الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْقُرْآن بلغتهم، وتعينت الشَّرِيعَة فِي عاداتهم، وَلذَلِك قدر الشَّرْع الْكَنْز بِخمْس
أَوَاقٍ لِأَنَّهَا تَكْفِي أقل أهل بَيت سنة كَامِلَة فِي أَكثر أَطْرَاف المعمورة - اللَّهُمَّ إِلَّا فِي الجدب أَو الْبِلَاد الْعَظِيمَة جدا أَو أَعمالهَا - وَقدر الثلَّة الصَّغِيرَة من الْغنم بِأَرْبَعِينَ، وَالْكَبِير بِمِائَة وَعشْرين، وَقدر الزَّرْع الْكثير بِخَمْسَة أوساق لِأَن أقل الْبَيْت زوج وَزَوْجَة وثالث أما خَادِم أَو ولد بَينهمَا، وَأكْثر مَا يَأْكُلهُ الْإِنْسَان فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة مد أَو رَطْل، وَيحْتَاج مَعَ ذَلِك إِلَى إدام، وَهَذَا الْقدر يَكْفِي من ذَلِك سنة كَامِلَة، وَقدر المَاء الْكثير بقلتين، وَلِأَنَّهُ حد لَا ينزل مِنْهُ الْمَعَادِن وَلَا يرتقي إِلَيْهِ الاوانى فِي عَادَة الْعَرَب وَقس على ذَلِك سَائِر التقديرات وَالله أعلم.
(بَاب أسرار الْقَضَاء والرخصة)
اعْلَم أَن من السياسة أَنه إِذا أَمر بِشَيْء، أَو نهي عَن شَيْء، وَكَانَ المخاطبون لَا يعلمُونَ الْغَرَض من ذَلِك حق الْعلم وَجب أَن يَجْعَل عِنْدهم كالشيء الْمُؤثر بالخاصية، يصدق بتأثيره، وَلَا يدْرك سَبَب التَّأْثِير، وكالرقي لَا يدْرك سَبَب تأثيرها وَلذَلِك سكت النَّبِي صلى الله عليه وسلم عَن بَيَان أسرار الْأَوَامِر والنواهي تَصْرِيحًا فِي الْأَكْثَر، وَإِنَّمَا لوح بِشَيْء مِنْهُ للراسخين فِي الْعلم من أمته، وَلذَلِك كَانَ اعتناء حَملَة الْملَّة من الْخُلَفَاء الرَّاشِدين وأئمة الدّين بِإِقَامَة أشباح الْملَّة أَكثر من الاعتناء بِإِقَامَة أرواحها حَتَّى روى عَن عمر رضي الله عنه أَنه قَالَ: أَحسب جِزْيَة الْبَحْرين وَأَنا فِي الصَّلَاة، وأجهز الْجَيْش وَأَنا فِي الصَّلَاة، وَلذَلِك كَانَ سنة الْمُفْتِينَ قَدِيما وحديثا أَلا يتَعَرَّضُوا لدَلِيل الْمَسْأَلَة عِنْد الافتاء، وَوَجَب أَن يسجل على الْأَخْذ بالمأمور حق التسجيل، ويلام على تَركه أَشد الْمَلَامَة، وَتجْعَل أنفسهم ترغب
فِيهَا وتألفها حق الرَّغْبَة والألفة حَتَّى تصير دَاعِيَة الْحق مُحِيطَة بظواهرهم وبواطنهم، وَإِذا كَانَ كَذَلِك، ثمَّ منع من الْمَأْمُور بِهِ مَانع ضَرُورِيّ - وَجب أَن يشرع لَهُ بدل يقوم مقَامه لِأَن الْمُكَلف حِينَئِذٍ بَين أَمريْن: إِمَّا أَن يُكَلف بِهِ مَعَ مَا فِيهِ من الْمَشَقَّة والحرج، وَذَلِكَ خلاف مَوْضُوع الشَّرْع. قَالَ الله تَعَالَى:
{يُرِيد الله بكم الْيُسْر وَلَا يُرِيد بكم الْعسر}
وَإِمَّا أَن ينْبذ وَرَاء الظّهْر بِالْكُلِّيَّةِ، فتألف النَّفس بِتَرْكِهِ، وتسترسل مَعَ إهماله، وَإِنَّمَا تمرن النَّفس تمرين الدَّابَّة الصعبة يغتنم مِنْهَا الألفة وَالرَّغْبَة، وَمن اشْتغل برياضة نَفسه أَو تَعْلِيم الْأَطْفَال أَو تمرين الدَّوَابّ وَنَحْو ذَلِك يعلم كَيفَ تحصل الألفة بالمداومة، ويسهل بِسَبَبِهَا الْعَمَل، وَكَيف تذْهب الألفة بِالتّرْكِ والإهمال، فتضيق النَّفس بِالْعَمَلِ، ويثقل عَلَيْهَا، فَإِن رام الْعود إِلَيْهِ احْتَاجَ إِلَى تَحْصِيل الالفة ثَانِيًا، فَلَا بُد إِذا من شرع الْقَضَاء إِذا فَاتَ وَقت الْعَمَل، وَمن الرُّخص فِي الْعَمَل ليتأتي مِنْهُ، ويتيسر لَهُ، والعمدة فِي ذَلِك الحدس الْمُعْتَمد على معرفَة حَال الْمُكَلّفين وغرض الْعَمَل وأجزائه الَّتِي لَا بُد مِنْهَا فِي تَحْصِيل ذَلِك الْغَرَض، وَمَعَ ذَلِك فَلهُ أصُول يعلمهَا الراسخون فِي الْعلم، أَحدهَا: أَن الرُّكْن وَالشّرط فيهمَا شَيْئَانِ:
أَحدهمَا الْأَصْلِيّ الَّذِي هُوَ دَاخل حَقِيقَة الشَّيْء، أَو لَازمه الَّذِي لَا يعْتَمد بِهِ بِدُونِهِ بِالنّظرِ إِلَى أصل الْغَرَض مِنْهُ كالدعاء وَفعل الانحناء الدَّال على التَّعْظِيم والتنبه لخلتى الطَّهَارَة والخشوع، وَهَذَا الْقسم من شَأْنه أَلا يتْرك فِي الْمُكْره والمنشط سَوَاء؛ إِذْ لَا يتَحَقَّق من الْعَمَل شَيْء عِنْد تَركه.
وَثَانِيهمَا التكميلي الَّذِي إِنَّمَا شرع لكَونه وَاجِبا لِمَعْنى آخر مُحْتَاجا إِلَى التَّوْقِيت، وَلَا وَقت لَهُ أحسن من هَذِه الطَّاعَة، أَو لِأَنَّهُ آلَة صَالِحَة لأَدَاء أصل الْغَرَض كَامِلا وافرا، وَهَذَا الْقسم من شَأْنه أَن يرخص فِيهِ عِنْد
المكاره، وعَلى هَذَا الأَصْل يَنْبَغِي أَن تخرج الرُّخْصَة فِي ترك اسْتِقْبَال الْقبْلَة إِلَى التَّحَرِّي فِي الظلمَة وَنَحْوهَا، وَترك ستر الْعَوْرَة لمن لَا يجد ثوبا، وَترك الْوضُوء إِلَى التَّيَمُّم لمن لَا يجد مَاء، وَترك الْفَاتِحَة إِلَى ذكر من الْأَذْكَار لمن لَا يقدر عَلَيْهَا، وَترك الْقيام إِلَى الْقعُود والاضطجاع لمن لَا يستطيعه وَترك الرُّكُوع وَالسُّجُود إِلَى الانحناء لمن لَا يستطيعها.
الأَصْل الثَّانِي: أَنه يَنْبَغِي أَن يلْتَزم فِي الْبَدَل شَيْء يذكر الأَصْل ويشعر بِأَنَّهُ نائبة وبدله، وسره تَحْقِيق الْغَرَض الْمَطْلُوب من شرع الرُّخص، وَهُوَ أَن تبقى الألفة بِالْعَمَلِ الأول، وَأَن تكون النَّفس كالمنتظرة، وَلذَلِك اشْترط فِي الْمسْح على الْخُفَّيْنِ الطَّهَارَة وَقت اللّبْس وَجعل لَهُ مُدَّة يَنْتَهِي إِلَيْهَا، وَاشْترط التَّحَرِّي فِي الْقبْلَة.
وَالْأَصْل الثَّالِث: أَنه لَيْسَ كل حرج يرخص لأَجله، فَإِن وُجُوه الْحَرج كَثِيرَة، والرخص فِي جَمِيع ذَلِك تُفْضِي إِلَى إهمال الطَّاعَة، وَالِاسْتِقْصَاء فِي ذَلِك نبغي العناء ومقاساة التَّعَب، وَهُوَ الْمُعَرّف لانقياد الشَّرْع واستقامة النَّفس، فاقتضت الْحِكْمَة أَلا يَدُور