غير تعرض لوجه الْحسن أَو الْقبْح كَقَوْل الشَّارِع: تِلْكَ صَلَاة الْمُنَافِق، وَلَيْسَ منا من فعل كَذَا، وَهَذَا الْعَمَل عمل
الشَّيَاطِين أَو عمل الْمَلَائِكَة، ورحم الله أمرءاً فعل كَذَا وَكَذَا " وَنَحْو هَذِه الْعبارَات.
وَمِنْهَا حَال الْعَمَل فِي كَونه مُتَعَلقا لرضا الله أَو سخطه وسببا لانعطاف دَعْوَة الْمَلَائِكَة إِلَيْهِ أَو عَلَيْهِ كَقَوْل الشَّارِع - إِن الله يحب كَذَا وَكَذَا، وَيبغض كَذَا وَكَذَا - وَقَوله صلى الله عليه وسلم " إِن الله تَعَالَى وَمَلَائِكَته يصلونَ على ميامن الصُّفُوف " وَقد ذكرنَا سره، وَالله أعلم.