المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(باب حقيقة النبوة وخواصها) - حجة الله البالغة - جـ ١

[ولي الله الدهلوي]

فهرس الكتاب

- ‌(بَاب الإبداع والخلق وَالتَّدْبِير)

- ‌(بَاب ذكر عَالم الْمِثَال)

- ‌(بَاب ذكر الْمَلأ الْأَعْلَى)

- ‌(بَاب ذكر سنة الله الَّتِي أُشير إِلَيْهَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلنْ تَجِد لسنة الله تبديلا} )

- ‌(بَاب حَقِيقَة الرّوح)

- ‌(بَاب سر التَّكْلِيف)

- ‌(بَاب انْشِقَاق التَّكْلِيف من التَّقْدِير)

- ‌(بَاب اقْتِضَاء التَّكْلِيف المجازاة)

- ‌(بَاب اخْتِلَاف النَّاس فِي جبلتهم المستوجب لاخْتِلَاف أَخْلَاقهم وأعمالهم ومراتب كمالهم)

- ‌(بَاب فِي أَسبَاب الخواطر الباعثة على الْأَعْمَال)

- ‌(بَاب لصوق الْأَعْمَال بِالنَّفسِ وأحصائها عَلَيْهَا)

- ‌(بَاب ارتباط الْأَعْمَال بالهيئات النفسانية)

- ‌(بَاب أَسبَاب المجازاة)

- ‌(المبحث الثَّانِي)

- ‌(مَبْحَث كَيْفيَّة المجازاة فِي الْحَيَاة وَبعد الْمَمَات)

- ‌(بَاب الْجَزَاء على الْأَعْمَال فِي الدُّنْيَا)

- ‌(بَاب ذكر حَقِيقَة الْمَوْت)

- ‌(بَاب اخْتِلَاف أَحْوَال النَّاس فِي البرزخ)

- ‌(بَاب ذكر شَيْء من أسرار الوقائع الحشرية)

- ‌(المبحث الثَّالِث)

- ‌(مَبْحَث الارتفاقات)

- ‌(بَاب كَيْفيَّة استنباط الارتفاقات)

- ‌(بَاب الارتفاق الأول)

- ‌(بَاب فن أداب المعاش)

- ‌(بَاب تَدْبِير الْمنزل)

- ‌(بَاب فن الْمُعَامَلَات)

- ‌(بَاب سياسة الْمَدِينَة)

- ‌(بَاب سيرة الْمُلُوك)

- ‌(بَاب سياسة الأعوان)

- ‌(بَاب الارتفاق الرَّابِع)

- ‌(بَاب اتِّفَاق النَّاس على أصُول الارتفاقات)

- ‌(بَاب الرسوم السائرة فِي النَّاس)

- ‌(المبحث الرَّابِع)

- ‌(مَبْحَث السَّعَادَة)

- ‌(بَاب حَقِيقَة السَّعَادَة)

- ‌(بَاب اخْتِلَاف النَّاس فِي السَّعَادَة)

- ‌(بَاب توزع النَّاس فِي كَيْفيَّة تَحْصِيل هَذِه السَّعَادَة)

- ‌(بَاب الْأُصُول الَّتِي يرجع إِلَيْهَا تَحْصِيل الطَّرِيقَة الثَّانِيَة)

- ‌(بَاب طَرِيق اكْتِسَاب هَذِه الْخِصَال وتكميل ناقصها ورد فائتها)

- ‌(بَاب الْحجب الْمَانِعَة عَن ظُهُور الْفطْرَة)

- ‌(بَاب طَرِيق رفع هَذِه الْحجب)

- ‌(المبحث الْخَامِس)

- ‌(مَبْحَث الْبر وَالْإِثْم)

- ‌(مُقَدّمَة فِي بَيَان حَقِيقَة الْبر وَالْإِثْم)

- ‌(بَاب التَّوْحِيد)

- ‌(بَاب فِي حَقِيقَة الشّرك)

- ‌(بَاب أَقسَام الشّرك)

- ‌(بَاب الْإِيمَان بِصِفَات الله تَعَالَى)

- ‌(بَاب الْإِيمَان بِالْقدرِ)

- ‌(بَاب الْإِيمَان بِأَن الْعِبَادَة حق الله تَعَالَى على عباده لِأَنَّهُ منعم عَلَيْهِم مجَاز لَهُم بالارادة)

- ‌(بَاب تَعْظِيم شَعَائِر الله تَعَالَى)

- ‌(بَاب أسرار الْوضُوء وَالْغسْل)

- ‌(بَاب أسرار الصَّلَاة)

- ‌(بَاب أسرار الزَّكَاة)

- ‌(بَاب أسرار الصَّوْم)

- ‌(بَاب أسرار الْحَج)

- ‌(بَاب أسرار انواع من الْبر)

- ‌(بَاب طَبَقَات الاثم)

- ‌(بَاب مفاسد الآثام)

- ‌(بَاب فِي الْمعاصِي الَّتِي هِيَ فِيمَا بَينه وَبَين نَفسه)

- ‌(بَاب الآثام الَّتِي هِيَ فِيمَا بَينه وَبَين النَّاس)

- ‌(المبحث السَّادِس)

- ‌(مَبْحَث السياسات الملية)

- ‌(بَاب الْحَاجة إِلَى هداة السبل ومقيمى الْملَل)

- ‌(بَاب حَقِيقَة النُّبُوَّة وخواصها)

- ‌(بَاب بَيَان أَن أصل الدّين وَاحِد والشرائع والمناهج مُخْتَلفَة)

- ‌(بَاب أَسبَاب نزُول الشَّرَائِع الْخَاصَّة بعصر دون عصر وَقوم دون قوم)

- ‌(بَاب أَسبَاب الْمُؤَاخَذَة على المناهج)

- ‌(بَاب أسرار الحكم وَالْعلَّة)

- ‌(بَاب الْمصَالح الْمُقْتَضِيَة لتعيين الْفَرَائِض والأركان والآداب وَنَحْو ذَلِك)

- ‌(بَاب أسرار الْأَوْقَات)

- ‌(بَاب أسرار الْأَعْدَاد والمقادير)

- ‌(بَاب أسرار الْقَضَاء والرخصة)

- ‌(بَاب إِقَامَة الارتفاقات واصلاح الرسوم)

- ‌(بَاب الْأَحْكَام الَّتِي يجر بَعْضهَا لبَعض)

- ‌(بَاب ضبط الْمُبْهم وتميز الْمُشكل والتخريج من الْكُلية وَنَحْو ذَلِك)

- ‌(بَاب التَّيْسِير)

- ‌(بَاب أسرار التَّرْغِيب والترهيب)

- ‌(بَاب طَبَقَات الْأمة بِاعْتِبَار الْخُرُوج إِلَى الْكَمَال الْمَطْلُوب أَو ضِدّه)

- ‌(بَاب الْحَاجة إِلَى دين ينْسَخ الْأَدْيَان)

- ‌(بَاب احكام الدّين من التحريف)

- ‌(بَاب أَسبَاب اخْتِلَاف دين نَبينَا صلى الله عليه وسلم وَدين الْيَهُود والنصرانية)

- ‌(بَاب أَسبَاب النّسخ)

- ‌(بَاب بَيَان مَا كَانَ عَلَيْهِ حَال أهل الْجَاهِلِيَّة فاصلحه النَّبِي صلى الله عليه وسلم

- ‌(المبحث السَّابِع مَبْحَث استنباط الشَّرَائِع من حَدِيث النَّبِي صلى الله عليه وسلم

- ‌(بَاب بَيَان أَقسَام عُلُوم النَّبِي صلى الله عليه وسلم

- ‌(بَاب الْفرق بَين الْمصَالح والشرائع)

- ‌(بَاب كَيْفيَّة تلقي الْأمة الشَّرْع من النَّبِي صلى الله عليه وسلم

- ‌(بَاب طَبَقَات كتب الحَدِيث)

- ‌(بَاب كَيْفيَّة فهم المُرَاد من الْكَلَام)

- ‌(بَاب كَيْفيَّة فهم الْمعَانِي الشَّرْعِيَّة من الْكتاب وَالسّنة)

- ‌(بَاب الْقَضَاء فِي الْأَحَادِيث الْمُخْتَلفَة)

- ‌(تَتِمَّة)

- ‌(بَاب أَسبَاب اخْتِلَاف الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فِي الْفُرُوع)

- ‌(بَاب أَسبَاب اخْتِلَاف مَذَاهِب الْفُقَهَاء)

- ‌(بَاب الْفرق بَين أهل الحَدِيث وَأَصْحَاب الرَّأْي)

- ‌(بَاب حِكَايَة حَال النَّاس قبل الْمِائَة الرَّابِعَة وَبعدهَا)

- ‌(فصل)

- ‌(الْقسم الثَّانِي

- ‌(فِي بَيَان أسرار مَا جَاءَ عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم تَفْصِيلًا)

- ‌(من أَبْوَاب الْإِيمَان)

- ‌(من أَبْوَاب الِاعْتِصَام بِالْكتاب وَالسّنة)

- ‌(من أَبْوَاب الطَّهَارَة)

- ‌(فصل فِي الْوضُوء)

- ‌(صفة الْوضُوء)

- ‌(مُوجبَات الْوضُوء)

- ‌(الْمسْح على الْخُفَّيْنِ)

- ‌(صفة الْغسْل)

- ‌(مُوجبَات الْغسْل)

- ‌(مَا يُبَاح للْجنب والمحدث وَمَا لَا يُبَاح لَهما)

- ‌(التَّيَمُّم)

- ‌(آدَاب الْخَلَاء)

- ‌(خِصَال الْفطْرَة ومأ يتَّصل بهَا)

- ‌(أَحْكَام الْمِيَاه)

- ‌(تَطْهِير النَّجَاسَات)

- ‌(من أَبْوَاب الصَّلَاة)

- ‌(فضل الصَّلَاة)

- ‌(أَوْقَات الصَّلَاة)

- ‌(الْأَذَان)

- ‌(الْمَسَاجِد)

- ‌(ثِيَاب الْمُصَلِّي)

- ‌(الْقبْلَة)

الفصل: ‌(باب حقيقة النبوة وخواصها)

(بَاب حَقِيقَة النُّبُوَّة وخواصها)

اعْلَم أَن أَعلَى طَبَقَات النَّاس المفهمون، وهم نَاس أهل اصْطِلَاح ملكيتهم فِي غَايَة الْعُلُوّ، يُمكن لَهُم أَن ينبعثوا إِلَى إِقَامَة نظام مَطْلُوب بداعية حقانية، ويترشح عَلَيْهِم من الْمَلأ الْأَعْلَى عُلُوم وأحوال إلهية، وَمن سيرة الْمُفْهم أَن يكون معتدل المزاج سوي الْخلق والخلق لَيْسَ فِيهِ خبابة مفرطة بِحَسب الآراء الْجُزْئِيَّة، وَلَا ذكاء مفرط لَا يجذبه من الكلى إِلَى الجزئي، وَمن الرّوح إِلَى الشبح سَبِيلا، وَلَا غباوة مفرطة لَا يتَخَلَّص بهَا إِلَى الكلى، وَمن الشبح إِلَى الرّوح، وَيكون ألزم النَّاس من بِالسنةِ الراشدة ذَا سمت حسن فِي عباداته، ذَا عَدَالَة فِي مُعَامَلَته مَعَ النَّاس، محبا للتدبير الْكُلِّي، رَاغِبًا فِي النَّفْع الْعَام، لَا يُؤْذِي أحدا إِلَّا بِالْعرضِ بِأَن يتَوَقَّف النَّفْع الْعَام عَلَيْهِ أَو يلازمه، لَا يزَال مائلا إِلَى عَالم الْغَيْب، يحس أثر ميله فِي كَلَامه وَوجه وشأنه كُله، يرى أَنه مؤيد من الْغَيْب، ينفتح لَهُ بِأَدْنَى رياضة مَا لَا ينفتح لغيره من الْقرب والسكينة.

والمفهون على أَصْنَاف كَثِيرَة واستعدادات مُخْتَلفَة:

فَمن كَانَ أَكثر حَاله أَن يتلَقَّى من الْحق عُلُوم تَهْذِيب النَّفس بالعبادات فَهُوَ الْكَامِل.

وَمن كَانَ أَكثر حَاله تلقي الْأَخْلَاق الفاضلة وعلوم تَدْبِير الْمنزل وَنَحْو ذَلِك فَهُوَ الْحَكِيم.

وَمن كَانَ أَكثر حَاله تلقي السياسات الْكُلية، ثمَّ وفْق لإِقَامَة الْعدْل فِي النَّاس وذب الْجور عَنْهُم يُسمى خَليفَة، وَمن ألمت بِهِ الْمَلأ الْأَعْلَى، فعلمته وخاطبته، وتراءت لَهُ، وَظَهَرت أَنْوَاع من كراماته يُسمى بالمؤيد بِروح الْقُدس.

وَمن جعل مِنْهُم فِي لِسَانه وَقَلبه نور، فنفع النَّاس بِصُحْبَتِهِ وموعظته، وانتقل مِنْهُ إِلَى حواريين من أَصْحَابه سكينَة وَنور، فبلغوا بواسطته مبالغ الْكَمَال، وَكَانَ حثيثا على هدايتهم يُسمى هاديا مزكيا.

وَمن كَانَ أَكثر علمة وَمَعْرِفَة قَوَاعِد الْملَّة ومصالحها، وَكَانَ حثيثا على إِقَامَة المندرس مِنْهَا يُسمى إِمَامًا.

ص: 155

وَمن نفث فِي قلبه أَن يُخْبِرهُمْ بالداهية الْمقدرَة عَلَيْهِم فِي الدُّنْيَا، أَو تفطن بلعن الْحق قوما، فَأخْبرهُم بذلك، أَو جرد من نَفسه فِي بعض أوقاته، فَعرف مَا سَيكون فِي الْقَبْر والحشر، فَأخْبرهُم بِتِلْكَ الْأَخْبَار يُسمى منذرا.

وَإِذا اقْتَضَت الْحِكْمَة الالهية أَن يبْعَث إِلَى الْخلق وَاحِد من المفهمين، فَيَجْعَلهُ سَببا لخُرُوج النَّاس من الظُّلُمَات إِلَى النَّار، وَفرض الله على عباده أَن يسلمُوا وُجُوههم وَقُلُوبهمْ لَهُ، وتأكد فِي الْمَلأ الْأَعْلَى الرِّضَا عَمَّن انْقَادَ لَهُ، وانضم إِلَيْهِ، واللعن على من خَالفه، وناوأه فَأخْبر النَّاس بذلك، وألزمهم طَاعَته فَهُوَ النَّبِي، وَأعظم الْأَنْبِيَاء شَأْنًا من لَهُ نوع آخر من الْبعْثَة أَيْضا، وَذَلِكَ أَن يكون مُرَاد الله تَعَالَى فِيهِ أَن يكون سَببا لخُرُوج النَّاس من الظُّلُمَات إِلَى النُّور، وَأَن يكون قومه خير أمة أخرجت للنَّاس، فَيكون بَعثه يتَنَاوَل بعثا آخر.

وَإِلَى الأول وَقعت الاشارة فِي قَوْله تَعَالَى:

{هُوَ الَّذِي بعث فِي الْأُمِّيين رَسُولا مِنْهُم} الْآيَة

وَإِلَى الثَّانِي فِي قَوْله تَعَالَى:

{كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس}

وَقَوله صلى الله عليه وسلم " فَإِنَّمَا بعثتم ميسرين وَلم تبعثوا معسرين " وَنَبِينَا صلى الله عليه وسلم استوعب جَمِيع فنون المفهمين، واستوجب أتم البعثين، وَكَانَ من الْأَنْبِيَاء قبله من يدْرك فَنًّا أَو فنين وَنَحْو ذَلِك.

وَاعْلَم أَن اقْتِضَاء الْحِكْمَة الإلهية لبعث الرُّسُل لَا يكون إِلَّا لانحصار الْخَيْر النسبي الْمُعْتَبر فِي التَّدْبِير فِي الْبَعْث، وَلَا يعلم حَقِيقَة ذَلِك إِلَّا علام الغيوب، إِلَّا أَنا نعلم قطعا أَن هُنَالك أسبابا لَا يتَخَلَّف عَنْهَا الْبَعْث الْبَتَّةَ، وافتراض الطَّاعَة إِنَّمَا يكون بِأَن يعلم الله تَعَالَى صَلَاح أمة من الْأُمَم أَن يطيعوا الله، ويعبدوه، ويكونوا بِحَيْثُ لَا تستوجب نُفُوسهم التلقي من الله، وَيكون صَلَاح أَمرهم محصورا يَوْمئِذٍ فِي اتِّبَاع النَّبِي، فَيَقْضِي الله فِي حَظِيرَة الْقُدس بِوُجُوب اتِّبَاعه، ويتقرر هُنَالك الْأَمر، وَذَلِكَ إِمَّا بِأَن يكون الْوَقْت وَقت ابْتِدَاء ظُهُور دولة، وكبت الدول بهَا، فيبعث الله تَعَالَى من يُقيم دين أَصْحَاب تِلْكَ الدولة كبعث سيدنَا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، أَو يقدر الله تَعَالَى بَقَاء قوم واصطفاءهم على الْبشر، فيبعث من يقوم عوجهم، وَيُعلمهُم الْكتاب كبعث سيدنَا مُوسَى عليه السلام، أَو يكون نظم مَا قضى لقوم من اسْتِمْرَار دولة أَو دين يَقْتَضِي بعث مُجَدد كداود وَسليمَان وَجمع من أَنْبيَاء بني إِسْرَائِيل عليهم السلام، وَهَؤُلَاء الْأَنْبِيَاء قد قضى الله بنصرتهم على أعدائهم كَمَا قَالَ:

ص: 156

{وَلَقَد سبقت كلمتنا لعبادنا الْمُرْسلين إِنَّهُم لَهُم المنصورون وَإِن جندنا لَهُم الغالبون}

ووراء هَؤُلَاءِ قوم يبعثون لاتمام الْحجَّة، وَالله أعلم.

وَإِذا بعث النَّبِي وَجب على الْمَبْعُوث إِلَيْهِم أَن يتبعوه، وَإِن كَانُوا على سنة راشدة، لِأَن مناوأة هَذَا المنوه شَأْنه يُورث لعنا من الْمَلأ الْأَعْلَى، وإجماعا على خذلانه، فينسد سَبِيل تقربهم من الله، وَلَا يُفِيد كدهم شَيْئا،

وَإِذا مَاتُوا أحاطت اللَّعْنَة بنفوسهم، على أَن هَذِه صُورَة مَفْرُوضَة غير وَاقعَة، وَلَك عِبْرَة باليهود: كَانُوا أحْوج خلق الله إِلَى بعث الرَّسُول لغلوهم فِي دينهم وتحريفاتهم فِي كِتَابهمْ.

وَثُبُوت حجَّة الله على عباده ببعثه الرُّسُل إِنَّمَا هُوَ بِأَن أَكثر النَّاس خلقُوا بِحَيْثُ لَا يُمكن لَهُم تلقي مَا لَهُم وَمَا عَلَيْهِم بِلَا وَاسِطَة، بل استعدادهم إِمَّا ضَعِيف يتقوى بأخبار الرُّسُل، أَو هُنَالك مفاسد لَا تنْدَفع إِلَّا بِالْقصرِ، على رغم أنفهم، وَكَانُوا بِحَيْثُ يؤاخذون فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، فَأوجب لطف الله عِنْد اجْتِمَاع بعض الْأَسْبَاب العلوية والسفلية أَن يُوحى إِلَى أزكى الْقَوْم أَن يهْدِيهم إِلَى الْحق، ويدعوهم إِلَى الصِّرَاط الْمُسْتَقيم، فَمثله فِي ذَلِك كَمثل سيد مرض عبيده، فَأمر بعض خواصه أَن يكلفهم شرب دَوَاء أشاؤا، أم أَبُو، فَلَو أَنه أكرههم على ذَلِك كَانَ حَقًا، وَلَكِن تَمام اللطف يَقْتَضِي أَن يعلمهُمْ أَولا أَنهم مرضى، وَأَن الدَّوَاء نَافِع، وَأَن يعْمل أمورا خارقة تطمئِن نُفُوسهم بهَا على أَنه صَادِق فِيمَا قَالَ، وان يشوب الدَّوَاء بحلو، فَحِينَئِذٍ يَفْعَلُونَ مَا يؤمرون بِهِ على بَصِيرَة مِنْهُ وبرغبة فِيهِ، فَلَيْسَتْ المعجزات، وَلَا استجابة الدَّعْوَات، وَنَحْو ذَلِك إِلَّا أمورا خَارِجَة عَن أصل النُّبُوَّة لَازِمَة لَهَا فِي الْأَكْثَر، وَظُهُور مُعظم المعجزات يكون من أَسبَاب ثَلَاثَة:

أَحدهَا كَونه من المفهمين، فَإِن ذَلِك يُوجب انكشاف بعض الْحَوَادِث عَلَيْهِ، وَيكون سَببا لاستجابة الدَّعْوَات وَظُهُور البركات فِيمَا يبرك عَلَيْهِ.

وَالْبركَة إِمَّا زِيَادَة نفع الشَّيْء بِأَن يخيل إِلَيْهِم مثلا أَن الْجَيْش كثير، فيفشلوا أَو بِصَرْف الطبيعة الْغذَاء إِلَى خلط صَالح، فَيكون كمن تنَاول أَضْعَاف ذَلِك الْغَدَاء، أَو زِيَادَة عين الشَّيْء بِأَن تتقلب الْمَادَّة الهوائية بِتِلْكَ الصُّورَة لحلول قُوَّة مثالية، وَنَحْو ذَلِك من الْأَسْبَاب الَّتِي يعسر إحصاؤها.

وَالثَّانِي أَن تكون الْمَلأ الْأَعْلَى مجمعة إِلَى تمشية أمره، فَيُوجب ذَلِك

إلهامات وإحالات وتقريبات لم تكن تعهد من قبل، فينصر الأحباء، ويخذل الْأَعْدَاء، وَيظْهر أَمر الله وَلَو كره الْكَافِرُونَ.

ص: 157

وَالثَّالِث أَن تحدث حوادث لأسبابها الخارجية من مجازاة العصاة وحدوث الْأُمُور الْعِظَام فِي الجو، فيجعلها الله تَعَالَى معْجزَة لَهُ بِوَجْه من الْوُجُوه، إِمَّا لتقدم إِخْبَار بهَا، أَو تربت المجازاة على مُخَالفَة أمره، أَو كَونهَا مُوَافقَة بِمَا أخبر من سنة المجازاة، أَو أَمر مِمَّا يشبه ذَلِك.

والعصمة لَهَا أَسبَاب ثَلَاثَة: أَن يخلق الْإِنْسَان نقيا عَن الشَّهَوَات الرذيلة سَمحا لَا سِيمَا فِيمَا يرجع إِلَى مُحَافظَة الْحُدُود الشَّرْعِيَّة، وَأَن يوحي إِلَيْهِ حسن الْحسن وقبح الْقَبِيح ومالهما، وَأَن يحول الله بَينه وَبَين مَا يُرِيد من الشَّهَوَات الرذيلة.

وَاعْلَم أَن من سيرة الْأَنْبِيَاء عليهم السلام أَلا يأمروا بالتفكر فِي ذَات الله تَعَالَى وَصِفَاته، فان ذَلِك لَا يستطيعه جُمْهُور النَّاس، وَهُوَ قَوْله صلى الله عليه وسلم:" تَفَكَّرُوا فِي خلق الله وَلَا تَفَكَّرُوا فِي الله " وَقَوله فِي آيَة.

{وَأَن إِلَى رَبك الْمُنْتَهى}

قَالَ: " لَا فكرة فِي الرب " وَإِنَّمَا يأمرون فِي التفكر فِي نعم الله تَعَالَى وعظيم قدرته.

وَمن سيرتهم أَلا يكلموا النَّاس إِلَّا على قدر عُقُولهمْ الَّتِي خلقُوا عَلَيْهَا وعلومهم الَّتِي هِيَ حَاصِلَة عِنْدهم بِأَصْل الْخلقَة، وَذَلِكَ لِأَن نوع الْإِنْسَان حَيْثُمَا وجد فَلهُ فِي أصل الْخلقَة حد من الْإِدْرَاك زَائِد على إِدْرَاك سَائِر الْحَيَوَانَات إِلَّا إِذا عَصَتْ الْمَادَّة جدا، وَله عُلُوم لَا يخرج إِلَيْهَا إِلَّا بخرق الْعَادة المستمرة كالنفوس القدسية من الْأَنْبِيَاء والأولياء، أَو برياضات شاقة تهيئ

نَفسه لإدراك مَا لم يكن عِنْده بِحِسَاب، أَو بممارسة قَوَاعِد الْحِكْمَة وَالْكَلَام وأصول الْفِقْه وَنَحْوهَا مُدَّة طَوِيلَة، فالأنبياء لم يخاطبوا النَّاس إِلَّا على منهاج إدراكهم الساذج الْمُودع فيهم بِأَصْل الْخلقَة، وَلم يلتفتوا إِلَى مَا يكون نَادِر الْأَسْبَاب قَلما يتَّفق وجودهَا، فَلذَلِك لم يكلفوا النَّاس أَن يعرفوا رَبهم بالتجليات والمشاهدات، وَلَا بالبراهين والقياسات، وَلَا أَن يعرفوه منزها عَن جَمِيع الْجِهَات، فان ذَلِك كالممتنع بِالْإِضَافَة إِلَى من لم يشْتَغل بالرياضات، وَلم يخالط المعقوليين مُدَّة طَوِيلَة، وَلم يرشدوهم إِلَى طَرِيق الاستنباط والاستدلالات ووجوه الاستحسانات، وَالْفرق بَين الْأَشْبَاه والنظائر بمقدمات دقيقة المأخذ، وَسَائِر مَا يَتَطَاوَل بِهِ أَصْحَاب الرَّأْي على أهل الحَدِيث.

وَمن سيرتهم أَلا يشتغلوا بِمَا لَا يتَعَلَّق بتهذيب النَّفس وسياسة الْأمة كبيان أَسبَاب حوادث الجو من الْمَطَر والكسوف والهالة وعجائب النَّبَات وَالْحَيَوَان ومقادير سير

ص: 158