الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هِيَ من قدر الله "، وَقَول عمر رضي الله عنه فِي قصَّة سرغ أَلَيْسَ إِن رعيتها فِي الخصب رعيتها بِقدر الله؟ الخ وللعباد اخْتِيَار أفعالهم، نعم لااختيار لَهُم فِي ذَلِك الِاخْتِيَار لكَونه معلولا بِحُضُور صُورَة الْمَطْلُوب ونفعه ونهوض داعيه وعزم بِمَا لَيْسَ لَهُ علم بهَا فَكيف الِاخْتِيَار فِيهَا وَهُوَ قَوْله: " إِن الْقُلُوب بَين إِصْبَعَيْنِ من أَصَابِع الله يقلبها كَيفَ يَشَاء " وَالله اعْلَم.
(بَاب الْإِيمَان بِأَن الْعِبَادَة حق الله تَعَالَى على عباده لِأَنَّهُ منعم عَلَيْهِم مجَاز لَهُم بالارادة)
اعْلَم أَن من أعظم أَنْوَاع الْبر أَن يعْتَقد الْإِنْسَان بِمَجَامِع قلبه بِحَيْثُ لَا يحْتَمل نقيض هَذَا الِاعْتِقَاد عِنْده أَن الْعِبَادَة حق الله تَعَالَى على عباده، وَأَنَّهُمْ مطالبون بِالْعبَادَة من الله تَعَالَى بِمَنْزِلَة سَائِر مَا يَطْلُبهُ ذَوُو الْحُقُوق من حُقُوقهم، قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم لِمعَاذ:" يَا معَاذ هَل تدرى مَا حق الله على عباده وَمَا حق الْعباد على الله؟ قَالَ معَاذ: الله وَرَسُوله أعلم قَالَ: " فَإِن
حق الله على الْعباد أَن يعبدوه، وَلَا يشركوا بِهِ شَيْئا، وَحقّ الْعباد على الله تَعَالَى أَلا يعذب من لَا يُشْرك بِهِ شَيْئا " وَذَلِكَ لِأَن من لم يعْتَقد ذَلِك اعتقادا جَازِمًا وَاحْتمل عِنْده أَن يكون سدى مهملا لَا يُطَالب بِالْعبَادَة، وَلَا يُؤَاخذ بهَا من جِهَة رب مُرِيد مُخْتَار - كَانَ دهريا لَا تقع عِبَادَته، وَإِن بَاشَرَهَا بجوارحه بموقع من قلبه، وَلَا تفتح بَابا بَينه وَبَين ربه، وَكَانَت عَادَة كَسَائِر عاداته.
وَالْأَصْل فِي ذَلِك أَنه قد ثَبت فِي معارف الْأَنْبِيَاء وورثتهم عَلَيْهِم الصَّلَوَات والتسليمات أَن موطنا من مَوَاطِن الجبروت فِيهِ إِرَادَة وَقصد بِمَعْنى الْإِجْمَاع على فعل مَعَ صِحَة الْفِعْل وَالتّرْك بِالنّظرِ إِلَى هَذَا الموطن، وَإِن كَانَت الْمصلحَة الفوقانية لَا تبقي، وَلَا تذر شَيْئا إِلَّا أوجب وجوده، أَو أوجب عَدمه، لَا وجود للحالة المنتظرة بِحَسب ذَلِك، وَلَا عِبْرَة بِقوم يسمعُونَ الْحُكَمَاء يَزْعمُونَ أَن الْإِرَادَة بِهَذَا الْمَعْنى، فقد حفظوا شَيْئا وَغَابَتْ عَنْهُم أَشْيَاء، وهم محجوبون عَن مُشَاهدَة هَذَا الموطن محجوبون بأدلة الْآفَاق والأنفس.
أما حجابهم فَهُوَ أَنهم لم يهتدوا إِلَى موطن بَين التجلي الْأَعْظَم، وَبَين الْمَلأ الْأَعْلَى شَبيه بالشعاع الْقَائِم بالجوهرة، وَللَّه الْمثل الْأَعْلَى، فَفِي هَذَا الموطن يتَمَثَّل إِجْمَاع على شَيْء استوجبه عُلُوم الْمَلأ الْأَعْلَى وهيآتهم بعد مَا كَانَ يستوى الْفِعْل وَالتّرْك فِي هَذَا الموطن.
وَأما الْحجَّة عَلَيْهِم فَهِيَ أَن الْوَاحِد منا يعلم بداهة أَنه يمد يَده، ويتناول الْقَلَم مثلا، وَهُوَ فِي ذَلِك مُرِيد قَاصد يَسْتَوِي بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ الْفِعْل وَالتّرْك بِحَسب هَذَا الْقَصْد وبحسب هَذِه القوى المتشبحة فِي نَفسه، وَإِن كَانَ كل شَيْء بِحَسب الْمصلحَة الفوقانية إِمَّا وَاجِب الْفِعْل، أَو وَاجِب التّرْك، فَكَذَلِك الْحَال فِي كل مَا يستوجبه استعداد خَاص، فَينزل من بارئ الصُّور نزُول
الصُّور على الْموَاد المستعدة لَهَا كالاستجابة عقيب الدُّعَاء مِمَّا فِيهِ دخل لمتجدد حَادث بِوَجْه من الْوُجُوه، وَلذَلِك تَقول هَذَا جهل بِوُجُوب الشَّيْء بِحَسب الْمصلحَة الفوقانية، فَكيف يكون فِي موطن من مَوَاطِن الْحق؟ ! فَأَقُول حاش لله، بل هُوَ علم وإيفاء لحق هَذَا الموطن، إِنَّمَا الْجَهْل أَن يُقَال لَيْسَ بِوَاجِب أصلا، وَقد نفت الشَّرَائِع الإلهية هَذَا الْجَهْل حَيْثُ أَثْبَتَت الْإِيمَان بِالْقدرِ، وَأَن مَا أَصَابَك لم يكن ليخطئك، وَمَا أخطاك لم يكن ليصيبك، وَأما إِذا قيل يَصح فعله وَتَركه بِحَسب هَذَا الموطن، فَهُوَ علم حق لَا محَالة، كَمَا أَنَّك إِذا رَأَيْت الْفَحْل من الْبَهَائِم يفعل الْأَفْعَال الفحلية، وَرَأَيْت الْأُنْثَى تفعل الْأَفْعَال الأنثوية، فَإِن حكمت بِأَن هَذِه الْأَفْعَال صادرة جبرا كحركة الْحجر فِي تدحرجه كذبت، وَإِن حكمت بِأَنَّهَا صادرة من غير عِلّة مُوجبه لَهَا، فَلَا المزاج الفحلي يُوجب هَذَا الْبَاب، وَلَا المزاج الأنثوي يُوجب ذَلِك كذبت، وَإِن حكمت بِأَن الْإِرَادَة المتشبحة فِي أَنفسهمَا تحكى وجوبا فوقانيا، وتعتمد عَلَيْهِ، وَأَنَّهَا لَا تَفُور فورانا استقلاليا كَانَ لَيْسَ وَرَاء ذَلِك مرمى، فقد كذبت، بل الْحق الْيَقِين أَمر بَين الْأَمريْنِ وَهُوَ أَن الِاخْتِيَار مَعْلُول لَا يتَخَلَّف عَن علله، وَالْفِعْل المُرَاد توجبه الْعِلَل، وَلَا يُمكن أَلا يكون، وَلَكِن هَذَا الِاخْتِيَار من شَأْنه أَن يبتهج بِالنّظرِ إِلَى نَفسه، وَلَا ينظر إِلَى مَا فَوق ذَلِك. فَإِن أدّيت حق هَذَا الموطن، وَقلت أجد فِي نَفسِي أَن الْفِعْل وَالتّرْك كَانَا مستويين، وَأَنِّي اخْتَرْت الْفِعْل، فَكَانَ الِاخْتِيَار عِلّة لفعله صدقت، وبررت، فَأخْبرت الشَّرَائِع الإلهية عَن هَذِه الْإِرَادَة المتشبحة فِي هَذَا الموطن.
وَبِالْجُمْلَةِ فقد ثبتَتْ إِرَادَة يَتَجَدَّد تعلقهَا، وَثبتت المجازاة فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَثَبت
أَن مُدبر الْعَالم دبر الْعَالم بِإِيجَاب شَرِيعَة يسلكونها، لينتفعوا بهَا، فَكَأَن الْأَمر شَبِيها بِأَن السَّيِّد استخدم عبيده، وَطلب مِنْهُم
ذَلِك وَرَضي عَمَّن خدم، وَسخط على من لم يخْدم، فَنزلت الشَّرَائِع الإلهية بِهَذِهِ الْعبارَة لما ذكرنَا أَن الشَّرَائِع تنزل فِي الصِّفَات وَغَيرهَا بِعِبَارَة لَيْسَ هُنَالك أفْصح، وَلَا أبين للحق مِنْهَا أَكَانَت حَقِيقَة لغوية أَو مجَازًا متعارفا، ثمَّ مكنت الشَّرَائِع الإلهية هَذِه الْمعرفَة الغامضة من نُفُوسهم بِثَلَاثَة مقامات مسلمة عِنْدهم جَارِيَة مجْرى المشهورات البديهية بَينهم
أَحدهَا: أَنه تَعَالَى منعم، وشكر الْمُنعم وَاجِب، وَالْعِبَادَة شكر لَهُ على نعْمَة.
وَالثَّانِي: أَنه يجازي المعرضين عَنهُ التاركين لعبادته فِي الدُّنْيَا أَشد الْجَزَاء.
وَالثَّالِث: أَنه يجازي فِي الْآخِرَة المطيعين والعاصين، فانبسطت من هُنَالك ثَلَاثَة عُلُوم، علم التَّذْكِير بآلاء الله، وَعلم التَّذْكِير بأيام الله، وَعلم التَّذْكِير بالمعاد، فَنزل الْقُرْآن الْعَظِيم شرحا لهَذِهِ الْعُلُوم.
وَإِنَّمَا عظمت الْعِنَايَة بشرح هَذِه الْعُلُوم لِأَن الْإِنْسَان خلق فِي أصل فطرته ميل إِلَى بارئه جلّ مجده، وَذَلِكَ الْميل أَمر دَقِيق لَا يتشبح إِلَّا بخليقته ومظنته، وخليقته ومظنته على مَا أثْبته الوجدان الصَّحِيح الْإِيمَان بِأَن الْعِبَادَة حق الله تَعَالَى على عباده لِأَنَّهُ منعم لَهُم مجَاز على أَعْمَالهم، فَمن أنكر الْإِرَادَة أَو ثُبُوت حَقه على الْعباد، أَو أنكر المجازاة، فَهُوَ الدهري الفاقد لِسَلَامَةِ فطرته، لِأَنَّهُ أفسد على نَفسه مَظَنَّة الْميل الفطري الْمُودع فِي جبلته ونائبه وخليفته والمأخوذ مَكَانَهُ.
وَإِن شِئْت أَن تعلم حَقِيقَة هَذَا الْميل، فَاعْلَم أَن فِي روح الْإِنْسَان لَطِيفَة نورانية تميل بطبعها إِلَى الله عز وجل ميل الْحَدِيد إِلَى المغناطيس، وَهَذَا أَمر مدرك بالوجدان، فَكل من أمعن فِي الفحص عَن لطائف نَفسه، وَعرف كل لَطِيفَة بحيالها لَا بُد أَن يدْرك هَذِه اللطيفة النورانية، وَيدْرك ميلها بطبعها إِلَى الله تَعَالَى، وَيُسمى ذَلِك الْميل عِنْد أهل الوجدان بالمحبة الذاتية، مثله كَمثل سَائِر الوجدانيات لَا يقتنص بالبراهين كجوع هَذَا الجائع وعطش هَذَا العطشان، فَإِذا كَانَ الْإِنْسَان فِي غاشية من أَحْكَام لطائفه السفلية
كَانَ بِمَنْزِلَة من اسْتعْمل مخدرا فِي جسده، فَلم يحس بالحرارة والبرودة فَإِذا هدأت لطائفه السفلية عَن الْمُزَاحمَة إِمَّا بِمَوْت اضطراري يُوجب تناثر كثير من أَجزَاء نسمته ونقصان كثير من خواصها وقواها، أَو بِمَوْت اخْتِيَاري وَتمسك حيل عَجِيبَة من الرياضات النفسانية والبدنية كَانَ كمن زَالَ المخدر عَنهُ، فَأدْرك مَا كَانَ عِنْده وَهُوَ لَا يشْعر بِهِ، فَإِذا مَاتَ الْإِنْسَان وَهُوَ غير مقبل على الله تَعَالَى، فَإِن كَانَ عدم إقباله جهلا بسيطا، وفقدا ساذجا، فَهُوَ شقي بِحَسب
الْكَمَال النوعي، وَقد يكْشف عَلَيْهِ بعض مَا هُنَالك، وَلَا يتم الانكشاف لفقد استعداده، فَبَقيَ حائرا مبهوتا، وَإِن كَانَ ذَلِك مَعَ قيام هَيْئَة مضادة فِي قواه العلمية أَو العملية كَانَ فِيهِ تجاذب، فانجذبت النَّفس الناطقة إِلَى صقع الجبروت، والنسمة بِمَا كسبت من الْهَيْئَة المضادة إِلَى السّفل، فَكَانَت فِيهِ وَحْشَة ساطعة من جَوْهَر النَّفس منبسطة على جوهرها وَرُبمَا أوجب ذَلِك تمثل واقعات هِيَ أشباح الوحشة، كَمَا يرى الصفراوي فِي مَنَامه النيرَان والشعل، وَهَذَا أصل تَوْجِيه حِكْمَة معرفَة النَّفس، وَكَانَ أَيْضا فِي تحديق غضب من الْمَلأ الْأَعْلَى يُوجب إلهامات فِي قُلُوب الْمَلَائِكَة وَغَيرهَا من ذَوَات الِاخْتِيَار أَن تعذبه وتؤلمه وَهَذَا أصل تَوْجِيه معرفَة أَسبَاب الخطرات والدواعي الناشئة فِي نفوس بني آدم.
وَبِالْجُمْلَةِ فالميل إِلَى صقيع الجبروت وَوُجُوب الْعَمَل بِمَا يفك وثَاقه من مزاحمة اللطائف السفلية الْمُؤَاخَذَة على ترك هَذَا الْعَمَل بِمَنْزِلَة أَحْكَام الصُّورَة النوعية وقواها وآثارها الفائضة فِي كل فَرد من أَفْرَاد النَّوْع من بارئ الصُّور ومفيض الْوُجُود وفْق الْمصلحَة الْكُلية لَا باصطلاح الْبشر والتزامهم على أنفسهم وجريان رسومهم بذلك فَقَط، وكل هَذِه الْأَعْمَال فِي الْحَقِيقَة حق هَذِه اللطيفة النورانية المنجذبة إِلَى الله وتوفير مقتضاها واصلاح عوجها، وَلما كَانَ هَذَا الْمَعْنى دَقِيقًا وَهَذِه اللطيفة لَا تدركها إِلَّا شرذمة
قَليلَة وَجب أَن ينْسب الْحق إِلَى مَا إِلَيْهِ مَالَتْ وإياه قصدت وَنَحْوه انتحت كَانَ ذَلِك تعْيين لبَعض قوى النَّفس الَّتِي مَالَتْ من جِهَته، وَكَأن ذَلِك اخْتِصَار قَوْلنَا حق هَذِه اللطيفة من جِهَة ميلها إِلَى الله، فَنزلت الشَّرَائِع الإلهية كاشفة عَن هَذَا السِّرّ بِعِبَارَة سهلة يفهمها الْبشر بعلومهم الفطرية، ويعطيها سنة الله من إِنْزَال الْمعَانِي الدقيقة فِي صور مُنَاسبَة لَهَا بِحَسب النشأة المثالية، كَمَا يتلَقَّى وَاحِد منا فِي مَنَامه معنى مُجَردا فِي صُورَة شَيْء ملازم لَهُ فِي الْعَادة أَو نَظِيره وَشبهه، فَقيل الْعِبَادَة حق الله تَعَالَى على عباده، وعَلى هَذَا يَنْبَغِي أَن يُقَاس حق الْقُرْآن. وَحقّ الرَّسُول، وَحقّ الْمولى، وَحقّ الْوَالِدين، وَحقّ الْأَرْحَام، فَكل ذَلِك حق نَفسه على نَفسه، لتكمل كمالها، وَلَا تقترف على نَفسهَا جورا، وَلَكِن نسب الْحق إِلَى من مَعَه هَذِه الْمُعَامَلَة، وَمِنْه الْمُطَالبَة، فَلَا تكن من الواقعين على الظَّوَاهِر، بل من الْمُحَقِّقين لِلْأَمْرِ على مَا هُوَ عَلَيْهِ.