الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَوْله صلى الله عليه وسلم: " مَا مِنْكُم من أحد يتَوَضَّأ، فَيبلغ الْوضُوء، ثمَّ يَقُول: أشهد الخ - وَفِي رِوَايَة - اللَّهُمَّ اجْعَلنِي من التوابين، واجعلني من المتطهرين فتحت لَهُ أَبْوَاب الْجنَّة الثَّمَانِية يدْخل من أَيهَا يَشَاء ".
أَقُول: روح الطَّهَارَة لَا يتم إِلَّا بتوجه النَّفس إِلَى عَالم الْغَيْب واستفراغ الْجهد فِي طلبَهَا، فضبط لذَلِك ذكرا ورتب عَلَيْهِ مَا هُوَ فَائِدَة الطَّهَارَة الدَّاخِلَة فِي جذر النَّفس.
قَوْله صلى الله عليه وسلم: " لمن لم يستوعب: " ويل لِلْأَعْقَابِ من النَّار " أَقُول: السِّرّ فِيهِ أَن الله تَعَالَى لما أوجب غسل هَذِه الْأَعْضَاء، اقْتضى ذَلِك أَن يُحَقّق مَعْنَاهُ، فَإِذا غسل بعض الْعُضْو، وَلم يستوعب كُله لَا يَصح أَن يُقَال: غسل الْعُضْو، وَأَيْضًا فِيهِ سد بَاب التهاون وَإِنَّمَا تخللت النَّار فِي الأعقاب لِأَن تراكم الْحَدث والإصرار على عدم إِزَالَته خصْلَة مُوجبَة للنار، وَالطَّهَارَة مُوجبه للنجاة مِنْهَا وتكفير الْخَطَايَا، فَإِذا لم يُحَقّق معنى الطَّهَارَة فِي عُضْو، وَخَالف حكم الله فِيهِ كَانَ ذَلِك سَبَب أَن يظْهر تألم النَّفس بالخصلة الْمُوجبَة لفساد النَّفس من قبل هَذَا الْعُضْو، وَالله أعلم.
(مُوجبَات الْوضُوء)
قَوْله صلى الله عليه وسلم: " لَا تقبل صَلَاة من أحدث حَتَّى يتَوَضَّأ: وَقَوله صلى الله عليه وسلم: " لَا تقبل صَلَاة بِغَيْر طهُور " وَقَوله صلى الله عليه وسلم: " مِفْتَاح الصَّلَاة الطّهُور "، أَقُول: كل ذَلِك تَصْرِيح بِاشْتِرَاط الطَّهَارَة، وَالطَّهَارَة طَاعَة مُسْتَقلَّة وقتت بِالصَّلَاةِ لتوقف فَائِدَة كل وَاحِدَة مِنْهُمَا على الْأُخْرَى، وَفِيه تَعْظِيم أَمر الصَّلَاة الَّتِي هِيَ من شَعَائِر الله.
وموجبات الْوضُوء فِي شريعتنا على ثَلَاث دَرَجَات: (إِحْدَاهَا) . مَا اجْتمع عَلَيْهِ جُمْهُور الصَّحَابَة، وتطابق فِيهِ الرِّوَايَة، وَالْعَمَل الشَّائِع وَهُوَ الْبَوْل الْغَائِط وَالرِّيح والمذي وَالنَّوْم الثقيل وَمَا فِي مَعْنَاهَا.
قَوْله صلى الله عليه وسلم: " وكاء السه العينان " وَقَوله صلى الله عليه وسلم: " فانه إِذا اضْطجع استرخت مفاصله. أَقُول: مَعْنَاهُ أَن النّوم الثقيل مَظَنَّة لاسترخاء الْأَعْضَاء وَخُرُوج الْحَدث، وَأرى أَن مَعَ ذَلِك لَهُ سَبَب آخر، هُوَ أَن النّوم يبلد النَّفس، وَيفْعل فعل الْأَحْدَاث.
قَوْله صلى الله عليه وسلم فِي الْمَذْي: " يغسل ذكره، وَيتَوَضَّأ ". أَقُول. لَا شكّ أَن الْمَذْي الْحَاصِل من الملاعبة قَضَاء شَهْوَة دون شَهْوَة الْجِمَاع، فَكَانَ من حَقه أَن يسْتَوْجب طَهَارَة دون الطَّهَارَة الْكُبْرَى.
قَوْله صلى الله عليه وسلم فِي الشاك: " لَا يخْرجن من الْمَسْجِد حَتَّى يسمع صَوتا أَو يجد ريحًا ". أَقُول: مَعْنَاهُ حَتَّى يستيقن لما أدير الحكم على الْخَارِج من السَّبِيلَيْنِ كَانَ ذَلِك مقتضيا أَن يُمَيّز بَين مَا هُوَ فِي الْحَقِيقَة وَبَين مَا هُوَ مشتبه بِهِ وَلَيْسَ هُوَ، وَالْمَقْصُود نفي التعمق.
وَالثَّانيَِة مَا اخْتلف فِيهِ السّلف من فُقَهَاء الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وتعارض فِيهِ الرِّوَايَة عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم كمس الذّكر لقَوْله صلى الله عليه وسلم " من مس ذكره فَليَتَوَضَّأ " قَالَ بِهِ ابْن عمر وَسَالم وَعُرْوَة وَغَيرهم، ورده عَليّ وَابْن مَسْعُود وفقهاء الْكُوفَة وَلَهُم قَوْله صلى الله عليه وسلم " هَل هُوَ إِلَّا بضعَة مِنْهُ "، وَلم يجِئ الثَّلج بِكَوْن أَحدهمَا مَنْسُوخا.
ولمس الْمَرْأَة قَالَ بِهِ عمر وَابْن عمر وَابْن مَسْعُود وَإِبْرَاهِيم لقَوْله تَعَالَى
وَلَا يشْهد لَهُ حَدِيث بل يشْهد حَدِيث عَائِشَة بِخِلَافِهِ لَكِن فِيهِ نظر لِأَن فِي إِسْنَاده انْقِطَاعًا، وَعِنْدِي أَن مثل هَذِه الْعلَّة إِنَّمَا تعْتَبر فِي مثل تَرْجِيح أحد الْحَدِيثين على الآخر، وَلَا تعْتَبر فِي ترك حَدِيث من غير تعَارض وَالله أعلم.
وَكَانَ عمر وَابْن مَسْعُود لَا يريان التَّيَمُّم عَن الْجَنَابَة فَتعين حمل الْآيَة عِنْدهمَا على اللَّمْس لَكِن صَحَّ التَّيَمُّم عَنْهَا عَن عمرَان وعمار وَعَمْرو بن الْعَاصِ، وانعقد عَلَيْهِ الْإِجْمَاع، وَكَانَ ابْن عمر يذهب إِلَى الِاحْتِيَاط، وَكَانَ إِبْرَاهِيم يُقَلّد ابْن مَسْعُود حَتَّى وضع على أبي حنيفَة حَال الدَّلِيل الَّذِي تمسك بِهِ ابْن مَسْعُود، فَترك قَوْله مَعَ شدَّة اتِّبَاعه مَذْهَب إِبْرَاهِيم، وَبِالْجُمْلَةِ فجَاء الْفُقَهَاء من بعدهمْ فِي هذَيْن على ثَلَاث طَبَقَات آخذ بِهِ على ظَاهره، وتارك لَهُ رَأْسا، وَفَارق بَين الشَّهْوَة وَغَيرهَا.
وَقَالَ إِبْرَاهِيم بِالْوضُوءِ من الدَّم السَّائِل والقيء الْكثير، وَالْحسن بِالْوضُوءِ من القهقهة
فِي الصَّلَاة، وَلم يقل بذلك آخَرُونَ، وَفِي كل ذَلِك حَدِيث لم يجمع أهل الْمعرفَة بِالْحَدِيثِ على تَصْحِيحه، وَالأَصَح فِي هَذِه أَن من احتاط فقد - اسْتَبْرَأَ لدينِهِ وَعرضه - وَمن لَا فَلَا سَبِيل عَلَيْهِ فِي صراح الشَّرِيعَة.
وَلَا شُبْهَة أَن لمس الْمَرْأَة مهيج للشهوة مَظَنَّة لقَضَاء شَهْوَة دون شَهْوَة الْجِمَاع وَأَن مس الذّكر فعل شنيع، وَلذَلِك جَاءَ النَّهْي عَن مس الذّكر بِيَمِينِهِ فِي الِاسْتِنْجَاء، فَإِذا كَانَ قبضا عَلَيْهِ كَانَ من أَفعَال الشَّيَاطِين لَا محَالة، وَالدَّم السَّائِل والقيء الْكثير ملوثا للبدن ومبلدان للنَّفس، والقهقهة فِي الصَّلَاة
خَطِيئَة تحْتَاج إِلَى كَفَّارَة، فَلَا عجب أَن يَأْمر الشَّارِع بِالْوضُوءِ من هَذِه، وَلَا عجب أَلا يَأْمر، وَلَا عجب أَن يرغب فِيهِ من غير عَزِيمَة.
وَالثَّالِثَة مَا وجد فِيهِ شُبْهَة من لفظ الحَدِيث وَقد أجمع الْفُقَهَاء من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ على تَركه كَالْوضُوءِ مِمَّا مسته النَّار فَإِنَّهُ ظهر عمل النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَالْخُلَفَاء وَابْن عَبَّاس وَأبي طَلْحَة وَغَيرهم بِخِلَافِهِ، وَبَين جَابر أَنه مَنْسُوخ، وَكَانَ السَّبَب فِي الْوضُوء مِنْهُ أَنه ارتفاق كَامِل لَا يفعل مثله الْمَلَائِكَة، فَيكون سَببا لانْقِطَاع مشابهتهم، وَأَيْضًا فان مَا يطْبخ بالنَّار يذكر نَار جَهَنَّم، وَلذَلِك نهى عَن الكي إِلَّا لضَرُورَة فَلذَلِك لَا يَنْبَغِي للْإنْسَان أَن يشغل قلبه بِهِ.
أما لحم الْإِبِل - فَالْأَمْر فِيهِ أَشد - لم يقل بِهِ أحد من فُقَهَاء الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَلَا سَبِيل إِلَى الحكم بنسخه، فَلذَلِك لم يقل بِهِ من يغلب عَلَيْهِ التَّخْرِيج، وَقَالَ بِهِ أَحْمد واسحق، وَعِنْدِي أَنه يَنْبَغِي أَن يحْتَاط فِيهِ الْإِنْسَان وَالله أعلم.
والسر فِي إِيجَاب الْوضُوء من لُحُوم الْإِبِل على قَول من قَالَ بِهِ أَنَّهَا كَانَت مُحرمَة فِي التَّوْرَاة، وَاتفقَ جُمْهُور أَنْبيَاء بني إِسْرَائِيل على تَحْرِيمهَا، فَلَمَّا أَبَاحَهَا الله لنا شرع الْوضُوء مِنْهَا لمعنيين، أَحدهمَا أَن يكون الْوضُوء شكرا لما أنعم الله علينا من إباحتها بعد تَحْرِيمهَا على من قبلنَا، وَثَانِيها أَن يكون الْوضُوء علاجا لما عَسى أَن يختلج فِي بعض الصُّدُور من إباحتها بعد مَا حرمهَا الْأَنْبِيَاء من بني إِسْرَائِيل، فَإِن النَّقْل من التَّحْرِيم إِلَّا كَونه مُبَاحا يجب مِنْهُ الْوضُوء أقرب لاطمئنان نُفُوسهم، وَعِنْدِي أَنه كَانَ فِي أول الْإِسْلَام ثمَّ نسخ.