الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إِلَيْهِم، لَا يلْتَفت إِلَى الله أصلا، وَإِن كَانَ يعلم بِالنّظرِ البرهاني أَن سلسلة الْوُجُود تنصرم إِلَى الله، وَمِنْهُم من اعْتقد أَن الله هُوَ السَّيِّد وَهُوَ الْمُدبر، لكنه قد يخلع على بعض
عبيده لِبَاس الشّرف والتأله، ويجعله متصرفا فِي بعض الْأُمُور الْخَاصَّة، وَيقبل شَفَاعَته فِي عباده بِمَنْزِلَة ملك الْمُلُوك يبْعَث على كل قطر ملكا، ويقلده تَدْبِير تِلْكَ المملكة فِيمَا عدا الْأُمُور الْعِظَام، فيتلجلج لِسَانه أَن يسميهم عباد الله، فيسويهم وَغَيرهم، فَعدل عَن ذَلِك إِلَى تسميتهم أَبنَاء الله ومحبوبي الله، وسمى نَفسه عبدا لأولئك كَعبد الْمَسِيح وَعبد الْعُزَّى، وَهَذَا مرض جُمْهُور الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكين وَبَعض الغلاة من منافقي دين مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم يَوْمنَا هَذَا.
وَلما كَانَ مبْنى التشريع على إِقَامَة المظنة مقَام الأَصْل عد أَشْيَاء محسوسة هِيَ مظان الاشراك كفرا، كسجدة الْأَصْنَام، وَالذّبْح لَهَا، وَالْحلف باسمها، وأمثال ذَلِك، وَكَانَ أول فتح هَذَا الْعلم على أَن رفع لي قوم يَسْجُدُونَ لذباب صَغِير سمى لَا يزَال يُحَرك ذَنبه وأطرافه، فنفث فِي قلبِي هَل تَجِد فيهم ظلمَة الشّرك، وَهل أحاطت الْخَطِيئَة بِأَنْفسِهِم كَمَا تجدها فِي عَبدة الْأَوْثَان؟ قلت لَا أَجدهَا فيهم لأَنهم جعلُوا الذُّبَاب قبْلَة وَلم يخلطوا دَرَجَة تذلل بِالْأُخْرَى قيل فقد هديت إِلَى السِّرّ فَيَوْمئِذٍ ملئ قلبِي بِهَذَا الْعلم، وصرت على بَصِيرَة من الْأَمر، وَعرفت حَقِيقَة التَّوْحِيد والاشراك، وَمَا نَصبه الشَّرْع مظان لَهما، وَعرفت ارتباط الْعِبَادَة بِالتَّدْبِيرِ وَالله أعلم.
(بَاب أَقسَام الشّرك)
حَقِيقَة الشّرك أَن يعْتَقد إِنْسَان فِي بعض المعظمين من النَّاس أَن الْآثَار العجيبة الصادرة مِنْهُ إِنَّمَا صدرت لكَونه متصفا بِصفة من صِفَات الْكَمَال مِمَّا لم يعْهَد فِي جنس الْإِنْسَان، بل يخْتَص بِالْوَاجِبِ جلّ مجده لَا يُوجد فِي غَيره إِلَّا أَن يخلع هُوَ خلعة الألوهية على غَيره، أَو يُغني غَيره فِي ذَاته
وَيبقى بِذَاتِهِ أَو نَحْو ذَلِك مِمَّا يَظُنّهُ هَذَا المعتقد من أَنْوَاع الخرافات، كَمَا ورد فِي الحَدِيث " إِن الْمُشْركين كَانُوا يلبون بِهَذِهِ
الصِّيغَة: لبيْك لبيْك لَا شريك لَك - إِلَّا شَرِيكا هُوَ لَك، تملكه وَمَا ملك " فيتذلل عِنْده أقْصَى التذلل، ويعامل مَعَه مُعَاملَة الْعباد مَعَ الله تَعَالَى.
وَهَذَا معنى لَهُ أشباح وقوالب، وَالشَّرْع لَا يبْحَث إِلَّا عَن أشباحه وقوالبه الَّتِي بَاشَرَهَا النَّاس بنية الشّرك حَتَّى صَارَت مَظَنَّة للشرك ولازمه لَهُ فِي الْعَادة، كَسنة الشَّرْع فِي إِقَامَة الْعِلَل المتلازمة للْمصَالح والمفاسد مقَامهَا.
وَنحن نُرِيد أَن ننبهك على أُمُور جعلهَا الله تَعَالَى فِي الشَّرِيعَة المحمدية، على صَاحبهَا الصَّلَوَات والتسليمات مظنات للشرك، فَنهى عَنْهَا.
فَمِنْهَا أَنهم كَانُوا يَسْجُدُونَ للأصنام والنجوم، فجَاء النَّهْي عَن السَّجْدَة لغير الله قَالَ الله تَعَالَى:
{لَا تسجدوا للشمس وَلَا للقمر واسجدوا لله الَّذِي خَلقهنَّ} .
والاشراك فِي السَّجْدَة كَانَ متلازما للاشراك فِي التَّدْبِير كَمَا أومأنا إِلَيْهِ، وَلَيْسَ الْأَمر كَمَا يظنّ بعض الْمُتَكَلِّمين من أَن تَوْحِيد الْعِبَادَة حكم من أَحْكَام الله تَعَالَى مِمَّا يخْتَلف باخْتلَاف الْأَدْيَان لَا يطْلب بِدَلِيل برهاني، كَيفَ وَلَو كَانَ كَذَلِك لم يلْزمهُم الله تَعَالَى بتفرده بالتخليق وَالتَّدْبِير، كَمَا قَالَ عز من قَائِل:
{قل الْحَمد لله وَسَلام على عباده الَّذين اصْطفى آللَّهُ خير} .
إِلَى آخر خمسى آيَات، بل الْحمق أَنهم اعْتَرَفُوا بتوحيد الْخلق وبتوحيد التَّدْبِير فِي الْأُمُور الْعِظَام، وسلموا أَن الْعِبَادَة متلازمه مَعَهُمَا، لما أَشَرنَا إِلَيْهِ فِي تَحْقِيق معنى التَّوْحِيد فَلذَلِك ألزمهم الله بِمَا ألزمهم وَللَّه الْحجَّة الْبَالِغَة.
وَمِنْهَا أَنهم كَانُوا يستعينون بِغَيْر الله فِي حوائجهم من شِفَاء الْمَرِيض وغناء الْفَقِير، وينذرون لَهُم، يتوقعون إنْجَاح مقاصدهم بِتِلْكَ النذور، ويتلون اسماءهم رَجَاء بركتها، فَأوجب الله تَعَالَى عَلَيْهِم أَن يَقُولُوا فِي صلَاتهم:
{إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين} .
وَقَالَ تَعَالَى:
{فَلَا تدعوا مَعَ الله أحدا} .
وَلَيْسَ المُرَاد من الدُّعَاء الْعِبَادَة كَمَا قَالَه الْمُفَسِّرُونَ، بل هُوَ الِاسْتِعَانَة لقَوْله تَعَالَى:
{بل إِيَّاه تدعون فَيكْشف مَا تدعون} .
وَمِنْهَا أَنهم كَانُوا يسمون بعض شركائهم بَنَات الله وَأَبْنَاء الله، فنهو عَن ذَلِك أَشد النَّهْي، وَقد شرحنا سره من قبل.
وَمِنْهَا أَنهم كَانُوا يتخذون أَحْبَارهم وَرُهْبَانهمْ أَرْبَابًا من دون الله تَعَالَى بِمَعْنى أَنهم كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَن مَا أحله هَؤُلَاءِ حَلَال لَا بَأْس بِهِ فِي نفس الْأَمر وَأَن مَا حرمه هَؤُلَاءِ حرَام يؤاخذون بِهِ فِي نفس الْأَمر، وَلما نزل قَوْله تَعَالَى:
{اتَّخذُوا أَحْبَارهم وَرُهْبَانهمْ} . الْآيَة
سَأَلَ عدي بن حَاتِم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَن ذَلِك فَقَالَ: " كَانُوا يحلونَ لَهُم أَشْيَاء، فيستحلونها، ويحرمون عَلَيْهِم أَشْيَاء، فيحرمونها.
وسر ذَلِك أَن التَّحْلِيل وَالتَّحْرِيم عبارَة عَن تكوين نَافِذ فِي الملكوت أَن الشَّيْء الْفُلَانِيّ يُؤَاخذ بِهِ أَو لَا يُؤَاخذ بِهِ، فَيكون هَذَا التكوين سَببا للمؤاخذة وَتركهَا، وَهَذَا من صِفَات الله تَعَالَى، وَأما نِسْبَة التَّحْلِيل وَالتَّحْرِيم
إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم فبمعنى أَن قَوْله أَمارَة قَطْعِيَّة لتحليل الله وتحريمه و، أما نسبتها إِلَى الْمُجْتَهدين من أمته فبمعنى روايتهم ذَلِك عَن الشَّرْع من نَص الشَّارِع أَو استنباط معنى من كَلَامه.
وَاعْلَم أَن الله تَعَالَى إِذا بعث رَسُولا وَثَبت رسَالَته بالمعجزة، وَأحل على لِسَانه بعض مَا كَانَ حَرَامًا عِنْدهم، وَوجد بعض النَّاس فِي نَفسه انجحاما عَنهُ، وَبَقِي فِي نَفسه ميل إِلَى حرمته لما وجد فِي مِلَّته من تَحْرِيمه فَهَذَا على وَجْهَيْن: إِن كَانَ لتردد فِي ثُبُوت هَذِه الشَّرِيعَة، فَهُوَ كَافِر بِالنَّبِيِّ، وَإِن كَانَ لاعتقاد وُقُوع التَّحْرِيم الأول تَحْرِيمًا لَا يحْتَمل النّسخ لأجل أَنه تبارك وتعالى خلع على عبد خلعة الألوهية، أَو صَار فانيا فِي الله بَاقِيا بِهِ، فَصَارَ نَهْيه عَن فعل أَو كراهيته لَهُ مستوجبا لحرم فِي مَاله وَأَهله، فَذَلِك مُشْرك بِاللَّه تَعَالَى، مُثبت لغيره غَضبا وسخطا مقدسين وتحليلا وتحريما مقدسين.
وَمِنْهَا أَنهم كَانُوا يَتَقَرَّبُون إِلَى الْأَصْنَام والنجوم بِالذبْحِ لأجلهم، إِمَّا بالاهلال عِنْد الذَّبَائِح باسمائهم، وَأما بِالذبْحِ على الأنصاب الْمَخْصُوصَة لَهُم، فنهوا عَن ذَلِك،