الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَيجب أَن يبْحَث عَنهُ، أَيْضا إِن فعلهَا رِيَاء وَسُمْعَة أَو جريانا على عَادَة قومه أَو عَبَثا - فنص الْملَّة أَنه لَيْسَ بمطيع، وَلَا يعْتد بِفِعْلِهِ ذَلِك، وَإِن فعلهَا تقربا من الله، وأقدم عَلَيْهَا إِيمَانًا واحتسابا وَتَصْدِيقًا بالموعود، واستحضر النِّيَّة وأخلص دينه لله - فَلَا جرم أَنه فتح بَينه وَبَين الله بَاب، وَلَو كرأس إبرة، وَأما من أهلك الْمَدِينَة، وَنَجَا بِنَفسِهِ فَلَا نسلم أَنه نجا بِنَفسِهِ، كَيفَ وهنالك لله مَلَائِكَة أقْصَى همتهم الدُّعَاء لمن يسْعَى فِي إصْلَاح الْعَالم، وعَلى من سعى فِي إفساده، وَأَن دعوتهم تقرع بَاب الْجُود، وَيكون سَببا لنزول الْجَزَاء بِوَجْه من الْوُجُوه، بل هُنَالك لله تَعَالَى عناية بِالنَّاسِ توجب ذَلِك، ولدقة مدركها جعلنَا دَعْوَة الْمَلَائِكَة عنوانا لَهَا، وَالله أعلم.
(بَاب أسرار الحكم وَالْعلَّة)
اعْلَم أَن للعباد أفعالا يرضى لأَجلهَا رب الْعَالمين عَنْهُم، وأفعالا يسْخط لأَجلهَا عَلَيْهِم، وأفعالا لَا تَقْتَضِي رضَا وَلَا سخطا، فاقتضت حكمته الْبَالِغَة وَرَحمته التَّامَّة أَن يبْعَث إِلَيْهِم الْأَنْبِيَاء، ويخبرهم على ألسنتهم بتعلق الرِّضَا والسخط بِتِلْكَ الْأَفْعَال، وَيطْلب مِنْهُم الْفَصْل الأول، وَينْهى عَن الثَّانِي، ويخيرهم فِيمَا سوى ذَلِك:{ليهلك من هلك عَن بَيِّنَة وَيحيى من حَيّ عَن بَيِّنَة} .
فَتعلق الرِّضَا والسخط بِالْفِعْلِ، وَكَونه غفلا مِنْهُمَا، وَكَون الشَّيْء بِحَيْثُ يطْلب مِنْهُم، وَينْهَوْنَ عَنهُ، ويخيرون فِيهِ أيا مَا شِئْت، فَقل هُوَ الحكم.
والطلب مِنْهُ مُؤَكد يَقْتَضِي الرِّضَا وَالثَّوَاب على فعل الْمَطْلُوب، والسخط
وَالْعِقَاب على تَركه، وَمِنْه غير مُؤَكد يَقْتَضِي الرِّضَا وَالثَّوَاب على فعل الْمَطْلُوب دون السخط وَالْعِقَاب على تَركه.
وَكَذَلِكَ النَّهْي مِنْهُ مُؤَكد يَقْتَضِي الرِّضَا وَالثَّوَاب على الْكَفّ مِنْهُ لأجل النَّهْي، وَيَقْتَضِي السخط وَالْعِقَاب على فعل الْمنْهِي عَنهُ، وَمِنْه غير مُؤَكد يَقْتَضِي الرِّضَا وَالثَّوَاب على الْكَفّ عَنهُ لأجل النَّهْي دون السخط وَالْعِقَاب على فعله وَاعْتبر بِمَا عنْدك من أَلْفَاظ الطّلب وَالْمَنْع وبمحاورات النَّاس فِي ذَلِك، فَإنَّك ستجد
تَثْنِيَة كل قسم من جِهَة سريان الرِّضَا والسخط فِي ضد الْمَنْطُوق أَولا أمرا طبيعيا لَا محيص عَنهُ، فالأحكام خَمْسَة: إِيجَاب، وَندب، وَإِبَاحَة، وكراهية، وَتَحْرِيم، وَالَّذِي يُؤْتى بِهِ فِي مُخَاطبَة النَّاس لَا يُمكن أَن يكون حَال كل فعل على حِدته من أَفعَال الْمُكَلّفين لعدم انحصارها، وَلعدم استطاعة النَّاس الْإِحَاطَة بعلمها، فَوَجَبَ إِذا أَن يكون مَا يخاطبون بِهِ قضايا كُلية معنوية بوحدة تنظم كَثْرَة، ليحيطوا بهَا علما، فيعرفوا مِنْهَا حَال أفعالهم، وَلَك عِبْرَة بالصناعات الْكُلية الَّتِي جعلت لتَكون قانونا فِي الْأُمُور الْخَاصَّة يَقُول النَّحْوِيّ: الْفَاعِل مَرْفُوع فيعي مقَالَته السَّامع، فَيعرف بهَا حَال زيد فِي قَوْلنَا قَامَ زيد، وَعمر فِي قَوْلنَا قعد عمر، وهلم جرا، وَتلك الْوحدَة الَّتِي تنظم كَثْرَة هِيَ الْعلَّة الَّتِي يَدُور الحكم على دوراناها وَهِي قِسْمَانِ:
قسم يعْتَبر فِيهَا حَالَة تُوجد فِي الْمُكَلّفين، وَلَا يُمكن أَن تكون حَالَة دائمة لَا تنفك عَنْهُم، فَيكون مَضْمُون الْخطاب تكليفهم بِالْأَمر دَائِما إِذْ لَا يَسْتَطِيعُونَ ذَلِك اللَّهُمَّ إِلَّا فِي الْإِيمَان خَاصَّة فَلَا جرم أَن تعْتَبر حَالَة مركبة من صفة لَازِمَة فِي الْمُكَلف بهَا يَصح كَونه مُخَاطبا وهيئة طارئة تنوبه مرّة بعد مرّة، وَأكْثر مَا يكون هَذَا الْقسم فِي الْعِبَادَات والهيئة إِمَّا وَقت أَو استطاعة ميسرَة أَو مَظَنَّة حرج، أَو إِرَادَة شَيْء، وَنَحْو ذَلِك كَقَوْل الشَّرْع " من أدْرك وَقت الصَّلَاة، وَهُوَ عَاقل بَالغ وَجب عَلَيْهِ أَن يُصليهَا، وَمن شهد الشَّهْر، وَهُوَ عَاقل بَالغ مطيق وَجب عَلَيْهِ أَن يَصُومهُ، وَمن ملك نِصَابا، وَحَال عَلَيْهِ الْحول وَجب أَن يُزَكِّيه، وَمن كَانَ على سفر جَازَ لَهُ الْقصر والإفطار، وَمن أَرَادَ
الصَّلَاة، وَكَانَ مُحدثا وَجب عَلَيْهِ الْوضُوء " وَفِي مثل هَذَا رُبمَا تسْقط الصِّفَات الْمُعْتَبرَة فِي أَكثر الْأَوَامِر، وتخص الصّفة الَّتِي بهَا امتاز بَعْضهَا من الْبَعْض، فيسامح بتسميتها عِلّة، فَيُقَال عِلّة الصَّلَاة إِدْرَاك الْوَقْت، وَعلة الصَّوْم شُهُود الشَّهْر، وَرُبمَا يَجْعَل الشَّارِع لبَعض تِلْكَ الْأَوْصَاف دون بعض أثرا، كَمَا جوز تَعْجِيل الزَّكَاة لسنة أَو سنتَيْن لمن ملك النّصاب دون من لم يملكهُ، فَيعْطى الْفَقِيه كل ذِي حق حَقه، فيخص بَعْضهَا بِسَبَب وَالْآخر بِالشّرطِ.
وَقسم يعْتَبر فِيهِ حَال مَا يَقع عَلَيْهِ الْفِعْل أَو يلابسه، وَهِي إِمَّا صفة لَازِمَة لَهُ كَقَوْل الشَّارِع: يحرم شرب الْخمر، وَيحرم أكل الْخِنْزِير، وَيحرم أكل كل ذِي نَاب من السبَاع وكل ذِي مخلب من الطير، وَيحرم نِكَاح الْأُمَّهَات أَو صفة طارئة تنوبه كَقَوْلِه تَعَالَى:{وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} .
وَقَوله تَعَالَى: {الزَّانِيَة وَالزَّانِي فاجلدوا كل وَاحِد مِنْهُمَا مائَة جلدَة} .
وَرُبمَا يجمع بَين اثْنَيْنِ فَصَاعِدا من أَحْوَال مَا يَقع عَلَيْهِ الْفِعْل، كَقَوْل الشَّارِع: يجب رجم الزَّانِي الْمُحصن، وَجلد زَان غير مُحصن، وَرُبمَا يجمع بَين حَال الْمُكَلف وَحَال مَا يَقع عَلَيْهِ الْفِعْل، كَقَوْل الشَّارِع: يحرم الذَّهَب وَالْحَرِير على رجال الْأمة دون نسائها.
وَلَيْسَ فِي دين الله جزاف، فَلَا يتَعَلَّق الرِّضَا والسخط بِتِلْكَ الْأَفْعَال إِلَّا بِسَبَب، وَذَلِكَ أَن هَهُنَا شخوصا يتَعَلَّق بهَا الرِّضَا والسخط فِي الْحَقِيقَة وَهِي نَوْعَانِ: أَحدهمَا الْبر والاثم والارتفاقات وإضاعتها وَمَا يحذو حَذْو ذَلِك، وَثَانِيهمَا مَا يتَعَلَّق بالشرائع والمناهج من سد بَاب التحريف والاحتراز
من التسلل وَنَحْو ذَلِك، وَلها محَال ولوازم يتعلقان بهَا بالغرض، وينسبان إِلَيْهَا توسعا، نَظِيره مَا يُقَال من أَن عِلّة الشِّفَاء تنَاول الدَّوَاء، وَإِنَّمَا الْعلَّة فِي الْحَقِيقَة نضج الأخلاط أَو إخْرَاجهَا وَهُوَ شَيْء يعقب الدَّوَاء فِي الْعَادة، وَلَيْسَ هُوَ هُوَ، وَيُقَال عِلّة الْحمى قد تكون الْجُلُوس فِي الشَّمْس، وَقد تكون الْحَرَكَة المنعبة، وَقد تكون تنَاول غذَاء حَار، وَالْعلَّة فِي الْحَقِيقَة سخونة الأخلاط، وَهِي وَاحِدَة فِي ذَاتهَا وَلكنهَا طرق إِلَيْهَا وأشباح لَهَا، وَكَانَ الِاكْتِفَاء بالأصول وَترك اعْتِبَار تعدد الطّرق والمحال لِسَان المتعقمين فِي الْفُنُون النظرية دون الْعَامَّة، وَإِنَّمَا نزل الشَّرْع بِلِسَان الْجُمْهُور، وَيجب أَن يكون عِلّة الحكم صفة يعرفهَا الْجُمْهُور وَلَا تخفى عَلَيْهِم حَقِيقَتهَا وَلَا وجودهَا من عدمهَا، وَيكون مَظَنَّة لأصل من الْأُصُول الَّتِي تعلق بهَا الرِّضَا والسخط إِمَّا لكَونهَا مفضية إِلَيْهِ، أَو مجاورة لَهُ، وَنَحْو ذَلِك كشرب الْخمر فَإِنَّهُ مَظَنَّة لمفاسد يتَعَلَّق بهَا السخط من الْإِعْرَاض عَن الْإِحْسَان والإخلاد إِلَى الأَرْض وإفساد نظام الْمَدِينَة والمنزل، وَكَانَ لَازِما لَهَا غَالِبا، فَتوجه الْمَنْع إِلَى نوع الْخمر.
وَإِذا كَانَ لشَيْء لَوَازِم وطرق لم يخص للعلية مِنْهَا إِلَّا مَا تميز من سَائِر مَا هُنَالك برجحان من جِهَة الظُّهُور والانضباط أَو من جِهَة لُزُوم الأَصْل أَو نَحْو ذَلِك كرخصة الْقصر والإفطار - أديرت على السّفر وَالْمَرَض دون سَائِر مظنات الْحَرج؛ لِأَن الأكساب الشاقة كالفلاحة والحدادة وَإِن كَانَ يلْزمهَا الْحَرج لَكِنَّهَا مخلة بِالطَّاعَةِ لِأَن المكتسب بهَا يداوم عَلَيْهَا، ويتوقف عَلَيْهَا معاشه وَأما وجود الْحر وَالْبرد فَغير منضبط لِأَن لَهما مَرَاتِب مُخْتَلفَة يعسر إحصاؤها وَتَعْيِين شَيْء مِنْهَا بأمارات وعلامات، وَإِنَّمَا يعْتَبر عِنْد السبر مظنات كَانَت فِي الْأمة الأولى أكثرية مَعْرُوفَة، وَكَانَ السّفر وَالْمَرَض بِحَيْثُ لَا يشْتَبه عَلَيْهِم الْأَمر فيهمَا، وَإِن كَانَ الْيَوْم بعض الِاشْتِبَاه لانقراض الْعَرَب الأول وتعمق النَّاس فِي الِاحْتِمَالَات حَتَّى فسد ذوقهم السَّلِيم الَّذِي يجده قح الْعَرَب، وَالله أعلم.