الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَتَحْقِيق الْوَجْهَيْنِ أَن الْأَنْبِيَاء قبل النَّبِي صلى الله عليه وسلم كَانُوا يبعثون لي أقوامهم خَاصَّة، وَهُوَ محصورون يَتَأَتَّى الْجِهَاد مَعَهم فِي سنة أَو سنتَيْن وَنَحْو ذَلِك، وَكَانَ أممهم أقوياء يقدرُونَ على الْجمع بَين الْجِهَاد والتسبب بِمثل الفلاحة وَالتِّجَارَة، فَلم يكن لَهُم حَاجَة إِلَى الْغَنَائِم، فَأَرَادَ الله تَعَالَى أَلا يخلط بعملهم غَرَض دُنْيَوِيّ، ليَكُون أتم لأجورهم، وَبعث نَبينَا صلى الله عليه وسلم إِلَى كَافَّة النَّاس، وهم غير مَحْصُورين، وَلَا كَانَ زمَان الْجِهَاد مَعَهم محصورا، وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ الْجمع بَين الْجِهَاد والتسبب بِمثل الفلاحة وَالتِّجَارَة، فَكَانَ لَهُم حَاجَة إِلَى إِبَاحَة الْغَنَائِم، وَكَانَت أمته لعُمُوم دَعوته تشْتَمل نَاسا ضعفاء فِي النِّيَّة، وَفِيهِمْ ورد " - أَن الله يُؤَيّد هَذَا الدّين بِالرجلِ الْفَاجِر " لَا يُجَاهد أُولَئِكَ إِلَّا لغَرَض عَاجل وَكَانَت الرَّحْمَة شملتهم فِي أَمر الْجِهَاد شمولا عَظِيما، وَكَانَ الْغَضَب مُتَوَجها إِلَى أعدائهم توجها عَظِيما، وَهُوَ
قَوْله صلى الله عليه وسلم: " إِن الله نظر إِلَى أهل الأَرْض، فمقت عربهم وعجمهم " فَأوجب ذَلِك زَوَال عصمَة أَمْوَالهم وَدِمَائِهِمْ على الْوَجْه الأتم، وَأوجب إغاظة قُلُوبهم بِالتَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالهم، كَمَا أهْدى إِلَى الْحرم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بعير أبي جهل فِي أَنفه برة فضَّة يغِيظ الْكفَّار، وكما أَمر بِقطع النخيل وإحراقها إغاظة لأَهْلهَا، فَلذَلِك نزل الْقُرْآن بِإِبَاحَة الْغَنَائِم لهَذِهِ الْأمة.
مِثَال آخر لم يحرم لهَذِهِ الْأمة قتال الْكفَّار فِي أول الْأَمر، وَلم يكن حِينَئِذٍ هُنَاكَ جند وَلَا خلَافَة، ثمَّ لما هَاجر النَّبِي صلى الله عليه وسلم، وثاب الْمُسلمُونَ، وَظَهَرت الْخلَافَة، وتمكنوا من مجاهدة أَعدَاء الله أنزل الله تَعَالَى:
{أذن للَّذين يُقَاتلُون بِأَنَّهُم ظلمُوا وَإِن الله على نَصرهم لقدير} .
وَفِي هَذَا الْقسم قَوْله تَعَالَى:
{مَا ننسخ من آيَة أَو ننسها نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا} .
فَقَوله: (بِخَير مِنْهَا) فِيمَا تكون النُّبُوَّة مَضْمُومَة بالخلافة وَقَوله: (أَو مثلهَا) فِيمَا يخْتَلف الحكم باخْتلَاف المظان، وَالله أعلم.
(بَاب بَيَان مَا كَانَ عَلَيْهِ حَال أهل الْجَاهِلِيَّة فاصلحه النَّبِي صلى الله عليه وسلم
إِن كنت تُرِيدُ النّظر فِي مَعَاني شَرِيعَة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فتحقق أَولا حَال الْأُمِّيين الَّذين بعث فيهم الَّتِي هِيَ مَادَّة تشريعه، وَثَانِيا
كَيْفيَّة إِصْلَاحه لَهَا بالمقاصد الْمَذْكُورَة فِي بَاب التشريع والتيسير وَأَحْكَام الْملَّة،
فَاعْلَم أَنه صلى الله عليه وسلم بعث بالملة الحنيفية الإسماعيلية لإِقَامَة عوجها وَإِزَالَة تحريفها وإشاعة نورها، وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى:
وَلما كَانَ الْأَمر على ذَلِك وَجب أَن تكون أصُول تِلْكَ الْملَّة مسلمة، وسنتها مقررة إِذْ النَّبِي إِذا بعث إِلَى قوم فيهم بَقِيَّة سنة راشدة، فَلَا معنى لتغييرها وتبديلها، بل الْوَاجِب تقريرها، لِأَنَّهُ أطوع لنفوسهم وَأثبت عِنْد الِاحْتِجَاج عَلَيْهِم، وَكَانَ بَنو إِسْمَاعِيل توارثوا منهاج أَبِيهِم إِسْمَاعِيل، فَكَانُوا على تِلْكَ الشَّرِيعَة إِلَى أَن وجد عَمْرو بن لحي، فَأدْخل فِيهَا أَشْيَاء بِرَأْيهِ الكاسد، فضل، وأضل، وَشرع عبَادَة الْأَوْثَان، وسيب السوائب، وبحر البحائر، فهنالك بَطل الدّين، وَاخْتَلَطَ الصَّحِيح بالفاسد، وَغلب عَلَيْهِم الْجَهْل والشرك وَالْكفْر، فَبعث الله سيدنَا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم مُقيما لعوجهم ومصلحا لفسادهم فَنظر صلى الله عليه وسلم فِي شريعتهم، فَمَا كَانَ مِنْهَا مُوَافقا لمنهاج إِسْمَاعِيل عليه السلام أَو من شَعَائِر الله أبقاه، وَمَا كَانَ مِنْهَا تحريفا أَو افسادا أَو من شَعَائِر الشّرك وَالْكفْر أبْطلهُ وسجل على إِبْطَاله، وَمَا كَانَ من بَاب الْعَادَات وَغَيرهَا فَبين آدابها ومكروهاتها مِمَّا يحْتَرز بِهِ عَن غوائل الرسوم، وَنهى عَن الرسوم الْفَاسِدَة، وَأمر بالصالحة، وَمَا كَانَ من مَسْأَلَة أَصْلِيَّة أَو عملية تركت فِي الفترة أَعَادَهَا غضة طرية كَمَا كَانَت، فتمت بذلك نعْمَة الله، واستقام دينه، وَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة فِي زمَان النَّبِي صلى الله عليه وسلم يسلمُونَ جَوَاز بعثة الْأَنْبِيَاء، وَيَقُولُونَ بالمجازاة، ويعتقدون أصُول أَنْوَاع الْبر، ويتعاملون بالارتفاقات الثَّانِي وَالثَّالِث.
وَلَا يُنَافِي مَا قُلْنَاهُ وجود فرْقَتَيْن فيهم وَظُهُورهمَا وشيوعهما:
إِحْدَاهمَا الْفُسَّاق، والزنادقة، فالفساق يعْملُونَ الْأَعْمَال البهيمية أَو السبعية بِخِلَاف الْملَّة لغَلَبَة نُفُوسهم وَقلة تدينهم، فَأُولَئِك إِنَّمَا يخرجُون عَن حكم الْملَّة شَاهِدين على أنفسهم بِالْفِسْقِ، والزنادقة يجبلون على الْفَهم الأبتر لَا يَسْتَطِيعُونَ التَّحْقِيق التَّام الَّذِي قَصده صَاحب الْملَّة، وَلَا يقلدونه، وَلَا يسلمونه بِمَا أخبر، فهم على ريبهم يَتَرَدَّدُونَ على خوف من ملتهم، وَالنَّاس يُنكرُونَ عَلَيْهِم، ويونهم خَارِجين عَن الدّين خالعين ربقة الْملَّة عَن أَعْنَاقهم، وَإِذا كَانَ الْأَمر على مَا ذكرنَا من الْإِنْكَار وقبح الْحَال فخروجهم لَا يضر.
وَالثَّانيَِة الجاهلون الغافلون الَّذين لم يرفعوا رُءُوسهم إِلَى الدّين رَأْسا، وَلم يلتفتوا لفتة أصلا، وَكَانَ هَؤُلَاءِ أَكثر شَيْء فِي قُرَيْش وَمَا والاها لبعد عَهدهم عَن الْأَنْبِيَاء، وَهُوَ قَوْله تبارك وتعالى:
{لتنذر قوما مَا أَتَاهُم من نَذِير} .
غير انهم لم يبعدوا عَن المحجة كل الْبعد بِحَيْثُ لَا تثبت عَلَيْهِم الْحجَّة، وَلَا يتَوَجَّه عَلَيْهِم الْإِلْزَام، وَلَا يتَحَقَّق فيهم الإقحام.
فَمن تِلْكَ الْأُصُول القَوْل بِأَن لَا شريك لله فِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا فِيهَا من الْجَوَاهِر، وَلَا شريك لَهُ فِي تَدْبِير الْأُمُور الْعِظَام، وَأَنه لَا راد لحكمه وَلَا مَا نع لقضائه إِذا أبرم وَجزم وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
{وَلَئِن سَأَلتهمْ من خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض ليقون الله} .
وَقَوله:
وَقَوله تَعَالَى:
{ضل مَا تدعون إِلَّا إِيَّاه} .
وَلَكِن كَانَ من زندقتهم قَوْلهم: أَن هُنَاكَ أشخاص من الْمَلَائِكَة والأرواح تدبر أهل الأَرْض فِيمَا دون الْأُمُور الْعِظَام من إصْلَاح حَال العابد فِيمَا يرجع إِلَى خُصُوصِيَّة نَفسه وَأَوْلَاده وأمواله، وشبهوهم بِحَال الْمُلُوك بِالنِّسْبَةِ إِلَى ملك الْمُلُوك وبالحال الشفعاء والندماء بِالنِّسْبَةِ إِلَى السُّلْطَان الْمُتَصَرف بالجبروت، ومنشأ ذَلِك مَا نطقت بِهِ الشَّرَائِع من تَفْوِيض الْأُمُور إِلَى الْمَلَائِكَة واستجابة دُعَاء المقربين من النَّاس، فظنوا ذَلِك تَصرفا مِنْهُم كتصرف الْمُلُوك قِيَاسا للْغَائِب على الشَّاهِد وَهُوَ الْفساد.
وَمِنْهَا تنزيهه عَمَّا لَا يَلِيق بجنابه وَتَحْرِيم الْإِلْحَاد فِي أَسْمَائِهِ، لَكِن كَانَ من زندقتهم زعمهم أَن الله اتخذ الْمَلَائِكَة بَنَات، وَأَن الْمَلَائِكَة إِنَّمَا جعلُوا وَاسِطَة، ليكتسب الْحق مِنْهُم عَالما لَيْسَ عِنْده قِيَاسا على الْمُلُوك بِالنِّسْبَةِ إِلَى الجواسيس.
وَمِنْهَا أَن الله تَعَالَى قدر جَمِيع الْحَوَادِث قبل أَن يخلقها، وَهُوَ قَول الْحسن الْبَصْرِيّ: لم يزل أهل الْجَاهِلِيَّة يذكرُونَ الْقدر وخطبهم وأشهارهم، وَلم يزده الشَّرْع إِلَّا تَأْكِيدًا.
وَمِنْهَا أَن هُنَاكَ موطنا يتَحَقَّق فِيهِ الْقَضَاء بالحوادث شَيْئا فَشَيْئًا، وَأَن هُنَالك لأدعية الْمَلَائِكَة المقربين وأفاضل الْآدَمِيّين تَأْثِيرا بِوَجْه من الْوُجُوه، لَكِن صَار ذَلِك فِي أذهانهم متمثلا بشفاعة ندماء الْمُلُوك.
وَمِنْهَا أَنه كلف الْعباد بِمَا شَاءَ، فأحل وَحرم، وَأَنه مجَاز على الْأَعْمَال إِن خيرا فَخير،
وَإِن شرا فشر، وَأَن لله تَعَالَى مَلَائِكَة هم مقربو الحضرة
وأكابر المملكة، وَأَنَّهُمْ مدبرون فِي الْعَالم بأذن الله وبأمره، وَأَنَّهُمْ:
{لَا يعصون الله مَا أَمرهم ويفعلون مَا يؤمرون} .
وَأَنَّهُمْ لَا يَأْكُلُون وَلَا يشربون، وَلَا يَتَغَوَّطُونَ وَلَا ينْكحُونَ، وَأَنَّهُمْ قد يظهرون لأفاضل الْآدَمِيّين، فيبشرونهم، وينذرونهم، وَأَن الله قد يبْعَث إِلَى عباده بفضله ولطفه رجلا مِنْهُم، فليقى وحيه إِلَيْهِ، وَينزل الْملك عَلَيْهِ، وَأَنه يفْرض طَاعَته عَلَيْهِم، فَلَا يَجدونَ مِنْهَا بدا، وَلَا يَسْتَطِيعُونَ دونهَا محيصا، وَقد كثر ذكر الْمَلأ الْأَعْلَى وَحَملَة الْعَرْش فِي أشعار الْجَاهِلِيَّة. ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم صدق أُميَّة ابْن أبي الصَّامِت فِي بَيْتَيْنِ من شعره فَقَالَ:
(رجل وثور تَحت رجل يَمِينه
…
والنسر لِلْأُخْرَى وَلَيْث مرصد)
فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم صدق فَقَالَ؛
(وَالشَّمْس تطلع كل آخر لَيْلَة
…
حَمْرَاء يصبح لَوْنهَا يتورد)
(تأبى فَمَا تطلع لنا فِي رسلها
…
إِلَّا معذبة وَإِلَّا تجلد)
فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم: صدق.
وَتَحْقِيق هَذَا أَن أهل الْجَاهِلِيَّة كَانُوا يَزْعمُونَ أَن حَملَة الْعَرْش أَرْبَعَة أَمْلَاك، أحدهم فِي صُورَة الْإِنْسَان، وَهُوَ شَفِيع بني آدم عِنْد الله، وَالثَّانِي فِي صُورَة الثور، وَهُوَ شَفِيع الْبَهَائِم، وَالثَّالِث فِي صُورَة النسْر، وَهُوَ شَفِيع الطُّيُور، وَالرَّابِع فِي صُورَة الْأسد، وَهُوَ شَفِيع السبَاع، فقد ورد الشَّرْع
بقريب من ذَلِك إِلَّا أَنه سماهم جَمِيعهم وعولا، وَذَلِكَ بِحَسب مَا يظْهر فِي عَالم الْمِثَال من صورهم، فَهَذَا كُله كَانَ مَعْلُوما عِنْدهم مَعَ مَا دخل فِيهِ من قِيَاس الْغَائِب على الشَّاهِد وخلط المألوف بالأمور العلمية
…
، وَإِن كنت فِي ريب مِمَّا ذكرنَا، فَانْظُر فِيمَا قصّ الله تَعَالَى فِي الْقُرْآن الْعَظِيم وَاحْتج عَلَيْهِم بِمَا عِنْدهم من بَقِيَّة الْعلم، وكشف مَا أدخلوه فِيهِ من الشّبَه والشكوك لَا سِيمَا قَوْله تَعَالَى: لما أَنْكَرُوا نزُول الْقُرْآن
{قل من أنزل الْكتاب الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} .
وَلما قَالُوا.
{مَال هَذَا الرَّسُول يَأْكُل الطَّعَام وَيَمْشي فِي الْأَسْوَاق} .
أنزل قَوْله تَعَالَى:
{قل مَا كنت بدعا من الرُّسُل} .
وَمَا يشابه ذَلِك فتعلم من هُنَالك أَن الْمُشْركين وَإِن كَانُوا قد تباعدوا عَن المحجة الْمُسْتَقيم لَكِن كَانُوا بِحَيْثُ تقوم عَلَيْهِم الْحجَّة بِبَقِيَّة مَا عِنْدهم من الْعلم، وَانْظُر إِلَى خطب حكمائهم كقس بن سَاعِدَة. وَزيد بن عَمْرو بن نفَيْل، وَإِلَى أَخْبَار من كَانَ قبل عَمْرو بن لحى تَجِد ذَلِك مفصلا، بل لَو أمعنت فِي تصفح أخبارهم غَايَة الأمعان وجدت أفاضلهم وحكماءهم وَكَانُوا يَقُولُونَ بالمعاد
وبالحفظة وَغير ذَلِك، ويثبتون التَّوْحِيد على وَجهه حَتَّى قَالَ زيد بن عَمْرو ابْن نفَيْل فِي شعره:
(عِبَادك يخطئون وَأَنت رب
…
بكفيك المنايا والحتوم)
وَقَالَ أَيْضا:
(أربا وَاحِدًا أم ألف رب
…
أدين إِذا تقسمت الْأُمُور)
(تركت اللات والعزى جَمِيعًا
…
كَذَلِك يفعل الرجل الْبَصِير)
وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي أُميَّة بن أبي الصَّلْت: " آمن شعره، وَلم يُؤمن قلبه " وَذَلِكَ مِمَّا توارثوه من منهاج إِسْمَعِيل، وَدخل فيهم من أهل الْكتاب، وَكَانَ من الْمَعْلُوم عِنْدهم أَن كَمَال الْإِنْسَان أَن يسلم وَجهه لرَبه، ويغبده أقْصَى مجهوده.
وَإِن من أَبْوَاب الْعِبَادَة الطَّهَارَة، وَمَا زَالَ الْغسْل من الْجَنَابَة سنة معمولة عِنْدهم، وَكَذَلِكَ الْخِتَان وَسَائِر خِصَال الْفطْرَة، وَفِي التَّوْرَاة إِن الله تَعَالَى جعل الْخِتَان ميسمة على إِبْرَاهِيم وَذريته، وَهَذَا الْوضُوء يَفْعَله الْمَجُوس وَالْيَهُود وَغَيرهم، وَكَانَت تَفْعَلهُ حكماء الْعَرَب، وَكَانَت فيهم الصَّلَاة، وَكَانَ أَبُو ذَر رضي الله عنه يُصَلِّي قبل أَن يقدم على النَّبِي صلى الله عليه وسلم بِثَلَاث سِنِين، وَكَانَ قس بن سَاعِدَة الأيادي يُصَلِّي، وَالْمَحْفُوظ من الصَّلَاة فِي أُمَم الْيَهُود وَالْمَجُوس وَبَقِيَّة الْعَرَب أَفعَال تعظيمية لَا سِيمَا السُّجُود وأقوال من الدُّعَاء وَالذكر،
وَكَانَت فيهم الزَّكَاة، وَكَانَ الْمَعْمُول عِنْدهم مِنْهَا قرى الضَّيْف وَابْن السَّبِيل وَحمل الْكل وَالصَّدَََقَة على الْمَسَاكِين وصلَة الْأَرْحَام والإعانة فِي نَوَائِب الْحق، وَكَانُوا يمدحون بهَا، ويعرفون أَنَّهَا كَمَال الْإِنْسَان وسعادته، قَالَت خَدِيجَة فوَاللَّه: لَا يخزيك الله أبدا إِنَّك لتصل الرَّحِم، وتقرى الضَّيْف، وَتحمل
الْكل، وَتعين على نَوَائِب الْحق، وَقَالَ ابْن الدغنة لأبي بكر الصّديق رضي الله عنه مثل ذَلِك، وَكَانَ فيهم الصَّوْم من الْفجْر إِلَى غرُوب الشَّمْس، وَكَانَت قُرَيْش تَصُوم عَاشُورَاء فِي الْجَاهِلِيَّة وَكَانَ الْجوَار فِي الْمَسْجِد، وَكَانَ عمر نذر اعْتِكَاف لَيْلَة فِي الْجَاهِلِيَّة، فاستفتى فِي ذَلِك رَسُول صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ عَاص ابْن وَائِل أوصى أَن يعْتق عَنهُ كَذَا وَكَذَا من العبيد.
وَبِالْجُمْلَةِ كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يتحنثون بأنواع التحنثات، وَأما حج بَيت الله وتعظيم شَعَائِر وَالْأَشْهر الْحرم، فَأمره أظهر من أَن يخفى، وَكَانَ لَهُم أَنْوَاع من الرقى والتعوذات، وَكَانُوا أدخلُوا فِيهَا الاشراك، وَلم تزل سنتهمْ الذّبْح فِي الْحق والنحر فِي اللبة مَا كَانُوا يخنقون، وَلَا يبعجون، وَكَانُوا على بَقِيَّة دين إِبْرَاهِيم عليه السلام فِي ترك النُّجُوم وَترك الْخَوْض فِي دقائق الطبيعيات غير مَا ألجأ إِلَيْهِ البداهة، وَكَانَ الْعُمْدَة عِنْدهم فِي تقدمة الْمعرفَة الرُّؤْيَا وبشارات الْأَنْبِيَاء من قبلهم، ثمَّ دخل فِيهِ الكهانة والاستقسام بالازلام والطيرة، وَكَانُوا يعْرفُونَ أَن هَذِه لم تكن فِي أصل الْملَّة، وَهُوَ قَوْله صلى الله عليه وسلم حِين رأى صُورَة إِبْرَاهِيم وإسمعيل عليهما السلام فِي أَيْديهم الازلام:" لقد علمُوا أَنَّهُمَا لم يستقسما قطّ " وَكَانَ بَنو إِسْمَعِيل على منهاج أَبِيهِم إِلَى أَن وجد فيهم عَمْرو بن لحى - وَذَلِكَ قبل مبعث النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَرِيبا من سَبْعمِائة سنة، وَكَانَت لَهُم سنَن متأكدة يتلاومون على تَركهَا فِي مَأْكَلهمْ وَمَشْرَبهمْ ولباسهم وولائمهم وأعيادهم وَدفن موتاهم ونكاحهم وطلاقهم وعدتهم وإحدادهم، وبيوعهم ومعاملاتهم، وَمَا زَالُوا يحرمُونَ الْمَحَارِم كالبنات والأمهات وَالْأَخَوَات وَغَيرهَا، وَكَانَت
لَهُم مزاجر فِي مظالمهم كَالْقصاصِ والديات والقسامة وعقوبات على الزِّنَا وَالسَّرِقَة، وَدخلت فيهم من الاكاسرة والقياصرة عُلُوم الارتفاق الثَّالِث وَالرَّابِع، لَكِن دخلهم الفسوق والتظالم بِالسَّبْيِ والنهب وشيوع الزِّنَا والنكاحات الْفَاسِدَة والربا، وَكَانُوا تركُوا الصَّلَاة وَالذكر، وأعرضوا عَنْهُمَا فَبعث النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ