الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَمِنْهَا أَن تكون الْمصلحَة الْمَقْصُودَة بِهِ وجود نظام، وَلَا يلْحق بِتَرْكِهِ فَسَاد حَال النَّفس وَغَلَبَة البهيمية، كالقضاء، وَتعلم عُلُوم الدّين، وَالْقِيَام بالخلافة، فَإِنَّهَا شرعت للنظام، وَتحصل بِقِيَام رجل وَاحِد بهَا وكعيادة الْمَرِيض وَالصَّلَاة على الْجِنَازَة، فان الْمَقْصُود أَلا تضيع المرضى والموتى، وَتحصل بِقِيَام الْبَعْض بهَا، وَالله أعلم.
(بَاب أسرار الْأَوْقَات)
لَا تتمّ سياسة الْأمة إِلَّا بِتَعْيِين أَوْقَات طاعاتها، وَالْأَصْل فِي التَّعْيِين الحدس الْمُعْتَمد على معرفَة حَال الْمُكَلّفين وَاخْتِيَار مَا لَا يشق عَلَيْهِم، وَهُوَ يَكْفِي من الْمَقْصُود، وَمَعَ ذَلِك فَفِيهِ حكم ومصالح يعلمهَا الراسخون فِي الْعلم، وَهِي ترجع إِلَى أصُول ثَلَاث.
أَحدهَا أَن الله تَعَالَى وَإِن كَانَ متعاليا عَن الزَّمَان لَكِن قد تظاهرت
الْآيَات وَالْأَحَادِيث على أَنه فِي بعض الْأَوْقَات يتَقرَّب إِلَى عباده، وَفِي بَعْضهَا تعرض عَلَيْهِ الْأَعْمَال، وَفِي بَعْضهَا يقدر الْحَوَادِث إِلَى غير ذَلِك من الْأَحْوَال المتجددة، وَإِن كَانَ لَا يعلم كنه حَقِيقَتهَا إِلَّا الله تَعَالَى قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم:" ينزل رَبنَا كل لَيْلَة إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا حِين يبْقى ثلث اللَّيْل الآخر " وَقَالَ: " إِن أَعمال الْعباد تعرض يَوْم الِاثْنَيْنِ وَيَوْم الْخَمِيس " وَقَالَ فِي لَيْلَة النّصْف من شعْبَان: " إِن الله ليطلع فِيهَا " وَفِي رِوَايَة " ينزل فِيهَا إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا " وَالْأَحَادِيث فِي هَذَا الْبَاب كَثِيرَة مَعْلُومَة.
وَبِالْجُمْلَةِ فَمن ضروريات الدّين أَن هُنَالك أوقاتا يحدث فِيهَا شَيْء من انتشار الروحانية فِي الأَرْض وسريان قُوَّة مثالية فِيهَا، وَلَيْسَ وَقت أقرب لقبُول الطَّاعَات واستجابة الدَّعْوَات من تِلْكَ الْأَوْقَات، فَفِي أدنى سعي حِينَئِذٍ يتفتح بَاب عَظِيم من انقياد البهيمية للملكية، وَالْمَلَأ الْأَعْلَى لَا يعْرفُونَ انتشار تِلْكَ الروحانية وسريان تِلْكَ الْقُوَّة بِحِسَاب الدورات الفلكية، بل بالذوق والوجدان، وَبِأَن ينطبع شَيْء فِي قُلُوبهم، فيعلموا أَن هُنَالك قَضَاء نازلا وانتشارا للروحانية وَنَحْو ذَلِك، وَهَذَا هُوَ الْمعبر عَنهُ فِي الحَدِيث " بِمَنْزِلَة سلسلة على صَفْوَان ".
والأنبياء عليهم السلام تنطبع تِلْكَ الْعُلُوم فِي قُلُوبهم من الْمَلأ الْأَعْلَى، فيدركونها بالوجدان دون حِسَاب الدورات الفلكية، ثمَّ يجتهدون فِي نصب مَظَنَّة لتِلْك السَّاعَة، فيأمرون الْقَوْم بالمحافظة عَلَيْهَا.
فَمن تِلْكَ السَّاعَات مَا يَدُور بدوران السنين، وَذَلِكَ بقوله تبارك وتعالى:
وفيهَا تعيّنت روحانية الْقُرْآن فِي السَّمَاء الدُّنْيَا، وَاتفقَ أَنَّهَا كَانَت فِي رَمَضَان.
وَمِنْهَا مَا يَدُور بدوران الْأُسْبُوع، وَهِي سَاعَة خَفِيفَة ترجى فِيهَا استجابة الدُّعَاء وَقبُول الطَّاعَات، وَإِذا انْتقل النَّاس إِلَى الْمعَاد كَانَت تِلْكَ هِيَ سَاعَة تجلى الله عَلَيْهِم وتقربه مِنْهُم، وَقد بَين النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَن مظنتها يَوْم الْجُمُعَة اسْتدلَّ على ذَلِك بِأَن الْحَوَادِث الْعَظِيمَة وَقعت فِيهِ كخلق آدم عليه السلام، وَبِأَن الْبَهَائِم رُبمَا تتلقى من الْمَلأ السافل علما بِعظم تِلْكَ السَّاعَة، فَتَصِير دهشة مرعوبة كَالَّذي هاله صَوت عَظِيم، وَأَنه شَاهد ذَلِك فِي يَوْم الْجُمُعَة. وَمِنْهَا مَا يَدُور بدوران الْيَوْم وَتلك روحانية أَضْعَف من الروحانيات الْأُخْرَى، وَقد أَجمعت أذواق من شَأْنهمْ التلقي من الْمَلأ الْأَعْلَى على أَنَّهَا أَربع سَاعَات قبيل طُلُوع الشَّمْس وبعيد استوائها وَبعد غُرُوبهَا وَفِي نصف اللَّيْل إِلَى السحر، فَفِي تِلْكَ الْأَوْقَات وَقبلهَا بِقَلِيل وَبعدهَا بِقَلِيل تَنْتَشِر الروحانية، وَتظهر الْبركَة، وَلَيْسَت فِي الأَرْض مِلَّة إِلَّا وَهِي تعلم أَن هَذِه الْأَوْقَات أقرب شَيْء من قبُول الطَّاعَات، لَكِن الْمَجُوس كَانُوا قد حرفوا الدّين، فَجعلُوا يعْبدُونَ الشَّمْس من دون الله، فسد النَّبِي صلى الله عليه وسلم مدْخل التحريف، فَغير تِلْكَ الْأَوْقَات إِلَى مَا لَيْسَ بِبَعِيد مِنْهَا وَلَا مفوت لأصل الْغَرَض، وَلم يفْرض عَلَيْهِم الصَّلَاة فِي نصف اللَّيْل لما فِي ذَلِك من الْحَرج، وَقد صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ:" إِن فِي اللَّيْل لساعة لَا يُوَافِقهَا عبد مُسلم يسْأَل الله تَعَالَى فِيهَا خيرا من أَمر الدُّنْيَا وَالْآخِرَة إِلَّا أعطَاهُ إِيَّاه " وَذَلِكَ كل لَيْلَة، وَعنهُ عليه الصلاة والسلام أَنه قَالَ:" أفضل الصَّلَاة نصف اللَّيْل وَقَلِيل فَاعله " وَسُئِلَ أَي الدُّعَاء أسمع؟ قَالَ " جَوف اللَّيْل " وَقَالَ فِي سَاعَة الزَّوَال: " إِنَّهَا سَاعَة تفتح فِيهَا أَبْوَاب السَّمَاء، فَأحب أَن يصعد لي فِيهَا عملا صَالح " وَقَالَ " مَلَائِكَة النَّهَار تصعد إِلَيْهِ قبل مَلَائِكَة اللَّيْل ووقال " مَلَائِكَة اللَّيْل تصعد إِلَيْهِ قبل مَلَائِكَة النَّهَار " وَقد أَشَارَ الله تَعَالَى فِي مُحكم كِتَابه إِلَى هَذِه الْمعَانِي حَيْثُ قَالَ:
والنصوص فِي هَذَا الْبَاب كَثِيرَة مَعْلُومَة وَقد شاهدت مِنْهُ أمرا عَظِيما.
الأَصْل الثَّانِي أَن وَقت التَّوَجُّه إِلَى الله هُوَ وَقت كَون الْإِنْسَان خَالِيا عَن التشويشات الطبيعية، كالجوع المفرط والشبع المفرط، وَغَلَبَة النعاس، وَظُهُور الكلال، وَكَونه حاقبا حاقنا، والخيالية كامتلاء السّمع بالأراجيف واللغط، وَالْبَصَر بالصور الْمُخْتَلفَة والألوان المشوشة، وَنَحْو ذَلِك من أَنْوَاع التشويشات، وَذَلِكَ مُخْتَلف باخْتلَاف الْعَادَات، لَكِن الَّذِي يشبه أَن يكون كالمذهب الطبيعي لعربهم وعجمهم ومشارقتهم ومغاربتهم، وَالَّذِي يَلِيق أَن يتَّخذ دستورا فِي النواميس الْكُلية، وَالَّذِي يعد مُخَالفَة كالشيء النَّادِر - هُوَ الغدوة والدلجة، وَالْإِنْسَان يحْتَاج إِلَى مصقلة تزيل عَنهُ الرين بعد تمكنه من نَفسه، وَذَلِكَ إِذا أَوَى إِلَى فرَاشه، وَمَال للنوم؛ وَلذَلِك نهى صلى الله عليه وسلم عَن السمر بعد الْعشَاء وَعَن قرض الشّعْر بعده.
وسياسة الْأمة لَا تتمّ إِلَّا بِأَن يُؤمر بتعهد النَّفس بعد كل بُرْهَة من الزَّمَان حَتَّى يكون انْتِظَاره للصَّلَاة واستعداده لَهَا من قبل أَن يَفْعَلهَا، وَبَقِيَّة لَوْنهَا وصبابة نورها بعد أَن يَفْعَلهَا فِي حكم الصَّلَاة، فَيتَحَقَّق اسْتِيعَاب اكثر الْأَوْقَات إِن لم يكن اسْتِيعَاب كلهَا، وَقد جربنَا أَن النَّائِم على عَزِيمَة قيام اللَّيْل لَا يتغلغل فِي النّوم البهيمي، وَأَن المتوزع خاطره على ارتفاق دُنْيَوِيّ وعَلى مُحَافظَة وَقت صَلَاة أَو ورد أَلا يفوتهُ - لَا يتجرد للبهيمية، وَهَذَا سر
قَوْله صلى الله عليه وسلم " من تعار من اللَّيْل " الحَدِيث وَقَوله تَعَالَى:
{رجال لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَة وَلَا بيع عَن ذكر الله}
وَيصْلح أَن يَجْعَل الْفَصْل بَين كل وَقْتَيْنِ ربع النَّهَار، فَإِنَّهُ يحتوي على ثَلَاث سَاعَات، وَهِي أول حد كَثْرَة للمقدار الْمُسْتَعْمل عِنْدهم فِي تجزئة اللَّيْل وَالنَّهَار عربهم وعجمهم، وَفِي الْخَبَر " أَن أول من جزأ النَّهَار وَاللَّيْل إِلَى السَّاعَات نوح عليه السلام وتوارث ذَلِك بنوه ".
الأَصْل الثَّالِث أَن وَقت أَدَاء الطَّاعَة هُوَ الْوَقْت الَّذِي يكون مذكرا لنعمة من نعم الله تَعَالَى، مثل يَوْم عَاشُورَاء نصر الله تَعَالَى فِيهِ مُوسَى عليه السلام على فِرْعَوْن فصامه، وَأمر بصيامه، وكرمضان نزل فِيهِ الْقُرْآن، وَكَانَ ذَلِك ابْتِدَاء ظُهُور الْملَّة الإسلامية، أَو مذكراً لطاعة أَنْبيَاء الله تَعَالَى لرَبهم، وقبوله أياها مِنْهُم كَيَوْم الْأَضْحَى يذكر قصَّة ذبح إِسْمَاعِيل عليه السلام وفدائه بِذبح عَظِيم،