الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَقُول: يَنْبَغِي للْمُصَلِّي أَن يدْفع عَن نَفسه كلما يلهيه عَن الصَّلَاة لحسن هَيئته أَو لعجب النَّفس بِهِ تكميلا لما قصد لَهُ الصَّلَاة.
وَكَانَ الْيَهُود يكْرهُونَ الصَّلَاة فِي نعَالهمْ وخفافهم لما فِيهِ من ترك التَّعْظِيم فَإِن النَّاس يخلعون النِّعَال بِحَضْرَة الكبراء، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
{فاخلع نعليك إِنَّك بالوادي الْمُقَدّس طوى}
وَكَانَ هُنَا وَجه آخر وَهُوَ أَن الْخُف والنعل تَمام زِيّ الرجل، فَترك النَّبِي صلى الله عليه وسلم الْقيَاس الأول، وأيد الثَّانِي مُخَالفَة للْيَهُود، وَهُوَ قَوْله صلى الله عليه وسلم:" خالفوا الْيَهُود فَإِنَّهُم لَا يصلونَ فِي نعَالهمْ وخفافهم " فَالصَّحِيح أَن الصَّلَاة متنعلا وحافيا سَوَاء.
وَنهى النَّبِي صلى الله عليه وسلم عَن السدل فِي الصَّلَاة، فَقيل: هُوَ أَن يلتحف بِثَوْبِهِ، وَيدخل يَدَيْهِ فِيهِ، وسيجئ أَن اشْتِمَال الصماء أقبح لبسة
لِأَنَّهُ مُخَالفَة لما هُوَ أصل طبيعة الْإِنْسَان وعادته من إبْقَاء الْيَدَيْنِ مستر سلتين، وَلِأَنَّهُ على شرف انكماش الْعَوْرَة فَإِنَّهُ كثيرا مَا يحْتَاج إِلَى إِخْرَاج الْيَدَيْنِ للبطش، فتنكشف، وَقيل: إرْسَال الثَّوْب من غير أَن يضم جانبيه وَهُوَ إخلال بالتجمل وَتَمام الْهَيْئَة، وَإِنَّمَا نعني بِتمَام الْهَيْئَة مَا يحكم الْعرف وَالْعَادَة أَنه غير فَاقِد مَا يَنْبَغِي أَن يكون لَهُ وأوضاع لباسهم مُخْتَلفَة وَلَكِن فِي كل لبسة تَمام هَيْئَة يعرف بالسير، وَقد بنى النَّبِي صلى الله عليه وسلم الْأَمر على عرف الْعَرَب يَوْمئِذٍ.
(الْقبْلَة)
لما قدم صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَة صلى إِلَى بَيت الْمُقَدّس سِتَّة أَو سَبْعَة عشر شهرا، ثمَّ أَمر أَن يسْتَقْبل الْكَعْبَة، فاستقر الْأَمر على ذَلِك.
أَقُول: السِّرّ فِي ذَلِك أَنه لما كَانَ تَعْظِيم شَعَائِر الله وبيوته وَاجِبا - لَا سِيمَا فِيمَا هُوَ أصل أَرْكَان الْإِسْلَام. وَأم القربات. وَأشهر شَعَائِر الدّين، وَكَانَ التَّوَجُّه فِي الصَّلَاة إِلَى مَا هُوَ مُخْتَصّ بِاللَّه بِطَلَب رضَا الله بالتقرب مِنْهُ أجمع للخاطر، وأحث على صفة الْخُشُوع، وَأقرب لحضور الْقلب، لِأَنَّهُ يشبه مُوَاجهَة الْملك فِي مناجاته - اقْتَضَت الْحِكْمَة الالهية أَن يَجْعَل اسْتِقْبَال قبْلَة مَا شرطا فِي الصَّلَاة فِي جَمِيع الشَّرَائِع.
وَكَانَ إِبْرَاهِيم. وإسمعيل عليهما السلام. وَمن تدين بدينهما يستقبلون الْكَعْبَة. وَكَانَ إِسْرَائِيل عليه السلام وَبَنوهُ يستقبلون بَيت الْمُقَدّس. هَذَا هُوَ الأَصْل الْمُسلم فِي الشَّرَائِع.
فَلَمَّا قدم النَّبِي صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَة، وتوجهت الْعِنَايَة إِلَى تأليف الْأَوْس، والخزرج، وحلفائهم من الْيَهُود، وصاروا هم القائمين بنصرته، وَالْأمة الَّتِي أخرجت للنَّاس، وَصَارَت مُضر وَمَا والاها أعدى أعاديه وَأبْعد النَّاس عَنهُ - اجْتهد، وَحكم باستقبال بَيت الْمُقَدّس؛ إِذْ الأَصْل أَن يُرَاعِي فِي أوضاع القربات حَال الْأمة الَّتِي بعث الرَّسُول فِيهَا، وَقَامَت بنصرته وَصَارَت شُهَدَاء على النَّاس - وَهُوَ الْأَوْس. والخرزج - يَوْمئِذٍ، وَكَانُوا أخضع شَيْء لعلوم الْيَهُود بَينه ابْن عَبَّاس رضي الله عنه فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى:
{فَأتوا حَرْثكُمْ أَنى شِئْتُم}
حَيْثُ قَالَ: " إِنَّمَا كَانَ هَذَا الْحَيّ من الْأَنْصَار، وهم أهل وثن، مَعَ هَذَا الْحَيّ من الْيَهُود، وهم أهل الْكتاب، فَكَانُوا يرَوْنَ لَهُم فضلا عَلَيْهِم فِي الْعلم، فَكَانُوا يقتدون بِكَثِير من فعلهم " الحَدِيث، وَأَيْضًا الأَصْل أَن تكون الشَّرَائِع مُوَافقَة لما عَلَيْهِ الْملَل الحقة مَا لم تكن من تحريفات الْقَوْم وتعمقاتهم، ليَكُون أتم لإِقَامَة الْحجَّة عَلَيْهِم، وَأَشد لطمأنينة قُلُوبهم، وَالْيَهُود هم القائمون بِرِوَايَة الْكتاب السماوي وَالْعَمَل بِمَا فِيهِ، ثمَّ أحكم الله آيَاته وأطلع نبيه على مَا هُوَ أوفق بِالْمَصْلَحَةِ من هَذَا وأقعد بقوانين التشريع بالنفث فِي روعه أَولا، فَكَانَ يتَمَنَّى أَن يَأْمر باستقبال الْكَعْبَة، وَكَانَ يقلب وَجهه فِي السَّمَاء طَمَعا أَن يكون جِبْرَائِيل نزل بذلك، وَبِمَا أنزل فِي الْقُرْآن الْعَظِيم. ثَانِيًا، وَذَلِكَ لِأَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم بعث فِي الْأُمِّيين الآخذين بالملة الإسماعيلية، وَقدر الله فِي سَابق علمه أَنهم هم القائمون بنصرة دينه، وهم شُهَدَاء الله على النَّاس من بعده، وهم خلفاؤه فِي أمته، وَأَن الْيَهُود لَا يُؤمن مِنْهُم إِلَّا شرذمة قَليلَة، والكعبة من شَعَائِر الله عِنْد الْعَرَب أذعن لَهَا أقاصيهم وأدانيهم، وَجَرت السّنة عِنْدهم باستقبالها شَائِعا ذائعا، فَلَا معنى للعدول عَن ذَلِك.
وَلما كَانَ اسْتِقْبَال الْقبْلَة شرطا - إِنَّمَا أُرِيد بِهِ تَكْمِيل الصَّلَاة، وَلَيْسَ شرطا - لَا يَتَأَتَّى أصل فَائِدَة الصَّلَاة إِلَّا بِهِ تَلا - رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِيمَن تحرى فِي لَيْلَة مظْلمَة وَصلى لغير الْقبْلَة قَوْله تَعَالَى:
{فأينما توَلّوا فثم وَجه الله} .
يومى إِلَى أَن صلَاتهم جَائِزَة للضَّرُورَة.