الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما الْقَبْض فمثاله مَا ورد فِي الحَدِيث أَن الدَّجَّال يُرِيد أَن يقتل العَبْد الْمُؤمن فِي الْمرة الثَّانِيَة، فَلَا يقدر الله عَلَيْهِ مَعَ صِحَة دَاعِيَة الْقَتْل وسلامة أدواته وَأما الْبسط فمثاله أَن الله تَعَالَى أنبع عينا لأيوب صلوَات الله عَلَيْهِ بركضه الأَرْض وَلَيْسَ بِالْعَادَةِ أَن تقضي الركضة إِلَى نبوع المَاء، وأقدر بعض المخلصين من عباده فِي الْجِهَاد على مَا لَا يتصوره الْعقل من مثل تِلْكَ الْأَبدَان وَلَا من أضعافها، وَأما الأحالة ممثالها جعل النَّار هَوَاء طيبَة لإِبْرَاهِيم عليه السلام، وَأما الإلهام فمثاله قصَّة خرق السَّفِينَة وَإِقَامَة الْجِدَار وَقتل الْغُلَام وإنزال الْكتب والشرائع على الْأَنْبِيَاء عليهم السلام. . والإلهام تَارَة يكون
للمبتلى وَتارَة يكون لغيره لاجله وَالْقُرْآن الْعَظِيم بَين أَنْوَاع التَّدْبِير بِمَا لَا مزِيد عَلَيْهِ.
(بَاب ذكر عَالم الْمِثَال)
اعْلَم أَنه دلّت أَحَادِيث كَثِيرَة على أَن فِي الْوُجُود عَالما غير عنصري تتمثل فِيهِ الْمعَانِي بأجسام مُنَاسبَة لَهَا فِي الصّفة، وتتحقق هُنَالك الْأَشْيَاء قبل وجودهَا فِي الأَرْض نَحوا من التحقق، فَإِذا وجدت كَانَت هِيَ هِيَ بِمَعْنى من مَعَاني هُوَ هُوَ، وَإِن كثير من الْأَشْيَاء مِمَّا لَا جسم لَهَا عِنْد الْعَامَّة تنْتَقل وتنزل، وَلَا يَرَاهَا جَمِيع النَّاس، قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم:" لما خلق الله الرَّحِم قَامَت فَقَالَت هَذَا مَكَان العائذ بك من القطيعة "، وَقَالَ:" أَن الْبَقَرَة وَآل عمرَان تأتيان يَوْم الْقِيَامَة كَأَنَّهُمَا غمامتان أَو غيايتان أَو فرقان من طير صواف تحاجان عَن أهلهما "، وَقَالَ:" تَجِيء الْأَعْمَال يَوْم الْقِيَامَة فتجيء الصَّلَاة ثمَّ تَجِيء الصَّدَقَة، ثمَّ يَجِيء الصّيام " الحَدِيث، وَقَالَ:" أَن الْمَعْرُوف وَالْمُنكر لخليقتان تنصبان للنَّاس يَوْم الْقِيَامَة، فَأَما الْمَعْرُوف فيبشر أَهله، وَأما الْمُنكر فَيَقُول: إِلَيْكُم إِلَيْكُم، وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُ إِلَّا لُزُوما " وَقَالَ: " أَن الله تَعَالَى يبْعَث الْأَيَّام يَوْم الْقِيَامَة كهيئتها، وَيبْعَث الْجُمُعَة زهراء منيرة ".
وَقَالَ: " يُؤْتى بالدنيا يَوْم الْقِيَامَة بِصُورَة عَجُوز شَمْطَاء زرقاء أنيابها، مُشَوه خلقهَا " وَقَالَ: " هَل ترَوْنَ مَا أرى؟ فَإِنِّي لأرى مواقع الْفِتَن خلال بُيُوتكُمْ
كمواقع الْقطر " وَقَالَ فِي حَدِيث الْإِسْرَاء: " فَإِذا أَرْبَعَة أَنهَار نهران باطنان ونهران ظاهران، فَقلت، مَا هَذَا يَا جِبْرِيل؟ قَالَ: أما الباطنان فَفِي الْجنَّة، وَأما الظاهران فالنيل والفرات " وَقَالَ فِي حَدِيث صَلَاة الْكُسُوف:" صورت لي الْجنَّة وَالنَّار " وَفِي لفظ " بيني وَبَين جِدَار الْقبْلَة " وَفِيه أَنه بسط
يَده ليتناول عنقوداً من الْجنَّة، وَأَنه تكعكع من النَّار، وَنفخ فِي حرهَا وَرَأى فِيهَا سَارِق الحجيج، وَالْمَرْأَة الَّتِي ربطة الْهِرَّة حَتَّى مَاتَت، وَرَأى فِي الْجنَّة امْرَأَة مومسة سقت الْكَلْب، وَمَعْلُوم أَن تِلْكَ الْمسَافَة لَا تتسع للجنة وَالنَّار بأجسادهما الْمَعْلُومَة عِنْد الْعَامَّة. وَقَالَ:" حفت الْجنَّة بالمكاره وحفت النَّار بالشهوات " ثمَّ أَمر جِبْرِيل أَن ينظر إِلَيْهِمَا وَقَالَ: " ينزل ينزل الْبلَاء فيعالجه الدُّعَاء ". وَقَالَ: " خلق الله الْعقل فَقَالَ لَهُ: أقبل فَأقبل وَقَالَ لَهُ أدبر فَأَدْبَرَ ". وَقَالَ: " هَذَانِ كِتَابَانِ من رب الْعَالمين " الحَدِيث، وَقَالَ:" يُؤْتى بِالْمَوْتِ كَأَنَّهُ كَبْش، فَيذْبَح بَين الْجنَّة وَالنَّار "، وَقَالَ تَعَالَى:
{فَأَرْسَلنَا إِلَيْهَا رُوحنَا فتمثل لَهَا بشرا سويا} .
واستفاض فِي الحَدِيث أَن جِبْرِيل كَانَ يظْهر للنَّبِي صلى الله عليه وسلم ويتراءى لَهُ فيكلمه، وَلَا يرَاهُ سَائِر النَّاس، وَأَن الْقَبْر يفسح سبعين ذِرَاعا فِي سبعين أَو يضم حَتَّى تخْتَلف أضلاع المقبور وَأَن الْمَلَائِكَة تنزل على المقبور، فتسأله وَأَن عمله يتَمَثَّل لَهُ، وَأَن الْمَلَائِكَة تنزل إِلَى المحتضر بِأَيْدِيهِم الْحَرِير أَو الْمسْح وَأَن الْمَلَائِكَة تضرب المقبور بِمِطْرَقَةٍ من حَدِيد، فَيَصِيح صَيْحَة يسْمعهَا مَا بَين الْمشرق وَالْمغْرب، وَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم:" ليسلط على الْكَافِر فِي قَبره تِسْعَة وَتسْعُونَ تنينا تنهسه، وتلدغه حَتَّى تقوم السَّاعَة، وَقَالَ: " وَإِذا أَدخل الْمَيِّت الْقَبْر مثلت لَهُ الشَّمْس عِنْد غُرُوبهَا، فيجلس يمسح عَيْنَيْهِ، وَيَقُول:" دَعونِي أُصَلِّي " واستفاض فِي الحَدِيث: أَن الله تَعَالَى يتجلى بصور كَثِيرَة لأهل الْموقف، وَأَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم يدْخل على ربه وَهُوَ على كرسيه وَأَن الله تَعَالَى يكلم ابْن آدم شفاها إِلَى غير ذَلِك مِمَّا لَا يُحْصى كَثْرَة.
والناظر فِي هَذِه الْأَحَادِيث بَين إِحْدَى ثَلَاثَة: إِمَّا أَن يقر بظاهرها فيضطر إِلَى إِثْبَات عَالم ذكرنَا شَأْنه وَهَذِه هِيَ الَّتِي تقتضيها قَاعِدَة أهل الحَدِيث نبه على ذَلِك السُّيُوطِيّ رَحمَه الله تَعَالَى، وَبهَا أَقُول، وإليها أذهب،
أَو يَقُول: أَن هَذِه الوقائع تتراءى لحس الرَّائِي، وتتمثل لَهُ فِي بَصَره، وَإِن لم تكن خَارج حسه، وَقَالَ بنظير ذَلِك عبد الله بن مَسْعُود فِي قَوْله تَعَالَى:
{يَوْم تَأتي السَّمَاء بِدُخَان مُبين} .
أَنهم أَصَابَهُم جَدب فَكَانَ أحدهم ينظر إِلَى السَّمَاء، فَيرى كَهَيئَةِ الدُّخان من الْجُوع، وَيذكر عَن ابْن الْمَاجشون أَن كل حَدِيث جَاءَ فِي التنقل والرؤية فِي الْمَحْشَر، فَمَعْنَاه أَنه يُغير أبصار خلقه، فيرونه نازلا متجليا ويناجي خلقه، ويخاطبهم وَهُوَ غير متغير عَن عَظمته وَلَا منتقل ليعلموا أَن الله على كل شَيْء قدير، أَو يَجْعَلهَا تمثيلا لتفهم معَان أُخْرَى، وَلست أرى المقتصر على الثَّالِثَة من أهل الْحق، وَقد صور الإِمَام الْغَزالِيّ فِي عَذَاب الْقَبْر تِلْكَ المقامات الثَّلَاث حِين قَالَ: أَمْثَال هَذِه الْأَخْبَار لَهَا ظواهر صَحِيحَة وأسرار خُفْيَة، وَلكنهَا عِنْد أَرْبَاب البصائر وَاضِحَة، فَمن لم ينْكَشف لَهُ حقائقها، فَلَا يَنْبَغِي أَن يُنكر ظواهرها، بل أقل دَرَجَات الْإِيمَان التَّسْلِيم والتصديق (فَإِن قلت) فَنحْن نشاهد الْكَافِر فِي قَبره مُدَّة، ونراقبه، وَلَا نشاهد شَيْئا من ذَلِك، فَمَا وَجه التَّصْدِيق على خلاف الْمُشَاهدَة
(فَاعْلَم) أَن لَك ثَلَاث مقامات فِي التَّصْدِيق بأمثال هَذَا:
أَحدهَا وَهُوَ الْأَظْهر والأصلح والأسلم: أَن تصدق بِأَنَّهَا مَوْجُودَة، وَهِي تلدغ الْمَيِّت، وَلَكِنَّك لَا تشاهد ذَلِك فَإِن هَذِه الْعين لَا تصلح لمشاهدة الْأُمُور الملكوتية، وكل مَا يتَعَلَّق فِي بِالآخِرَة فَهُوَ فِي علم الملكوت. . أما ترى الصَّحَابَة رضي الله عنهم كَيفَ كَانُوا يُؤمنُونَ بنزول جِبْرِيل عليه السلام،
وَمَا كَانُوا يشاهدونه، ويؤمنون بِأَنَّهُ عليه السلام يُشَاهِدهُ، فَإِن كنت لَا تؤمن بِهَذَا فتصحيح أصل الْإِيمَان بِالْمَلَائِكَةِ وَالْوَحي أهم عَلَيْك وَإِن كنت آمَنت بِهِ، وجوزت أَن يُشَاهد النَّبِي صلى الله عليه وسلم مَا لَا تشاهده الْأمة، فَكيف لَا تجوز هَذَا فِي الْمَيِّت، وكما أَن الْملك لَا يشبه الْآدَمِيّين والحيوانات، فالحياة والعقارب الَّتِي تلدغ فِي الْقَبْر لَيست من جنس حيات عالمنا، بل هِيَ جنس آخر، وتدرك بحاسة أُخْرَى.
الْمقَام الثَّانِي: أَن تتذكر أَمر النَّائِم، وَأَنه قد يرى فِي نَومه حَيَّة تلدغه، وَهُوَ يتألم بذلك حَتَّى ترَاهُ رُبمَا يَصِيح ويعرق جَبينه، وَقد ينزعج من مَكَانَهُ كل ذَلِك يُدْرِكهُ من نَفسه