الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تتشبح حوضا، وتتشبح أَعْمَالهم المحصا عَلَيْهَا وزنا إِلَى غير ذَلِك، وتتشبح النِّعْمَة بمطعم هنئ، ومشرب مريء، ومنكح شهي، وملبس رَضِي، ومسكن بهي،
وللخروج من ظلمات التَّخْلِيط إِلَى النِّعْمَة تدريجات عَجِيبَة كَمَا بَينه النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيث الرجل الَّذِي هُوَ آخر أهل النَّار خُرُوجًا مِنْهَا، وَأَن للنفوس شهوات تتوارد عَلَيْهَا من تِلْقَاء نوعها تتمثل بهَا النِّعْمَة، وشهوات دون ذَلِك يتَمَيَّز بهَا بَعْضهَا من بعض، وَهُوَ قَول النَّبِي صلى الله عليه وسلم: " دخلت الْجنَّة فَإِذا جَارِيَة أدماء لعساء، فَقلت مَا هَذِه يَا جِبْرِيل؟ فَقَالَ: أَن الله تَعَالَى عرف شَهْوَة جَعْفَر بن أبي طَالب للادم اللعس،
فخلق لَهُ هَذِه "، وَقَوله صلى الله عليه وسلم: " أَن الله أدْخلك الْجنَّة، فَلَا تشَاء أَن تحمل فِيهَا على فرس من ياقوته حَمْرَاء تطير بك فِي الْجنَّة حَيْثُ شِئْت إِلَّا فعلت " وَقَوله:" إِن رجلا من أهل الْجنَّة اسْتَأْذن ربه فِي الزَّرْع، فَقَالَ لَهُ أَلَسْت فِيمَا شِئْت قَالَ بلَى، وَلَكِنِّي أحب أَن أزرع، فبذر، فبادر الطّرف نَبَاته واستواؤه واستحصاده، فَكَانَ أَمْثَال الْجبَال، فَيَقُول الله تَعَالَى دُونك يَا ابْن آدم، فَإِنَّهُ لَا يشبعك شَيْء "، ثمَّ آخر ذَلِك رُؤْيَة رب الْعَالمين، وَظُهُور سُلْطَان التجليات فِي جنَّة الْكَثِيب، ثمَّ كَائِن بعد ذَلِك مَا أسكت عَنهُ، وَلَا أذكرهُ اقْتِدَاء بالشارع صلى الله عليه وسلم.
(المبحث الثَّالِث)
(مَبْحَث الارتفاقات)
(بَاب كَيْفيَّة استنباط الارتفاقات)
اعْلَم أَن الْإِنْسَان يُوَافق أَبنَاء جنسه فِي الْحَاجة إِلَى الْأكل وَالشرب وَالْجِمَاع والاستظلال من الشَّمْس والمطر والاستدفاء فِي الشتَاء وَغَيرهَا، وَكَانَ من عناية الله تَعَالَى بِهِ أَن ألهمه كَيفَ يرتفق بأَدَاء هَذِه الْحَاجَات إلهاما طبيعيا من مُقْتَضى صورته النوعية، فَلَا جرم يتساوى الْأَفْرَاد فِي ذَلِك الْأكل مُخْدج عَصَتْ مادته، كَمَا ألهم النَّحْل كَيفَ تَأْكُل الثمرات، ثمَّ كَيفَ تتَّخذ بَيْتا يجْتَمع فِيهِ أشخاص من بني نوعها، ثمَّ كَيفَ
تنقاد ليعسوبها، ثمَّ كَيفَ تعسل، وكما ألهم العصفور كَيفَ يَبْتَغِي الْحُبُوب الغاذية، وَكَيف يرد المَاء، وَكَيف يفر عَن السنور والصياد، وَكَيف يُقَاتل من صده عَمَّا يحْتَاج إِلَيْهِ، وَكَيف يسافد ذكره الْأُنْثَى عِنْد الشبق، ثمَّ يتخذان عشا عِنْد الْجَبَل، ثمَّ كَيفَ يتعاونان فِي حضَانَة الْبيض، ثمَّ كَيفَ يزقان الْفِرَاخ، وَكَذَلِكَ لكل نوع شَرِيعَة تنفث فِي صُدُور أَفْرَاده من طَرِيق الصُّورَة النوعية.
وَكَذَلِكَ ألهم الْإِنْسَان كَيفَ يرتفق من هَذِه الضرورات غير أَنه انظم لَهُ مَعَ هَذَا ثَلَاثَة أَشْيَاء لمقْتَضى صورته النوعية الرابية على كل نوع.
أَحدهَا الانبعاث إِلَى شَيْء من رَأْي كلي فالبهيمة إِنَّمَا تنبعث إِلَى غَرَض محسوس أَو متوهم من دَاعِيَة ناشئة من طبيعتها كالجوع والعطش والشبق، وَالْإِنْسَان رُبمَا ينبعث إِلَى نفع مَعْقُول لَيْسَ لَهُ دَاعِيَة من طَبِيعَته فيقصد أَن
يحصل نظاما صَالحا فِي الْمَدِينَة أَو بكمل خلقه، ويهذب نَفسه، أَو يتفصى من عَذَاب الْآخِرَة، أَو يُمكن جاهه فِي صُدُور النَّاس.
الثَّانِي أَنه يضم مَعَ الارتفاق الظرافة، فالبهيمة إِنَّمَا تبتغي مَا تسد بِهِ خلتها، وتدفع حَاجَتهَا فَقَط، وَالْإِنْسَان رُبمَا يُرِيد أَن تقر عينه، وتلذ نَفسه زِيَادَة على الْحَاجة، فيطلب زَوْجَة جميلَة، وَطَعَامًا لذيذا، وملبسا فاخرا ومسكنا شامخا.
وَالثَّالِث أَنه يُوجد مِنْهُم أهل عقل ودارية يستنبطون الارتفاقات الصَّالِحَة، وَيُوجد مِنْهُم من يختلج فِي صَدره مَا اختلج فِي صُدُور أُولَئِكَ، وَلَكِن لَا يَسْتَطِيع الاستنباط، فَإِذا رأى من الْحُكَمَاء، وَسمع مَا استنبطوه تَلقاهُ بقلبة، وعض عَلَيْهِ بنواجذه لما وجده مُوَافقا لعلمه الإجمالي، فَرب إِنْسَان يجوع، ويظمأ فَلَا يجد الطَّعَام وَالشرَاب، فيقاسي ألما شَدِيدا حَتَّى يجدهما، فيحاول ارتفاقا بِإِزَاءِ هَذِه الْحَاجة، وَلَا يَهْتَدِي سَبِيلا، ثمَّ يتَّفق أَن يلقى حكيما أَصَابَهُ مَا أصَاب ذَلِك، فتعرف الْحُبُوب الغاذية، واستنبط بذرها وسقيها وحصادها ودياسها وتذريتها، وحفظها إِلَى وَقت الْحَاجة، واستنبط حفر الْآبَار للبعيد من الْعُيُون والأنهار واصطناع القلال والقرب والقصاع، فيتخذ ذَلِك بَابا من الارتفاق، ثمَّ أَنه يقضم الْحُبُوب كَمَا هِيَ، فَلَا تنهضم فِي معدته، ويرتع الْفَوَاكِه نيئة، فَلَا تنهضم، فيحاول شَيْئا بِإِزَاءِ هَذِه، فَلَا يَهْتَدِي سَبِيلا، فَيلقى حكيما استنبط الطَّبْخ والقلي والطحن وَالْخبْز، فيتخذ ذَلِك بَابا آخر، وَقس على ذَلِك حاجاته كلهَا.
والمستبصر يشْهد عِنْده لما ذكرنَا حُدُوث كثير من الْمرَافِق فِي الْبلدَانِ بعد مَا لم تكن، فَمضى على ذَلِك قُرُون، وَلم يزَالُوا يَفْعَلُونَ ذَلِك حَتَّى اجْتمعت
جملَة صَالِحَة من الْعُلُوم الإلهامية المؤيدة بالمكتسبة، ونشبت عَلَيْهَا نُفُوسهم، وَعَلَيْهَا كَانَ محياهم ومماتهم، وَبِالْجُمْلَةِ فحال الإلهامات الضرورية مَعَ هَذِه الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة كَمثل النَّفس أَصله ضَرُورِيّ بِمَنْزِلَة حَرَكَة النبض، وَقد انظم مَعَه الِاخْتِيَار فِي صغر الأنفاس وكبرها.
وَلما كَانَت هَذِه الثَّلَاثَة لَا تُوجد فِي جَمِيع النَّاس سَوَاء لاخْتِلَاف أمزجة النَّاس وعقولهم الْمُوجبَة للانبعاث، من رَأْي كلي، ولحب الظرافة، ولاستنباط الارتفاقات، والاقتداء فِيهَا، ولاختلافهم فِي التفرغ للنَّظَر وَنَحْو ذَلِك من الْأَسْبَاب كَانَ للارتفاقات حدان.
الأول هُوَ الَّذِي لَا يُمكن أَن يَنْفَكّ عَنهُ أهل الاجتماعات القاصرة كَأَهل البدو وسكان شَوَاهِق الْجبَال والنواحي الْبَعِيدَة من الأقاليم الصَّالِحَة، وَهُوَ الَّذِي نُسَمِّيه بالارتفاق الأول.
وَالثَّانِي مَا عَلَيْهِ أهل الْحَضَر والقرى العامرة من الأقاليم الصَّالِحَة المستوجبة أَن ينشأ فِيهَا أهل الْأَخْلَاق الفاضلة والحكماء، فَإِنَّهُ كثر هُنَالك الاجتماعات وزدحمت الْحَاجَات، وَكَثُرت التجارب، فاستنبطت سنَن جزيلة، وعضوا عَلَيْهَا بالنواجذ.
والطرف الْأَعْلَى من هَذَا الْحَد مَا يتعامله الْمُلُوك أهل الرَّفَاهِيَة الْكَامِلَة الَّذين يرد عَلَيْهِم حكماء الْأُمَم، فينتحلون مِنْهُم سننا صَالِحَة، وَهُوَ الَّذِي نُسَمِّيه بالارتفاق الثَّانِي، وَلما كمل الارتفاق الثَّانِي أوجب ارتفاقا ثَالِثا، وَذَلِكَ أَنهم لما دارت بَينهم الْمُعَامَلَات وداخلها الشُّح والحسد والمطل والتجاحد، نشأت بَينهم اختلافات ومنازعات وَأَنَّهُمْ نَشأ فيهم من تغلب عَلَيْهِ الشَّهَوَات الرَّديئَة، أَو يجبل على الجراءة فِي الْقَتْل والنهب، وَأَنَّهُمْ
كَانَت لَهُم ارتفاقات مُشْتَركَة النَّفْع لَا يُطيق وَاحِد مِنْهُم إِقَامَتهَا، أَو لَا تسهل عَلَيْهِ، أَو لَا تسمح نَفسه بهَا، فاضطروا إِلَى إِقَامَة ملك يقْضِي بَينهم بِالْعَدْلِ، ويزجر عاصيهم، ويقاوم جريئهم، ويجبي مِنْهُم الْخراج، ويصرفه فِي مصرفه، وَأوجب الارتفاق الثَّالِث ارتفاقا رَابِعا، وَذَلِكَ