الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يحصل الْعَذَاب، وَهَذِه الْمرتبَة أعظم الْكَبَائِر قد انْعَقَد فِي حَظِيرَة الْقُدس تَحْرِيمهَا، وَلعن صَاحبهَا، وَلم يزل الْأَنْبِيَاء يترجمون مَا انْعَقَد هُنَالك، وأكثرها مجمع عَلَيْهِ فِي الشَّرَائِع.
الْمرتبَة الرَّابِعَة مَعْصِيّة الشَّرَائِع والمناهج الْمُخْتَلفَة باخْتلَاف الْأُمَم والأعصار وَذَلِكَ أَن الله تَعَالَى إِذا بعث نَبيا إِلَى قوم؛ ليخرجهم من الظُّلُمَات إِلَى النُّور، وليقيم عوجهم؛ وليسوسهم أحسن السياسة - كَانَ بَعثه متضمنا لإِيجَاب مَا لَا يُمكن إِقَامَة عوجهم وسياستهم إِلَّا بِهِ، فَلِكُل مقصد مَظَنَّة أكثرية أَو دائمة يجب أَن يؤاخذوا عَلَيْهَا، ويخاطبوا بهَا، وللتوقيت قوانين توجبه، وَرب أَمر يكون دَاعيا إِلَى مفْسدَة أَو مصلحَة فيؤمرون حَسْبَمَا يدعونَ إِلَيْهِ، وَمن ذَلِك مَا هُوَ مَأْمُور أَو مَنْهِيّ عَنهُ حتما، وَمِنْه مَا هُوَ مَأْمُور أَو مَنْهِيّ عَنهُ من غير عزم " واقل ذَلِك مَا نزل بِهِ الْوَحْي الظَّاهِر، وَأَكْثَره مَالا يُثبتهُ إِلَّا اجْتِهَاد النَّبِي صلى الله عليه وسلم.
الْمرتبَة الْخَامِسَة مَا لم ينص عَلَيْهِ الشَّارِع وَلم ينْعَقد فِي الْمَلأ الْأَعْلَى حكمه لَكِن توجه عبد إِلَى الله بِمَجَامِع همته فاعتراه شَيْء يَظُنّهُ مَمْنُوعًا عَنهُ، أَو مَأْمُورا بِهِ من قبل قِيَاس، أَو تَخْرِيج، أَو نَحْو ذَلِك، كَمَا يظْهر للعوام تَأْثِير بعض الْأَدْوِيَة من قبل تجربة نَاقِصَة أَو دوران حكم الطَّبِيب الحاذق على عِلّة، وَلَا يعلمُونَ وَجه التَّأْثِير، وَلَا ينص عَلَيْهِ الطَّبِيب، فَلَا يخرج مثل هَذَا الْإِنْسَان من الْعهْدَة حَتَّى يَأْخُذ بِالِاحْتِيَاطِ، وَإِلَّا كَانَ بَينه وَبَين ربه حجاب فِيمَا يظنّ فيؤاخذ بظنه.
وأصل المرضى فِي هَذِه الْمرتبَة أَن يهمل أمرهَا، وَلَا يلْتَفت إِلَيْهَا، غير أَن فِي الْوُجُود أنفًا يستوجبون ذَلِك فيوفر عَلَيْهِم الْجواد مَا استوجبوه وفيهَا قَوْله تَعَالَى:" أَنا عِنْد ظن عَبدِي بِي " وَقَوله تَعَالَى فِي الْقُرْآن الْعَظِيم:
{ورهبانية ابتدعوها مَا كتبناها عَلَيْهِم إِلَّا ابْتِغَاء رضوَان الله}
وَقَوله صلى الله عليه وسلم: " لَا تشددوا فيشدد الله عَلَيْكُم " وَقَوله صلى الله عليه وسلم: " الْإِثْم مَا حاك فِي صدرك " وَيلْحق بهَا مَعْصِيّة حكم مُجْتَهد فِيهِ إِذا كَانَ مُقَلدًا مجمعا تَقْلِيد من يرى ذَلِك و، الله أعلم.
(بَاب مفاسد الآثام)
وَاعْلَم أَن الْكَبِيرَة وَالصَّغِيرَة تطلقان باعتبارين: أَحدهمَا بِحَسب حِكْمَة الْبر وَالْإِثْم، وَثَانِيهمَا بِحَسب الشَّرَائِع والمناهج المختصة بعصر دون عصر.
أما الْكَبِيرَة بِحَسب حِكْمَة الْبر وَالْإِثْم، فَهِيَ ذَنْب يُوجب الْعَذَاب فِي الْقَبْر وَفِي
الْمَحْشَر إِيجَابا قَوِيا، وَيفْسد الارتفاقات الصَّالِحَة إفسادا قَوِيا، وَيكون من الْفطْرَة على الطّرف الْمُخَالف جدا.
وَالصَّغِيرَة مَا كَانَ مَظَنَّة لبَعض ذَلِك، أَو مفضيا إِلَيْهِ فِي الْأَكْثَر أَو يُوجب بعض ذَلِك من وَجه، وَلَا يُوجِبهُ من وَجه، كمن ينْفق فِي سَبِيل الله، وَأَهله جِيَاع، فَيدْفَع رذيلة الْبُخْل، وَيفْسد تَدْبِير الْمنزل.
وَأما بِحَسب الشَّرَائِع الْخَاصَّة، فَمَا نصت الشَّرِيعَة على تَحْرِيمه أَو أَو عد الشَّارِع عَلَيْهِ بالنَّار، أَو شرع عَلَيْهِ حدا، أَو سمى مرتكبة كَافِرًا خَارِجا من الْملَّة إبانة لقبحه وتغليظا لأَمره، فَهُوَ كَبِيرَة، وَرُبمَا يكون شَيْء صَغِيرَة
بِحَسب حِكْمَة الْبر وَالْإِثْم، كَبِيرَة بِحَسب الشَّرِيعَة، وَذَلِكَ أَن الْملَّة الْجَاهِلِيَّة رُبمَا ارتكبت شَيْئا حَتَّى فَشَا الرَّسْم بِهِ فيهم لَا يخرج مِنْهُم إِلَّا أَن تتقطع قُلُوبهم، ثمَّ جَاءَ الشَّرْع ناهيا عَنهُ، فَحصل مِنْهُم لجاج ومكابرة، وَحصل من الشَّرْع تَغْلِيظ وتهديد بِحَسب ذَلِك حَتَّى صَار ارتكابها كالمناوأة الشَّدِيدَة للملة، وَلَا يَتَأَتَّى الْإِقْدَام عَليّ مثله إِلَّا من كل مارد متمرد لَا يستحي من الله وَلَا من النَّاس، فَكتب كَبِيرَة عِنْد ذَلِك.
وَبِالْجُمْلَةِ فَنحْن نؤخر الْكَلَام فِي الْكَبَائِر بِحَسب الشَّرِيعَة إِلَى الْقسم الثَّانِي من هَذَا الْكتاب لِأَن ذَلِك مَوْضِعه، وننبه على مفاسد الْكَبَائِر بِحَسب حِكْمَة الْبر والاثم هَهُنَا كَمَا فعلنَا فِي أَنْوَاع الْبر نَحوا من ذَلِك.
وَقد اخْتلف النَّاس فِي الْكَبِيرَة إِذا مَاتَ العَاصِي عَلَيْهَا، وَلم يتب هَل يجوز أَن يعْفُو الله عَنهُ أَولا؟ وَجَاء كل فرقة بأدلة من الْكتاب وَالسّنة، وَحل الِاخْتِلَاف عِنْدِي أَن أَفعَال الله تَعَالَى على وَجْهَيْن: مِنْهَا الْجَارِيَة على الْعَادة المستمرة، وَمِنْهَا الخارقة للْعَادَة، والقضايا الَّتِي يتَكَلَّم بهَا النَّاس موجهة بجهتين: إِحْدَاهمَا فِي الْعَادة: وَالثَّانيَِة مُطلقًا، وَشرط التَّنَاقُض اتِّحَاد الْجِهَة مثل مَا قَرَّرَهُ المنطقيون فِي القضايا الموجهة، وَقد تحذف الْجِهَة فَيجب اتِّبَاع الْقَرَائِن، فقولنا كل من تنَاول السم مَاتَ مَعْنَاهُ بِحَسب الْعَادة المستمرة، وَقَوْلنَا لَيْسَ كل من تنَاول السم مَاتَ مَعْنَاهُ بِحَسب خرق الْعَادة، فَلَا تنَاقض،
وكما أَن لله تَعَالَى فِي الدُّنْيَا أفعالا خارقة وأفعالا جَارِيَة على الْعَادة، فَكَذَلِك فِي الْمعَاد أَفعَال خارقة وعادية، أما الْعَادة المستمرة فَإِن يُعَاقب العَاصِي إِذا مَاتَ من غير تَوْبَة زَمَانا طَويلا، وَقد تخرق الْعَادة وَكَذَلِكَ حَال حُقُوق الْعباد، وَأما خُلُود صَاحب الْكَبِيرَة فِي الْعَذَاب، فَلَيْسَ بِصَحِيح وَلَيْسَ من حِكْمَة الله أَن يفعل بِصَاحِب الْكَبِيرَة مثل مَا يفعل يَا الْكَافِر سَوَاء وَالله أعلم.