المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(من أبواب الإيمان) - حجة الله البالغة - جـ ١

[ولي الله الدهلوي]

فهرس الكتاب

- ‌(بَاب الإبداع والخلق وَالتَّدْبِير)

- ‌(بَاب ذكر عَالم الْمِثَال)

- ‌(بَاب ذكر الْمَلأ الْأَعْلَى)

- ‌(بَاب ذكر سنة الله الَّتِي أُشير إِلَيْهَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلنْ تَجِد لسنة الله تبديلا} )

- ‌(بَاب حَقِيقَة الرّوح)

- ‌(بَاب سر التَّكْلِيف)

- ‌(بَاب انْشِقَاق التَّكْلِيف من التَّقْدِير)

- ‌(بَاب اقْتِضَاء التَّكْلِيف المجازاة)

- ‌(بَاب اخْتِلَاف النَّاس فِي جبلتهم المستوجب لاخْتِلَاف أَخْلَاقهم وأعمالهم ومراتب كمالهم)

- ‌(بَاب فِي أَسبَاب الخواطر الباعثة على الْأَعْمَال)

- ‌(بَاب لصوق الْأَعْمَال بِالنَّفسِ وأحصائها عَلَيْهَا)

- ‌(بَاب ارتباط الْأَعْمَال بالهيئات النفسانية)

- ‌(بَاب أَسبَاب المجازاة)

- ‌(المبحث الثَّانِي)

- ‌(مَبْحَث كَيْفيَّة المجازاة فِي الْحَيَاة وَبعد الْمَمَات)

- ‌(بَاب الْجَزَاء على الْأَعْمَال فِي الدُّنْيَا)

- ‌(بَاب ذكر حَقِيقَة الْمَوْت)

- ‌(بَاب اخْتِلَاف أَحْوَال النَّاس فِي البرزخ)

- ‌(بَاب ذكر شَيْء من أسرار الوقائع الحشرية)

- ‌(المبحث الثَّالِث)

- ‌(مَبْحَث الارتفاقات)

- ‌(بَاب كَيْفيَّة استنباط الارتفاقات)

- ‌(بَاب الارتفاق الأول)

- ‌(بَاب فن أداب المعاش)

- ‌(بَاب تَدْبِير الْمنزل)

- ‌(بَاب فن الْمُعَامَلَات)

- ‌(بَاب سياسة الْمَدِينَة)

- ‌(بَاب سيرة الْمُلُوك)

- ‌(بَاب سياسة الأعوان)

- ‌(بَاب الارتفاق الرَّابِع)

- ‌(بَاب اتِّفَاق النَّاس على أصُول الارتفاقات)

- ‌(بَاب الرسوم السائرة فِي النَّاس)

- ‌(المبحث الرَّابِع)

- ‌(مَبْحَث السَّعَادَة)

- ‌(بَاب حَقِيقَة السَّعَادَة)

- ‌(بَاب اخْتِلَاف النَّاس فِي السَّعَادَة)

- ‌(بَاب توزع النَّاس فِي كَيْفيَّة تَحْصِيل هَذِه السَّعَادَة)

- ‌(بَاب الْأُصُول الَّتِي يرجع إِلَيْهَا تَحْصِيل الطَّرِيقَة الثَّانِيَة)

- ‌(بَاب طَرِيق اكْتِسَاب هَذِه الْخِصَال وتكميل ناقصها ورد فائتها)

- ‌(بَاب الْحجب الْمَانِعَة عَن ظُهُور الْفطْرَة)

- ‌(بَاب طَرِيق رفع هَذِه الْحجب)

- ‌(المبحث الْخَامِس)

- ‌(مَبْحَث الْبر وَالْإِثْم)

- ‌(مُقَدّمَة فِي بَيَان حَقِيقَة الْبر وَالْإِثْم)

- ‌(بَاب التَّوْحِيد)

- ‌(بَاب فِي حَقِيقَة الشّرك)

- ‌(بَاب أَقسَام الشّرك)

- ‌(بَاب الْإِيمَان بِصِفَات الله تَعَالَى)

- ‌(بَاب الْإِيمَان بِالْقدرِ)

- ‌(بَاب الْإِيمَان بِأَن الْعِبَادَة حق الله تَعَالَى على عباده لِأَنَّهُ منعم عَلَيْهِم مجَاز لَهُم بالارادة)

- ‌(بَاب تَعْظِيم شَعَائِر الله تَعَالَى)

- ‌(بَاب أسرار الْوضُوء وَالْغسْل)

- ‌(بَاب أسرار الصَّلَاة)

- ‌(بَاب أسرار الزَّكَاة)

- ‌(بَاب أسرار الصَّوْم)

- ‌(بَاب أسرار الْحَج)

- ‌(بَاب أسرار انواع من الْبر)

- ‌(بَاب طَبَقَات الاثم)

- ‌(بَاب مفاسد الآثام)

- ‌(بَاب فِي الْمعاصِي الَّتِي هِيَ فِيمَا بَينه وَبَين نَفسه)

- ‌(بَاب الآثام الَّتِي هِيَ فِيمَا بَينه وَبَين النَّاس)

- ‌(المبحث السَّادِس)

- ‌(مَبْحَث السياسات الملية)

- ‌(بَاب الْحَاجة إِلَى هداة السبل ومقيمى الْملَل)

- ‌(بَاب حَقِيقَة النُّبُوَّة وخواصها)

- ‌(بَاب بَيَان أَن أصل الدّين وَاحِد والشرائع والمناهج مُخْتَلفَة)

- ‌(بَاب أَسبَاب نزُول الشَّرَائِع الْخَاصَّة بعصر دون عصر وَقوم دون قوم)

- ‌(بَاب أَسبَاب الْمُؤَاخَذَة على المناهج)

- ‌(بَاب أسرار الحكم وَالْعلَّة)

- ‌(بَاب الْمصَالح الْمُقْتَضِيَة لتعيين الْفَرَائِض والأركان والآداب وَنَحْو ذَلِك)

- ‌(بَاب أسرار الْأَوْقَات)

- ‌(بَاب أسرار الْأَعْدَاد والمقادير)

- ‌(بَاب أسرار الْقَضَاء والرخصة)

- ‌(بَاب إِقَامَة الارتفاقات واصلاح الرسوم)

- ‌(بَاب الْأَحْكَام الَّتِي يجر بَعْضهَا لبَعض)

- ‌(بَاب ضبط الْمُبْهم وتميز الْمُشكل والتخريج من الْكُلية وَنَحْو ذَلِك)

- ‌(بَاب التَّيْسِير)

- ‌(بَاب أسرار التَّرْغِيب والترهيب)

- ‌(بَاب طَبَقَات الْأمة بِاعْتِبَار الْخُرُوج إِلَى الْكَمَال الْمَطْلُوب أَو ضِدّه)

- ‌(بَاب الْحَاجة إِلَى دين ينْسَخ الْأَدْيَان)

- ‌(بَاب احكام الدّين من التحريف)

- ‌(بَاب أَسبَاب اخْتِلَاف دين نَبينَا صلى الله عليه وسلم وَدين الْيَهُود والنصرانية)

- ‌(بَاب أَسبَاب النّسخ)

- ‌(بَاب بَيَان مَا كَانَ عَلَيْهِ حَال أهل الْجَاهِلِيَّة فاصلحه النَّبِي صلى الله عليه وسلم

- ‌(المبحث السَّابِع مَبْحَث استنباط الشَّرَائِع من حَدِيث النَّبِي صلى الله عليه وسلم

- ‌(بَاب بَيَان أَقسَام عُلُوم النَّبِي صلى الله عليه وسلم

- ‌(بَاب الْفرق بَين الْمصَالح والشرائع)

- ‌(بَاب كَيْفيَّة تلقي الْأمة الشَّرْع من النَّبِي صلى الله عليه وسلم

- ‌(بَاب طَبَقَات كتب الحَدِيث)

- ‌(بَاب كَيْفيَّة فهم المُرَاد من الْكَلَام)

- ‌(بَاب كَيْفيَّة فهم الْمعَانِي الشَّرْعِيَّة من الْكتاب وَالسّنة)

- ‌(بَاب الْقَضَاء فِي الْأَحَادِيث الْمُخْتَلفَة)

- ‌(تَتِمَّة)

- ‌(بَاب أَسبَاب اخْتِلَاف الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فِي الْفُرُوع)

- ‌(بَاب أَسبَاب اخْتِلَاف مَذَاهِب الْفُقَهَاء)

- ‌(بَاب الْفرق بَين أهل الحَدِيث وَأَصْحَاب الرَّأْي)

- ‌(بَاب حِكَايَة حَال النَّاس قبل الْمِائَة الرَّابِعَة وَبعدهَا)

- ‌(فصل)

- ‌(الْقسم الثَّانِي

- ‌(فِي بَيَان أسرار مَا جَاءَ عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم تَفْصِيلًا)

- ‌(من أَبْوَاب الْإِيمَان)

- ‌(من أَبْوَاب الِاعْتِصَام بِالْكتاب وَالسّنة)

- ‌(من أَبْوَاب الطَّهَارَة)

- ‌(فصل فِي الْوضُوء)

- ‌(صفة الْوضُوء)

- ‌(مُوجبَات الْوضُوء)

- ‌(الْمسْح على الْخُفَّيْنِ)

- ‌(صفة الْغسْل)

- ‌(مُوجبَات الْغسْل)

- ‌(مَا يُبَاح للْجنب والمحدث وَمَا لَا يُبَاح لَهما)

- ‌(التَّيَمُّم)

- ‌(آدَاب الْخَلَاء)

- ‌(خِصَال الْفطْرَة ومأ يتَّصل بهَا)

- ‌(أَحْكَام الْمِيَاه)

- ‌(تَطْهِير النَّجَاسَات)

- ‌(من أَبْوَاب الصَّلَاة)

- ‌(فضل الصَّلَاة)

- ‌(أَوْقَات الصَّلَاة)

- ‌(الْأَذَان)

- ‌(الْمَسَاجِد)

- ‌(ثِيَاب الْمُصَلِّي)

- ‌(الْقبْلَة)

الفصل: ‌(من أبواب الإيمان)

(من أَبْوَاب الْإِيمَان)

أعلم أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم لما كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى الْخلق بعثا عَاما، ليغلب دينه على الْأَدْيَان كلهَا بعز عَزِيز، أَو ذل ذليل - حصل فِي دينه أَنْوَاع من النَّاس، فَوَجَبَ التَّمْيِيز بَين الَّذين يدينون بدين الْإِسْلَام، وَبَين غَيرهم، ثمَّ بَين الَّذين اهتدوا بالهداية الَّتِي بعث بهَا، وَبَين غَيرهم مِمَّن لم تدخل بشاشة الْإِيمَان قُلُوبهم، فَجعل الْإِيمَان على ضَرْبَيْنِ:

أَحدهمَا الْإِيمَان الَّذِي يَدُور عَلَيْهِ أَحْكَام الدُّنْيَا من عصمَة الدِّمَاء وَالْأَمْوَال وَضَبطه بِأُمُور ظَاهِرَة فِي الانقياد وَهُوَ قَوْله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يشْهدُوا أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله ويقيموا الصَّلَاة ويؤتوا الزَّكَاة فَإِذا فعلوا ذَلِك عصموا مني دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ إِلَّا بِحَق الْإِسْلَام وحسابهم على الله " وَقَوله صلى الله عليه وسلم: " من صلى صَلَاتنَا، واستقبل قبلتنا وَأكل ذبيحتنا، فَذَلِك الْمُسلم الَّذِي لَهُ ذمَّة الله وَذمَّة رَسُوله، فَلَا تحفروا الله فِي ذمَّته " وَقَوله صلى الله عليه وسلم: قلت من أصل الْإِيمَان الْكَفّ عَمَّن قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله لَا نكفره بذنب وَلَا نخرجهُ من الْإِسْلَام بِعَمَل " الحَدِيث.

وَثَانِيهمَا الْإِيمَان الَّذِي يَدُور عَلَيْهِ أَحْكَام الْآخِرَة من النجَاة والفوز بالدرجات، وَهُوَ متناول لكل اعْتِقَاد حق، وَعمل مرضِي، وملكة فاضلة، وَهُوَ يزِيد وَينْقص، وَسنة الشَّارِع أَن يُسمى كل شَيْء مِنْهَا إِيمَانًا ليَكُون تَنْبِيها بليغا على جزئيته، وَهُوَ قَوْله صلى الله عليه وسلم:" لَا إِيمَان لمن لَا أَمَانَة لَهُ وَلَا دين لمن لَا عهد لَهُ " وَقَوله صلى الله عليه وسلم: " الْمُسلم من سلم الْمُسلمُونَ من لِسَانه وَيَده " الحَدِيث، وَله شعب كَثِيرَة، وَمثله كَمثل الشَّجَرَة يُقَال للدوحة والأغصان والأوراق وَالثِّمَار والأزهار جَمِيعًا: إِنَّهَا شَجَرَة، فَإِذا قطع أَغْصَانهَا، وخبط أوراقها، وخرف ثمارها قيل: شَجَرَة نَاقِصَة، فَإِذا قلعت الدوحة بَطل الأَصْل وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {

ص: 277

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين إِذا ذكر الله وجلت قُلُوبهم} الْآيَة.

وَلما لم يكن جَمِيع تِلْكَ الْأَشْيَاء على حد وَاحِد جعلهَا النَّبِي صلى الله عليه وسلم على مرتبتين.

مِنْهَا الْأَركان الَّتِي هِيَ عُمْدَة أَجْزَائِهَا وَهُوَ قَوْله صلى الله عليه وسلم: " بني الْإِسْلَام على خمس شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله وإقام الصَّلَاة وإيتاء الزَّكَاة وَالْحج وَصَوْم رَمَضَان ".

وَمِنْهَا سَائِر الشّعب وَهُوَ قَوْله صلى الله عليه وسلم: " الْإِيمَان بضع وَسَبْعُونَ شُعْبَة، أفضلهَا قَول لَا إِلَه إِلَّا الله، وَأَدْنَاهَا إمَاطَة الْأَذَى عَن الطَّرِيق، وَالْحيَاء شُعْبَة من الْإِيمَان ".

وَيُسمى مُقَابل الْإِيمَان الأول بالْكفْر، وَأما مُقَابل الْإِيمَان الثَّانِي فَإِن كَانَ تفويتا للتصديق، وَإِنَّمَا يكون الانقياد بِغَلَبَة السَّيْف - فَهُوَ النِّفَاق الْأَصْلِيّ، وَالْمُنَافِق بِهَذَا الْمَعْنى لَا فرق بَينه وَبَين الْكَافِر فِي الْآخِرَة بل المُنَافِقُونَ - فِي الدَّرك الْأَسْفَل من النَّار. .، وَإِن كَانَ مُصدقا مفوتا لوظيفة الْجَوَارِح سمي فَاسِقًا. .، أَو مفوتا لوظيفة الْجنان، فَهُوَ الْمُنَافِق بِنفَاق آخر، وَقد سَمَّاهُ بعض السّلف نفاق الْعَمَل، وَذَلِكَ أَن يغلب عَلَيْهِ حجاب الطَّبْع أَو الرَّسْم أَو سوء الْمعرفَة، فَيكون ممعنا فِي محبَّة الدُّنْيَا والعشائر وَالْأَوْلَاد، فيدب فِي قلبه استبعاد المجازاة والاجتراء على الْمعاصِي من حَيْثُ لَا يدْرِي وَإِن كَانَ معترفا بِالنّظرِ البرهاني بِمَا يَنْبَغِي الِاعْتِرَاف بِهِ، أَو رأى الشدائد فِي الْإِسْلَام، فكرهه، أَو أحب الْكفَّار بأعيانهم، فصد ذَلِك من إعلاء كلمة الله.

وللإيمان مَعْنيانِ آخرَانِ:

أَحدهمَا تَصْدِيق الْجنان بِمَا لَا بُد من تَصْدِيقه، وَهُوَ قَوْله صلى الله عليه وسلم فِي جَوَاب جِبْرِيل:" الْإِيمَان أَن تؤمن بِاللَّه وَمَلَائِكَته " الحَدِيث،

وَالثَّانِي السكينَة والهيئة الوجدانية الَّتِي تحصل للمقربين، وَهُوَ قَوْله صلى الله عليه وسلم:" الطّهُور شطر الْإِيمَان " وَقَوله صلى الله عليه وسلم: " إِذا زنى العَبْد خرج مِنْهُ الْإِيمَان، فَكَانَ فَوق رَأسه كالظلة، فَإِذا خرج من ذَلِك الْعَمَل رَجَعَ إِلَيْهِ الْإِيمَان " وَقَول معَاذ رضي الله عنه: " تعال نؤمن سَاعَة ".

فللإيمان أَرْبَعَة معَان مستعملة فِي الشَّرْع إِن حملت كل حَدِيث من الْأَحَادِيث المتعارضة فِي الْبَاب على محمله اندفعت عَنْك الشكوك والشبهات، وَالْإِسْلَام أوضح من الْإِيمَان فِي الْمَعْنى الأول وَلذَلِك قَالَ الله تَعَالَى: {

ص: 278

قل لم تؤمنوا وَلَكِن قُولُوا أسلمنَا} .

وَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم لسعد: " أَو مُسلما "، وَالْإِحْسَان أوضح مِنْهُ فِي الْمَعْنى الرَّابِع.

وَلما كَانَ نفاق الْعَمَل وَمَا يُقَابله من الْإِخْلَاص أمرا خفِيا وَجب بَيَان عَلَامَات كل وَاحِد مِنْهُمَا، وَهُوَ قَوْله صلى الله عليه وسلم:" أَربع من كن فِيهِ كَانَ منافقا خَالِصا، وَمن كَانَت فِيهِ خصْلَة مِنْهُنَّ كَانَت فِيهِ خصْلَة من النِّفَاق حَتَّى يَدعهَا، إِذا ائْتمن خَان، وَإِذا حدث كذب، وَإِذا عَاهَدَ غدر، وَإِذا خَاصم فجر " وَقَوله صلى الله عليه وسلم: " ثَلَاث من كن فِيهِ وجد بِهن حلاوة الْإِيمَان أَن يكون الله وَرَسُوله أحب إِلَيْهِ مِمَّا سواهُمَا، وَأَن يحب الْمَرْء لَا يُحِبهُ إِلَّا لله، وَأَن يكره أَن يعود فِي الْكفْر كَمَا يكره أَن يقذف فِي

النَّار " وَقَوله صلى الله عليه وسلم: " إِذا رَأَيْتُمْ العَبْد يلازم الْمَسْجِد فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَان " وَكَذَا قَوْله عليه السلام: " حب على آيَة الْإِيمَان، وبغض على آيَة النِّفَاق " وَالْفِقْه فِيهِ أَنه رضي الله عنه كَانَ شَدِيدا فِي أَمر الله، فَلَا يحْتَمل شدته إِلَّا من ركدت طَبِيعَته، وَغلب عقله على هَوَاهُ، وَقَوله صلى الله عليه وسلم: " حب الْأَنْصَار آيَة الْإِيمَان " وَالْفِقْه فِيهِ أَن الْعَرَب المعدية واليمينة مَا زَالُوا يتنازعون بَينهم حَتَّى جمعهم الْإِيمَان، فَمن كَانَ جَامع الهمة على إعلاء الْكَلِمَة زَالَ عَنهُ الحقد، وَمن لم يكن جَامعا بَقِي فِيهِ النزاع، وَقد بَين النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيث " بني الْإِسْلَام على خمس " وَحَدِيث ضمام ابْن ثَعْلَبَة، وَحَدِيث أَعْرَابِي قَالَ - دلَّنِي على عمل إِذا عملته دخلت الْجنَّة - إِن هَذِه الْأَشْيَاء الْخَمْسَة أَرْكَان الْإِسْلَام، وَأَن من فعلهَا وَلم يفعل غَيرهَا من الطَّاعَات قد خلص رقبته من الْعَذَاب، واستوجب الْجنَّة، كَمَا بَين أَن أدنى الصَّلَاة مَاذَا، وَأدنى الْوضُوء مَاذَا - وَإِنَّمَا خص الْخَمْسَة بالركنية لِأَنَّهَا أشهر عبادات الْبشر، وَلَيْسَت مِلَّة من الْملَل إِلَّا قد أخذت بهَا، والتزمتها كاليهود وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس وَبَقِيَّة الْعَرَب على اخْتلَافهمْ فِي أوضاع أَدَائِهَا، وَلِأَن فِيهَا مَا يَكْفِي عَن غَيرهَا، وَلَيْسَ فِي غَيرهَا مَا يَكْفِي عَنْهَا، وَذَلِكَ لِأَن أصل أصُول الْبر التَّوْحِيد وتصديق النَّبِي وَالتَّسْلِيم للشرائع الإلهية، وَلما كَانَت الْبعْثَة عَامَّة، وَكَانَ النَّاس يدْخلُونَ فِي دين الله أَفْوَاجًا لم يكن بُد من عَلامَة ظَاهِرَة بهَا يُمَيّز بَين الْمُوَافق والمخالف، وَعَلَيْهَا يدار حكم الْإِسْلَام، وَبهَا يُؤَاخذ النَّاس، وَلَوْلَا ذَلِك لم يفرق بَينهمَا طول الممارسة إِلَّا تفريقا ظنيا مُعْتَمدًا على قَرَائِن وَلَا ختلف النَّاس

ص: 279

فِي الحكم بِالْإِسْلَامِ، وَفِي ذَلِك اختلال كثير من الْأَحْكَام كَمَا لَا يخفى، وَلَيْسَ شَيْء كَالْإِقْرَارِ طَوْعًا ورغبة كاشفا عَن حَقِيقَة مَا فِي الْقلب من الِاعْتِقَاد والتصديق.

وَلما ذكرنَا من قبل من أَن مدَار السَّعَادَة النوعية، وملاك النجَاة الأخروية هِيَ الْأَخْلَاق الْأَرْبَعَة، فَجعلت الصَّلَاة المقرونة بِالطَّهَارَةِ سبحا ومظنة لخلقي

الاخبات، والنظافة، وَجعلت الزَّكَاة المقرونة بشروطها المصروفة إِلَى مصارفها مَظَنَّة للسماحة وَالْعَدَالَة.

وَلما ذكرنَا أَنه لَا بُد من طَاعَة قاهرة على النَّفس، ليدفع بهَا الْحجب الطبيعية، وَلَا شَيْء فِي ذَلِك كَالصَّوْمِ.

وَلما ذكرنَا أَيْضا من أَن أصل أصُول الشَّرَائِع هُوَ تَعْظِيم شَعَائِر الله وَهِي أَرْبَعَة، مِنْهَا الْكَعْبَة، وتعظيمها الْحَج - وَقد ذكرنَا فِيمَا سبق من فَوَائِد هَذِه الطَّاعَات مَا يعلم بِهِ أَنَّهَا تَكْفِي عَن غَيرهَا وَأَن غَيرهَا لَا يَكْفِي عَنْهَا.

والآثام بِاعْتِبَار الْملَّة على قسمَيْنِ صغائر وكبائر

والكبائر مَالا يصدر إِلَّا بغاشية عَظِيمَة من الْبَهِيمَة أَو السبعية أَو الشيطنة وَفِيه انسداد سَبِيل الْحق، وهتك حُرْمَة شَعَائِر الله أَو مُخَالفَة الارتفاقات الضرورية، وَالضَّرَر الْعَظِيم بِالنَّاسِ، وَيكون مَعَ ذَلِك منابذا للشَّرْع لِأَن الشَّرْع نهى عَنهُ أَشد نهي، وَغلظ التهديد على فَاعله، وَجعله كَأَنَّهُ خُرُوج من الْملَّة.

والصغائر مَا كَانَ دون ذَلِك من دواعي الشَّرّ ومفضيات إِلَيْهِ، وَقد ظهر نهي الشَّرْع عَنهُ حتما، وَلَكِن لم يغلظ فِيهِ ذَلِك التَّغْلِيظ.

وَالْحق أَن الْكَبَائِر لَيست محصورة فِي عدد، وَأَنَّهَا تعرف بإيعاد النَّار فِي الْكتاب وَالسّنة الصَّحِيحَة وَشرع الْحَد عَلَيْهِ، وتسميته كَبِيرَة، وَجعله خُرُوجًا عَن الدّين، وَكَون الشَّيْء أَكثر مفْسدَة مِمَّا نَص النَّبِي صلى الله عليه وسلم على كَونه كَبِيرَة أَو مثلهَا فِي الْمفْسدَة.

وَقَوله صلى الله عليه وسلم: " لَا يَزْنِي الزَّانِي حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤمن " الحَدِيث مَعْنَاهُ أَن هَذِه الْأَفْعَال لَا تصدر إِلَّا بغاشية عَظِيمَة من البهيمية أَو السبعية، فَتَصِير حِينَئِذٍ الملكية كَأَن لم تكن وَالْإِيمَان كَأَنَّهُ زائل - دلّ بذلك على كَونهَا كَبَائِر.

قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم: " وَالَّذِي نفس مُحَمَّد بِيَدِهِ لَا يسمع بِهِ أحد من هَذِه الْأمة يَهُودِيّ وَلَا نَصْرَانِيّ ثمَّ يَمُوت وَلم يُؤمن بِالَّذِي أرْسلت بِهِ إِلَّا كَانَ من أَصْحَاب النَّار ". أَقُول: يَعْنِي من بلغته الدعْوَة، ثمَّ أصر على الْكفْر حَتَّى مَاتَ دخل النَّار، لِأَنَّهُ نَاقض تَدْبِير الله تَعَالَى لِعِبَادِهِ، وَمكن من نَفسه لعنة الله وَالْمَلَائِكَة المقربين، وَأَخْطَأ الطَّرِيق الكاسب للنجاة.

ص: 280

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " لَا يُؤمن أحدكُم حَتَّى أكون أحب إِلَيْهِ من وَالِده وَولده وَالنَّاس أَجْمَعِينَ " وَقَالَ: " حَتَّى يكون هَوَاهُ تبعا لما جِئْت بِهِ ". أَقُول: كَمَال الْإِيمَان أَن يغلب الْعقل على الطَّبْع بِحَيْثُ يكون مُقْتَضى الطَّبْع بَادِي الْأَمر - وَكَذَلِكَ الْحَال فِي حب الرَّسُول - ولعمري هَذَا مشهود فِي الكاملين.

قيل يَا رَسُول الله: قل لي فِي الْإِسْلَام قولا لَا أسأَل عَنهُ أحدا بعْدك - وَفِي رِوَايَة - غَيْرك، قَالَ:" قل آمَنت بِاللَّه ثمَّ اسْتَقِم " أَقُول: مَعْنَاهُ أَن يحضر الْإِنْسَان بَين عَيْنَيْهِ حَالَة الانقياد وَالْإِسْلَام ثمَّ يعْمل مَا يُنَاسِبه، وَيتْرك مَا يُخَالِفهُ، وَهَذَا قَول كلي يصير بِهِ الْإِنْسَان على بَصِيرَة من الشَّرَائِع " وَإِن لم يكن نفضيلا، فَلَا يَخْلُو من علم إجمالي يَجْعَل الْإِنْسَان سَابِقًا.

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " مَا من أحد يشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله صدقا من قلبه إِلَّا حرمه الله على النَّار " وَقَوله صلى الله عليه وسلم: " وَإِن زنى وَإِن سرق " وَقَوله صلى الله عليه وسلم: " على مَا كَانَ من عمل " أَقُول مَعْنَاهُ حرمه الله على النَّار الشَّدِيدَة المؤبدة الَّتِي أعدهَا للْكَافِرِينَ وَإِن عمل الْكَبَائِر.

والنكتة فِي سوق الْكَلَام هَذَا السِّيَاق، أَن مَرَاتِب الأثم بَينهَا تفَاوت بَين، وَإِن كَانَ يجمعها كلهَا اسْم الأثم، فالكبائر إِذا قيست بالْكفْر لم يكن لَهَا قدر محسوس، وَلَا تَأْثِير يعْتد بِهِ، وَلَا سَبَبِيَّة لدُخُول النَّار تسمى سَبَبِيَّة وَكَذَلِكَ الصَّغَائِر بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكَبَائِر، فَبين النَّبِي صلى الله عليه وسلم الْفرق بَينهَا على آكِد وَجه بِمَنْزِلَة الصِّحَّة والسقم، فَإِن الْأَعْرَاض الْبَادِيَة كالزكام وَالنّصب إِذا قيست إِلَى سوء المزاج المتمكن كالجذام والسل وَالِاسْتِسْقَاء يحكم عَلَيْهَا بِأَنَّهَا صِحَة وَأَن صَاحبهَا لَيْسَ بمريض وَأَن لَيْسَ بِهِ قلبة - وَرب داهية تنسي داهية - كمن أَصَابَهُ شَوْكَة ثمَّ وتر أَهله وَمَاله، قَالَ: لم يكن بِي مُصِيبَة قبل أصلا.

وَقَوله صلى الله عليه وسلم: " إِن إِبْلِيس يضع عَرْشه على المَاء، ثمَّ يبْعَث سراياه يفتنون النَّاس " الحَدِيث

ص: 281

اعْلَم أَن الله تَعَالَى خلق الشَّيَاطِين وجبلهم على الاغواء بِمَنْزِلَة الدُّود الَّتِي تفعل أفعالا بِمُقْتَضى مزاجها - كالجعل يَده هده الحرأة - وَأَن لَهُم رَئِيسا يضع عَرْشه على المَاء، ويدعوهم لتكميل مَا هم قبله قد اسْتوْجبَ أتم الشقاوة وأوفر الضلال، وَهَذِه سنة الله فِي كل نوع وَفِي كل صنف وَلَيْسَ فِي هَذَا مجَاز، وَقد تحققت من ذَلِك مَا يكون بِمَنْزِلَة الرُّؤْيَة بِالْعينِ.

قَوْله صلى الله عليه وسلم: " الْحَمد لله الَّذِي رد أمره إِلَى الوسوسة "

وَقَوله صلى الله عليه وسلم: " إِن الشَّيْطَان قد أيس من أَن يعبده الْمُسلمُونَ فِي جَزِيرَة الْعَرَب وَلَكِن فِي التحريش بَينهم ".

وَقَوله صلى الله عليه وسلم: " ذَاك صَرِيح الْإِيمَان ".

اعْلَم أَن تَأْثِير وَسْوَسَة الشَّيَاطِين يكون مُخْتَلفا بِحَسب استعداد الموسوس إِلَيْهِ، فأعظم تَأْثِيره الْكفْر وَالْخُرُوج من الْملَّة، فَإِذا عصم الله من ذَلِك بِقُوَّة الْيَقِين انْقَلب تَأْثِيره فِي صُورَة أُخْرَى، وَهِي المقاتلات وَفَسَاد تَدْبِير الْمنزل والتحريش بَين أهل الْبَيْت وَأهل الْمَدِينَة، ثمَّ إِذا عصم الله من ذَلِك أَيْضا صَار خاطرا يَجِيء، وَيذْهب، وَلَا يبْعَث النَّفس إِلَى عمل لضعف أَثَره - وَهَذَا لَا يضر، بل إِذا اقْترن باعتقاد قبح ذَلِك كَانَ دَلِيلا على صَرَاحَة الْإِيمَان، نعم أَصْحَاب النُّفُوس القدسية لَا يَجدونَ شَيْئا من ذَلِك، وَهُوَ قَوْله صلى الله عليه وسلم:" إِلَّا أَن الله أعانني عَلَيْهِ فَأسلم فَلَا يَأْمُرنِي إِلَّا بِخَير " وَإِنَّمَا مثل هَذِه التأثيرات مثل شُعَاع الشَّمْس يُؤثر فِي الْحَدِيد والأجسام الصقيلة مَا لَا يُؤثر فِي غَيرهَا، ثمَّ وَثمّ.

وَقَوله صلى الله عليه وسلم: " إِن للشَّيْطَان لمة وللملك لمة " الحَدِيث

الْحَاصِل أَن صُورَة تَأْثِير الْمَلَائِكَة فِي نشأة الخواطر الْأنس وَالرَّغْبَة فِي الْخَيْر وتأثير الشَّيَاطِين فِيهَا الوحشة وقلق الخاطر وَالرَّغْبَة فِي الشَّرّ.

ص: 282

قَوْله صلى الله عليه وسلم: " من وجد من ذَلِك شَيْئا فَلْيقل آمَنت

بِاللَّه وَرَسُوله، وَقَوله صلى الله عليه وسلم:" فليستعذ بِاللَّه وليتفل عَن يسَاره " سره أَن الالتجاء إِلَى الله وتذكره وتقبيح حَال الشَّيَاطِين وإهانة أَمرهم يصرف وَجه النَّفس عَنْهُم، ويصد عَن قبُول أَثَرهم، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:{إِن الَّذين اتَّقوا إِذا مسهم طائف من الشَّيْطَان تَذكرُوا فَإِذا هم مبصرون} .

وَقَوله صلى الله عليه وسلم: " احْتج آدم ومُوسَى عِنْد ربهما ".

أَقُول معنى قَوْله: عِنْد ربهما " أَن روح مُوسَى عليه السلام انجذبت إِلَى حَظِيرَة الْقُدس، فوافت هُنَالك آدم.

وبطن هَذِه الْوَاقِعَة وسرها أَن الله فتح على مُوسَى علما على لِسَان آدم عليهما السلام شبه مَا يرى النَّائِم فِي مَنَامه ملكا أَو رجلا من الصَّالِحين يسْأَله، ويراجعه الْكَلَام حَتَّى يفِيء عَنهُ بِعلم لم يكن عِنْده. وَهَهُنَا علم دَقِيق كَانَ قد خَفِي على مُوسَى عليه السلام حَتَّى كشفه الله عَلَيْهِ فِي هَذِه الْوَاقِعَة. وَهُوَ أَنه اجْتمع فِي قصَّة آدم عليه السلام وَجْهَان.

أَحدهمَا مِمَّا يَلِي خويصة نفس آدم عليه السلام، وَهُوَ أَنه كَانَ مَا لم يَأْكُل الشَّجَرَة لَا يظمأ وَلَا يضحى، وَلَا يجوع وَلَا يعرى - وَكَانَ بِمَنْزِلَة الْمَلَائِكَة فَلَمَّا أكل غلبت البهيمية، وكمنت الملكية، فَلَا جرم أَن أكل الشَّجَرَة إِثْم يجب الاسْتِغْفَار عَنهُ.

وَثَانِيهمَا مِمَّا يَلِي التَّدْبِير الْكُلِّي الَّذِي قَصده الله تَعَالَى فِي خلق الْعَالم

وأوحاه إِلَى الْمَلَائِكَة قبل أَن يخلق آدم وَهُوَ أَن الله تَعَالَى أَرَادَ بخلقه أَن يكون نوع الْإِنْسَان خَليفَة فِي الأَرْض يُذنب، ويستغفر، فَيغْفر لَهُ، ويتحقق فيهم التَّكْلِيف وَبعث الرُّسُل وَالثَّوَاب وَالْعَذَاب ومراتب الْكَمَال والضلال، وَهَذِه نشأة عَظِيمَة على حدتها، وَكَانَ أكل الشَّجَرَة حسب مُرَاد الْحق ووفق حكمته، وَهُوَ قَوْله صلى الله عليه وسلم:" لَو لم تذنبوا لذهب الله بكم وَجَاء بِقوم آخَرين يذنبون وَيَسْتَغْفِرُونَ فَيغْفر لَهُم " وَكَانَ آدم أول مَا غلبت عَلَيْهِ بهيميته استتر عَلَيْهِ الْعلم الثَّانِي، وأحاط بِهِ الْوَجْه الأول، وَعُوتِبَ عتابا شَدِيدا فِي نَفسه، ثمَّ سرى عَنهُ، ولمع عَلَيْهِ بارق من الْعلم الثَّانِي، ثمَّ لما انْتقل إِلَى حَظِيرَة الْقُدس علم الْحَال أصرح مَا يكون، وَكَانَ مُوسَى عليه السلام يظنّ مَا كَانَ يظنّ آدم عليه السلام حَتَّى فتح الله عَلَيْهِ الْعلم الثَّانِي، وَقد ذكرنَا أَن الوقائع الخارجية يكون لَهَا تَعْبِير كتعبير الْمَنَام وَأَن الْأَمر وَالنَّهْي لَا يكونَانِ جزَافا، بل لَهما استعداد يوجبهما.

ص: 283

قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: " كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة، ثمَّ أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، وَيُنَصِّرَانِهِ، ويمجسانه كَمَا تنْتج الْبَهِيمَة جَمْعَاء هَل تُحِسُّونَ فِيهَا من جَدْعَاء ".

أَقُول اعْلَم أَن الله تَعَالَى أجْرى سنته بِأَن يخلق كل نوع من الْحَيَوَانَات والنباتات وَغَيرهمَا على شكل خَاص بِهِ، فَخص الْإِنْسَان مثلا بِكَوْنِهِ بَادِي الْبشرَة مستوي الْقَامَة عريض الْأَظْفَار ناطقا ضَاحِكا، وبتلك الْخَواص يعرف أَنه إِنْسَان اللَّهُمَّ إِلَّا أَن تخرق الْعَادة فَرد نَادِر كَمَا ترى أَن بعض المولودات يكون لَهُ خرطوم أَو حافر فَكَذَلِك أجْرى سنته أَن يخلق فِي كل نوع قسطا من الْعلم والإدراك محدودا بِحَدّ مَخْصُوصًا بِهِ لَا يُوجد فِي غَيره مطردا فِي أَفْرَاده، فَخص النَّحْل بِإِدْرَاك

الْأَشْجَار الْمُنَاسبَة لَهَا، ثمَّ اتِّخَاذ الأكنان وَجمع الْعَسَل فِيهَا، فَلَنْ ترى فَردا من أَفْرَاد النَّحْل إِلَّا وَهُوَ يدْرك ذَلِك، وَخص الْحمام بِأَنَّهُ كَيفَ يهدر وَكَيف يعشش وَكَيف يزق فِرَاخه، وَكَذَلِكَ خص الله تَعَالَى الْإِنْسَان بِإِدْرَاك زَائِد وعقل مُسْتَوْفِي، ودس فِيهِ معرفَة بارئه وَالْعِبَادَة لَهُ وأنواع مَا يرتفقون بِهِ فِي معاشهم وَهُوَ الْفطْرَة، فَلَو أَنهم لم يمنعهُم مَانع لكبروا عَلَيْهَا، لكنه قد تعترض الْعَوَارِض كاضلال الْأَبَوَيْنِ، فينقلب الْعلم جهلا كَمثل الرهبان يتمسكون بأنواع الْحِيَل، فيقطعون شَهْوَة النِّسَاء والجوع مَعَ أَنَّهُمَا مدسوسان فِي فطْرَة الْإِنْسَان.

وَقَوله صلى الله عليه وسلم: " خلقهمْ لَهَا وهم فِي أصلاب آبَائِهِم - وَقَوله صلى الله عليه وسلم هم من آبَائِهِم " وَقَوله صلى الله عليه وسلم: " الله أعلم بِمَا كَانُوا عاملين " وَقَوله صلى الله عليه وسلم فِي مَنَامه الطَّوِيل: " نسم ذُرِّيَّة بني آدم تكون عِنْد إِبْرَاهِيم عليه السلام ". اعْلَم أَن الْأَكْثَر أَن يُولد الْوَلَد على الْفطْرَة كَمَا مر، لَكِن قد يخلق بِحَيْثُ يسْتَوْجب اللَّعْن بِلَا عمل كَالَّذي قَتله الْخضر طبع كَافِرًا، وَأما من آبَائِهِم فَمَحْمُول على أَحْكَام الدُّنْيَا، وَلَيْسَ أَن التَّوَقُّف فِي النواميس إِنَّمَا يكون لعدم الْعلم، بل قد يكون لعدم انضباط الْأَحْكَام بمظنة ظَاهِرَة أَو لعدم الْحَاجة إِلَى بَيَانه أَو غموض فِيهِ بِحَيْثُ لَا يفهمهُ المخاطبون.

ص: 284

قَوْله صلى الله عليه وسلم: " بِيَدِهِ الْمِيزَان أَن يخْفض وَيرْفَع " أَقُول: هَذَا إِشَارَة إِلَى التَّدْبِير، فَإِن مبناه على اخْتِيَار الأوفق بِالْمَصْلَحَةِ، فَمَا من حَادِثَة يجْتَمع فِيهَا أَسبَاب متنازعة إِلَّا وَيَقْضِي الله فِي ذَلِك مَا هُوَ عدل، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {كل يَوْم هُوَ فِي شَأْن} .

قَوْله صلى الله عليه وسلم: " إِن قُلُوب بني آدم كلهَا بَين أصبعين من

من أَصَابِع الرَّحْمَن " وَقَوله صلى الله عليه وسلم: " مثل الْقلب كريشة بِأَرْض فلاة تقلبها الرِّيَاح ظهرا لبطن " أَقُول: أَفعَال الْعباد اختيارية، لَكِن لَا اخْتِيَار لَهُم فِي ذَلِك الِاخْتِيَار، وَإِنَّمَا مثله كَمثل رجل أَرَادَ أَن يَرْمِي حجرا، فَلَو أَنه كَانَ قَادِرًا حكيما خلق فِي الْحجر اخْتِيَار الْحَرَكَة أَيْضا، وَلَا يرد عَلَيْهِ أَن الْأَفْعَال إِذا كَانَت مخلوقة لله تَعَالَى، وَكَذَلِكَ الِاخْتِيَار فَفِيمَ الْجَزَاء، لِأَن معنى الْجَزَاء يرجع إِلَى ترَتّب بعض أَفعَال الله تَعَالَى على الْبَعْض، بِمَعْنى أَن الله تَعَالَى خلق هَذِه الْحَالة فِي العَبْد فَاقْتضى ذَلِك فِي حكمته أَن يخلق فِيهِ حَالَة أُخْرَى من النِّعْمَة أَو الْأَلَم كَمَا أَنه يخلق فِي المَاء حرارة، فَيَقْتَضِي ذَلِك أَن يكسوه صُورَة الْهَوَاء، وَإِنَّمَا يشْتَرط وجود الِاخْتِيَار وَكسب العَبْد فِي الْجَزَاء بِالْعرضِ لَا بِالذَّاتِ، وَذَلِكَ لِأَن النَّفس الناطقة لَا تقبل لون الْأَعْمَال الَّتِي لَا تستند إِلَيْهَا، بل إِلَى غَيرهَا من جِهَة الْكسْب، وَلَا الْأَعْمَال الَّتِي لَا تستند إِلَى اخْتِيَارهَا وقصدها، وَلَيْسَ فِي حِكْمَة الله أَن يجازى العَبْد بِمَا لم تقبل نَفسه الناطقة لَونه، فَإِذا كَانَ الْأَمر على ذَلِك كفى هَذَا الِاخْتِيَار غير المستقل فِي الشّرطِيَّة إِذا كَانَ مصححا لقبُول لون الْعَمَل، وَهَذَا الْكسْب غير المستقل إِذا كَانَ مصححا لتخصيص هَذَا العَبْد بِخلق الْحَالة الْمُتَأَخِّرَة فِيهِ دون غَيره، وَهَذَا تَحْقِيق شرِيف مَفْهُوم من كَلَام الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فاحفظه.

قَوْله صلى الله عليه وسلم: " إِن الله خلق خلقه فِي ظلمَة فَألْقى عَلَيْهِم من نوره فَمن أَصَابَهُ من ذَلِك النُّور اهْتَدَى وَمن أخطأه ضل " فَلذَلِك أَقُول: جف الْقَلَم على علم الله، مَعْنَاهُ أَنه قدرهم قبل أَن يخلقوا، فَكَانُوا هُنَالك عُرَاة عَن الْكَمَال فِي حد أنفسهم، فاستوجبوا أَن يبْعَث إِلَيْهِم، وَينزل عَلَيْهِم، فاهتدى بعض مِنْهُم، وضل آخَرُونَ وَقدر جَمِيع ذَلِك مرّة وَاحِدَة، لَكِن كَانَ لما من أنفسهم تقدم على مَا لَهُم يبْعَث الرُّسُل، كَقَوْلِه صلى الله عليه وسلم رِوَايَة عَن الله تَعَالَى:" كلكُمْ جَائِع إِلَّا من أطعمته، وكلكم ضال إِلَّا من هديته " أَو نقُول: هَذَا إِشَارَة إِلَى وَاقعَة مثل وَاقعَة إِخْرَاج ذُرِّيَّة آدم عليه السلام.

قَوْله صلى الله عليه وسلم: " إِذا قضى الله لعبد أَن يَمُوت بِأَرْض جعل لَهُ إِلَيْهَا حَاجَة " أَقُول: فِيهِ إِشَارَة إِلَى أَن بعض الْحَوَادِث تُوجد لِئَلَّا ينخرم نظام الْأَسْبَاب، فَإِن لم يكن اسْتهلّ من إلهام أَو بعث تقريب لَا بُد أَن يظْهر ذَلِك

ص: 285

قَالَ صلى الله عليه وسلم: " كتب الله مقادير الْخَلَائق قبل أَن يخلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض بِخَمْسِينَ ألف سنة وَكَانَ عَرْشه على المَاء " أَقُول: خلق الله تَعَالَى الْعَرْش وَالْمَاء أول مَا خلق، ثمَّ خلق جَمِيع مَا أَرَادَ أَن يُوجد فِي قُوَّة من قوى الْعَرْش يشبه الخيال من قوانا، وَهُوَ الْمعبر عَنهُ بِالذكر على مَا بَينه الإِمَام الْغَزالِيّ - وَلَا تَظنن ذَلِك مُخَالفا للسّنة - فَإِنَّهُ لم يَصح عِنْد أهل الْمعرفَة بِالْحَدِيثِ من بَيَان صُورَة الْقَلَم واللوح على مَا يلهج بِهِ الْعَامَّة شَيْء يعْتد بِهِ، وَالَّذِي يَرْوُونَهُ هُوَ من الاسرائيليات وَلَيْسَ من الْأَحَادِيث المحمدية، وَذَهَاب الْمُتَأَخِّرين من أهل الحَدِيث إِلَى مثله نوع من التعمق وَلَيْسَ للْمُتَقَدِّمين فِي ذَلِك كَلَام. وَبِالْجُمْلَةِ فتحققت هُنَالك صُورَة هَذِه السلسلة بِتَمَامِهَا عبر عَنهُ بِالْكِتَابَةِ أخذا من إِطْلَاق الْكِتَابَة فِي السياسة المدنية على التَّعْيِين والإيجاب، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى:{كتب عَلَيْكُم الصّيام} .

وَقَوله تَعَالَى: {كتب عَلَيْكُم إِذا حضر} . الْآيَة

وَقَوله صلى الله عليه وسلم: " إِن الله كتب على عَبده حَظه من

من الزِّنَا " الحَدِيث، وَقَول الصَّحَابِيّ: كتبت فِي غَزْوَة كَذَا وَلم يكن هُنَاكَ ديوَان كَمَا ذكره كَعْب بن مَالك، وَنَظِير ذَلِك فِي أشعار الْعَرَب كثير جدا، وَذكر - خمسين ألف سنة - يحْتَمل أَن يكون تعيينا وَيحْتَمل أَن يكون بَيَانا لطول الْمدَّة.

قَوْله صلى الله عليه وسلم: " إِن الله خلق آدم، ثمَّ مسح ظَهره بِيَمِينِهِ " الحَدِيث أَقُول لما خلق الله آدم ليَكُون أَبَا للبشر. التف فِي وجوده حقائق بنيه، فَأعْطَاهُ الله تَعَالَى وقتا من أوقاته، علم مَا تضمنه وجوده بِحَسب الْقَصْد الألهي، فَأرَاهُ إيَّاهُم رأى عين بِصُورَة مثالية، وَمثل سعادتهم وشقاوتهم بِالنورِ والظلمة، وَمثل مَا جبلهم عَلَيْهِ من استعداد التَّكْلِيف بالسؤال وَالْجَوَاب والالتزام على أنفسهم، فهم يؤاخذون بِأَصْل استعدادهم، وتنسب الْمُؤَاخَذَة إِلَى شبحه فِي الظَّاهِر.

ص: 286

قَوْله صلى الله عليه وسلم: " إِن خلق أحدكُم يجمع فِي بطن أمه " الحَدِيث أَقُول: هَذَا الِانْتِقَال تدريجي غير دفعي، وكل حد يباين السَّابِق واللاحق، وَيُسمى مَا لم يتَغَيَّر من صُورَة الدَّم تغيرا فَاحِشا - نُطْفَة - وَمَا فِيهِ انجماد ضَعِيف - علقَة وَمَا فِيهِ انجماد أَشد من ذَلِك - مُضْغَة وَإِن كَانَ فِيهِ عظم رخو، وكما أَن النواة إِذا ألقيت فِي الأَرْض وَذَلِكَ فِي وَقت مَعْلُوم، وأحاط بهَا تَدْبِير مَعْلُوم علم المطلع على خاصية نوع النّخل وخاصية تِلْكَ الأَرْض وَذَلِكَ المَاء وَذَلِكَ الْوَقْت أَنه يحسن نباتها ويتحقق من شَأْنه على بعض الْأَمر، فَكَذَلِك يجلي الله على بعض الْمَلَائِكَة حَال الْمَوْلُود بِحَسب الجبلة الَّتِي جبل عَلَيْهَا.

وَقَوله صلى الله عليه وسلم: " مَا مِنْكُم من أحد إِلَّا وَقد كتب لَهُ مَقْعَده من النَّار ومقعده من الْجنَّة " أَقُول: كل صنف من أَصْنَاف النَّفس لَهُ كَمَال ونقصان، عَذَاب وثواب، وَيحْتَمل أَن يكون الْمَعْنى إِمَّا من الْجنَّة وَإِمَّا من النَّار، وَقَوله تَعَالَى:{وَإِذا أَخذ رَبك من بني آدم} . الْآيَة

لَا يُخَالف حَدِيث " ثمَّ مسح ظَهره بِيَمِينِهِ واستخرج مِنْهُ ذُريَّته " لِأَن آدم أخذت عَنهُ ذُريَّته وَمن ذُريَّته ذُرِّيتهمْ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة على التَّرْتِيب الَّذِي يوجدون عَلَيْهِ، فَذكر فِي الْقُرْآن بعض الْقِصَّة وَبَين الحَدِيث تتمتها، قَوْله تَعَالَى:{فَأَما من أعْطى وَاتَّقَى وَصدق بِالْحُسْنَى} .

أَي من كَانَ متصفا بِهَذِهِ الصِّفَات فِي علمنَا وقدرنا (فسنسيره) لتِلْك الْأَعْمَال فِي الْخَارِج، وَبِهَذَا التَّوْجِيه ينطبق عَلَيْهِ الحَدِيث.

قَوْله تَعَالَى: {وَنَفس وَمَا سواهَا فألهمها فجورها وتقواها} .

أَقُول المُرَاد بالإلهام هُنَا خلق صُورَة الْفُجُور فِي النَّفس كَمَا سبق فِي حَدِيث ابْن مَسْعُود، فالإلهام فِي الأَصْل خلق الصُّورَة العلمية الَّتِي يصير بهَا عَالما، ثمَّ نقل إِلَى صُورَة إجمالية هِيَ مبدأ آثَار، وَإِن لم يصر بهَا عَالما تجوزا، وَالله أعلم.

ص: 287