الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(بَاب الآثام الَّتِي هِيَ فِيمَا بَينه وَبَين النَّاس)
اعْلَم أَن أَنْوَاع الْحَيَوَان على مَرَاتِب شَتَّى:
مِنْهَا مَا يتكون تكون الديدان من الأَرْض، وَمن حَقّهَا أَن تلهم من بارئ الصُّور كَيفَ تتغذى، وَلَا تلهم كَيفَ تدبر الْمنَازل.
وَمِنْهَا مَا يتناسل ويتعاون الذّكر وَالْأُنْثَى مِنْهَا فِي حضَانَة الْأَوْلَاد، وَمن حَقّهَا فِي حِكْمَة الله تَعَالَى أَن تلهم تَدْبِير الْمنَازل أَيْضا، فألهم الطير كَيفَ يتغذى، ويطير، وألهم أَيْضا كَيفَ يسافد، وَكَيف يتَّخذ عشا، وَكَيف تزق الْفِرَاخ، وَالْإِنْسَان من بَينهَا مدنِي الطَّبْع لَا يتعيش إِلَّا بالتعاون من بني نَوعه، فَإِنَّهُ لَا يتغذى الْحَشِيش النَّابِت بِنَفسِهِ وَلَا بالفواكه نيئة، وَلَا يتدفأ بالوبر إِلَى غير ذَلِك مِمَّا شرحناه من قبل، وَمن حَقه أَن يلهم تَدْبِير الْمَعْدن مَعَ تَدْبِير الْمنَازل وآداب المعاش، غير أَن سَائِر الْأَنْوَاع تلهم عِنْد الِاحْتِيَاج إلهاما جبليا إِلَّا فِي حِصَّة قَليلَة من عُلُوم التعيش كمص الثدي عِنْد الارتضاع والسعال عِنْد البحة وَفتح الجفون عِنْد إِرَادَة الرُّؤْيَة وَنَحْو ذَلِك، وَذَلِكَ لِأَن خياله كَانَ صناعًا هماما، ففوض لَهُ عُلُوم تَدْبِير الْمنَازل وتدبير المدن، إِلَى الرَّسْم وتقليد المؤيدين بِالنورِ الملكي فِيمَا يُوحى إِلَيْهِم، وَإِلَى تجربة ورصد تَدْبِير غيبي وروية بالاستقراء وَالْقِيَاس والبرهان، وَمثله فِي تلقي الْأَمر الشَّائِع الْوَاجِب فيضانه من بارئ الصُّور مَعَ الِاخْتِلَاف النَّاشِئ من قبل استعدادتهم كَمثل الْوَاقِعَات الَّتِي يتلقاها فِي الْمَنَام يفاض
عَلَيْهِم الْعُلُوم الفوقانية من حيزها، فتتشبح عِنْدهم بأشباح مُنَاسبَة، فتختلف الصُّور لِمَعْنى فِي المفاض عَلَيْهِ لَا فِي المفيض.
فَمن الْعُلُوم الفائضة على أَفْرَاد الْإِنْسَان جَمِيعًا عربهم وعجمهم وحضرهم وبدوهم - وَإِن اختلق طَرِيق التلقي مِنْهُم - حُرْمَة خِصَال تدمر نظام مدنهم، وَهِي ثَلَاثَة أَصْنَاف: مِنْهَا أَعمال شهوية، وَمِنْهَا أَعمال سبعية، وَمِنْهَا أَعمال ناشئة من سوء الْأَخْذ فِي الْمُعَامَلَات.
وَالْأَصْل فِي ذَلِك أَن الْإِنْسَان متوارد أَبنَاء نَوعه فِي الشَّهْوَة والغيرة والحرص، والفحول مِنْهُم يشبهون الفحول من الْبَهَائِم فِي الطموح إِلَى الْإِنَاث وَفِي عدم تَجْوِيز الْمُزَاحمَة على الْمَوْطُوءَة، غير أَن الفحول من الْبَهَائِم تتحارب حَتَّى يغلب أَشدّهَا بطشا
وأحدها نفسا، وينهزم مَا دون ذَلِك، أَو لَا تشعر بالمزاحمة لعدم رُؤْيَة المسافدة.
وَالْإِنْسَان ألمعي يظنّ الظَّن كَأَنَّهُ يرى وَيسمع، وألهم أَن التجارب لأجل ذَلِك مدمر لمدنهم لأَنهم لَا يتمدنون إِلَّا بتعاون من الرِّجَال، والفحول أَدخل فِي التمدن من الْإِنَاث، فألهم إنْشَاء اخْتِصَاص كل وَاحِد بِزَوْجَتِهِ، وَترك الْمُزَاحمَة فيمَ اخْتصَّ بِهِ أَخُوهُ، وَهَذَا أصل حُرْمَة الزِّنَا، ثمَّ صُورَة الِاخْتِصَاص بالزوجات أَمر موكول إِلَى الرَّسْم والشرائع، والفحول مِنْهُم أَيْضا يشبهون الفحول من الْبَهَائِم من حَيْثُ إِن سَلامَة فطرتهم لَا تَقْتَضِي إِلَّا الرَّغْبَة فِي الْإِنَاث دون الرِّجَال، كَمَا أَن الْبَهَائِم لَا تلْتَفت هَذِه اللفتة إِلَّا قبل الْإِنَاث غير أَن رجَالًا غلبتهم الشَّهْوَة الْفَاسِدَة بِمَنْزِلَة من يتلذذ بِأَكْل الطين والحممة فانسلخوا من سَلامَة الْفطْرَة: يقْضِي هَذَا شَهْوَته بِالرِّجَالِ، وَذَلِكَ صَار مأبونا يستلذ مَا لَا يستلذه الطَّبْع السَّلِيم، فأعقب ذَلِك تغيرا لأمزجتهم
ومرضا فِي نُفُوسهم، كَانَ مَعَ ذَلِك سَببا لإهمال النَّسْل من حَيْثُ إِنَّهُم قضوا حَاجتهم الَّتِي قيض الله تَعَالَى عَلَيْهِم مِنْهُم ليذرأ بهَا نسلهم بِغَيْر طريقها، فغيروا النظام الَّذِي خلقهمْ الله تَعَالَى عَلَيْهِ، فَصَارَ قبح هَذِه الفعلة مندمجا فِي نُفُوسهم، فَلذَلِك يَفْعَلهَا الْفُسَّاق، وَلَا يعترفون بهَا، وَلَو نسبوا إِلَيْهَا لماتوا حَيَاء إِلَّا أَن يكون انسلاخا قَوِيا، فيجهرون، وَلَا يستحيون فَلَا، يتراخى أَن يعاقبوا، كَمَا كَانَ فِي زمن سيدنَا لوط عليه السلام، وَهَذَا أصل حُرْمَة اللواطة.
ومعاش بني آدم وتدبير مَنَازِلهمْ وسياسة مدنهم لَا يتم إِلَّا بعقل وتمييز، وإدمان الْخمر ترجع إِلَى نظامهم بخرم قوى، وَيُورث محاربات وضغائن غير أَن أنفسا غلبت شهوتهم الرَّديئَة على عُقُولهمْ أَقبلُوا على هَذِه الرذيلة، وأفسدوا عَلَيْهِم ارتفاقاتهم، فَلَو لم يجر الرَّسْم بِمَنْع عَن فعلتهم تِلْكَ لهلك النَّاس وَهَذَا أصل حُرْمَة إدمان الْخمر، وَأما حُرْمَة قليلها وكثيرها، فَلَا يبين إِلَّا فِي مَبْحَث الشَّرَائِع.
والفحول مِنْهُم يشبهون الفحول من الْبَهَائِم فِي الْغَضَب على من يصد عَن مَطْلُوب، وَيجْرِي عَلَيْهِ مؤلما فِي نَفسه أَو فِي بدنه، لَكِن الفحول من الْبَهَائِم لَا تتَوَجَّه إِلَّا إِلَى مَطْلُوب محسوس أَو متوهم، وَالْإِنْسَان يطْلب المتوهم والمعقول، وحرصه أَشد من حرص الْبَهَائِم، وَكَانَت الْبَهَائِم تتقاتل حَتَّى ينهزم وَاحِد، ثمَّ ينسى الحقد إِلَّا مَا كَانَ من مثل الفحول من الْإِبِل وَالْبَقر وَالْخَيْل، وَالْإِنْسَان يحقد وَلَا ينسى، فَلَو فتح فيهم بَاب التقاتل لفسدت مدينتهم، واختلت مَعَايشهمْ، فألهموا حُرْمَة الْقَتْل وَالضَّرْب إِلَّا لمصْلحَة عَظِيمَة من قصاص وَنَحْوه،
وهاج من الحقد فِي صُدُور بَعضهم مثل مَا هاج فِي صُدُور الْأَوَّلين، وخافوا الْقصاص فانحدروا إِلَى أَن يدسوا السم، فِي الطَّعَام
أَو يقتلُوا بِالسحرِ، وَهَذَا حَالَة بِمَنْزِلَة حَال الْقَتْل بل أَشد مِنْهُ، فَإِن الْقَتْل ظَاهِرَة يُمكن التَّخَلُّص مِنْهُ، وَهَذِه لَا يُمكن التَّخَلُّص مِنْهَا، وانحدروا أَيْضا إِلَى الْقَذْف وَالْمَشْي بِهِ إِلَى ذِي سُلْطَان ليقْتل.
والمعايش الَّتِي جعلهَا الله تَعَالَى لِعِبَادِهِ إِنَّمَا هِيَ الِالْتِقَاط من الأَرْض الْمُبَاحَة والرعي والزراعة والصناعة وَالتِّجَارَة وسياسة الْمَدِينَة وَالْملَّة وكل كسب تجَاوز عَنْهَا فَإِنَّهُ لَا مدْخل لَهُ فِي تمدنهم.
وَانْحَدَرَ بَعضهم إِلَى أكساب ضارة كالسرقة وَالْغَصْب، وَهَذِه كلهَا مدمرة للمدينة فألهم أَنَّهَا مُحرمَة، وَاجْتمعَ بَنو آدم كلهم على ذَلِك وَإِن بَاشَرَهَا العصاة مِنْهُم فِي غلواء نُفُوسهم، وسعى الْمُلُوك العادلة فِي إِبْطَالهَا ومحقها، واستشعر بَعضهم سعي الْمُلُوك فِي إِبْطَالهَا، فانحدروا إِلَى الدَّعَاوَى والكاذبة وَالْيَمِين الْغمُوس وَشَهَادَة الزُّور وتطفيف الْكَيْل وَالْوَزْن والقمار والربا أضعافا مضاعفة، وَحكمهَا حكم تِلْكَ الأكساب الضارة، وَأخذ الْعشْر النهك بِمَنْزِلَة قطع الطَّرِيق، بل أقبح.
وَبِالْجُمْلَةِ فلهذه الْأَسْبَاب دخلت فِي نفوس بني آدم حُرْمَة هَذِه الْأَشْيَاء، وَقَامَ أقواهم عقلا وأسدهم رَأيا وأعلمهم بِالْمَصْلَحَةِ الْكُلية يمْنَع عَن ذَلِك طبقَة بعد طبقَة حَتَّى صَار رسما فاشيا، وَدخلت فِي البديهيات الأولية كَسَائِر المشهورات الذائعة، فَعِنْدَ ذَلِك رَجَعَ إِلَى الْمَلأ الْأَعْلَى لون مِنْهُم حَسْبَمَا كَانَ انحدر إِلَيْهِم من الإلهام أَن هَذِه مُحرمَة وَأَنَّهَا ضارة أَشد الضَّرَر، فصاروا كلما فعل وَاحِد من بني آدم شَيْئا من تِلْكَ الْأَفْعَال تأذوا مِنْهُ، مثل مَا يضع أَحَدنَا رجله على الْجَمْرَة، فتنتقل إِلَى القوى الإدراكية فِي تِلْكَ اللمحة، وتتأذى مِنْهُ، ثمَّ صَار لتأذيها خطوط شعاعية تحيط بِهَذَا العَاصِي، وَتدْخل فِي قُلُوب المستعدين من الْمَلَائِكَة وَغَيرهم أَن يؤذوه إِذا أمكن إيذاؤه،
ورخت فِيهِ مصْلحَته الْمَكْتُوبَة عَلَيْهِ الْمُسَمَّاة فِي الشَّرْع بالهام الْمَلَائِكَة مَا رزقه وَمَا أَجله، وَمَا عمره، وشقي أَو سعيد، وَفِي النُّجُوم بِأَحْكَام الطالع حَتَّى إِذا مَاتَ وهدأت عَنهُ هَذِه الْمصلحَة فرغ لَهُ بارئه كَمَا قَالَ: