الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النَّجَاء، فأطاعه طَائِفَة من قومه، فأدلجوا، فَانْطَلقُوا على مهلهم، فنجوا، وكذيت طَائِفَة مِنْهُم، فَأَصْبحُوا مكانهم، فصبحهم الْجَيْش، فأهلكهم واجتاحهم، فَكَذَلِك مثل من أَطَاعَنِي، فَاتبع مَا جِئْت بِهِ، وَمثل من عَصَانِي، وَكذب مَا جِئْت بِهِ من الْحق ".
وَأما المجازاة بِالْوَجْهِ الرَّابِع، فَلَا تكون إِلَّا بعد بعثة الْأَنْبِيَاء، وكشف الشُّبْهَة وَصِحَّة التَّبْلِيغ.
{ليهلك من هلك عَن بَيِّنَة وَيحيى من حَيّ عَن بَيِّنَة} .
(بَاب اخْتِلَاف النَّاس فِي جبلتهم المستوجب لاخْتِلَاف أَخْلَاقهم وأعمالهم ومراتب كمالهم)
وَالْأَصْل فِيهِ مَا روى عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ: " إِذا سَمِعْتُمْ بجبل زَالَ عَن مَكَانَهُ، فصدقوه، وَإِذا سَمِعْتُمْ بِرَجُل تغير عَن خلقه، فَلَا تصدقوا بِهِ، فَإِنَّهُ يصير إِلَى مَا جبل عَلَيْهِ " وَقَالَ: " أَلا إِن بني آدم خلقُوا على طَبَقَات شَتَّى.
فَمنهمْ من يُولد مُؤمنا " فَذكر الحَدِيث بِطُولِهِ، وَذكر طبقاتهم فِي الْغَضَب تقاضي الدّين وَقَالَ: " النَّاس معادن كمعادن الذَّهَب وَالْفِضَّة " وَقَالَ الله تَعَالَى:
أَي طَرِيقَته الَّتِي جبل عَلَيْهَا
وَأَن شِئْت أَن تستجلي مَا فتح الله عَليّ فِي هَذَا الْبَاب، وفهمني من مَعَاني هَذِه الْأَحَادِيث (فَاعْلَم) أَن الْقُوَّة الملكية تخلق فِي النَّاس على وَجْهَيْن: أَحدهمَا الْوَجْه الْمُنَاسب بالملأ الْأَعْلَى الَّذِي شَأْنهمْ الانصباغ بعلوم الْأَسْمَاء وَالصِّفَات، وَمَعْرِفَة دقائق الجبروت، وتلقي النظام على وَجه الْإِحَاطَة بِهِ، واجتماع الهمة على طلب وجوده، وَالثَّانِي الْوَجْه الْمُنَاسب بالملأ السافل الَّذِي شَأْنهمْ انبعاث بداعية تترشح عَلَيْهِم من فَوْقهم من غير إحاطة، وَلَا اجْتِمَاع الهمة، وَلَا الْمعرفَة ونورانيه، ورفض للالواث البهيمية
وَكَذَلِكَ الْقُوَّة الْبَهِيمَة تخلق على وَجْهَيْن:
أَحدهمَا البهيمية الشَّدِيدَة الصفيقة كَهَيئَةِ الْفَحْل الفاره الَّذِي نَشأ فِي غذَاء عُزَيْر، وتدبير مُنَاسِب
فَكَانَ عَظِيم الْجِسْم شديده، وجهوري الصَّوْت، قوي الْبَطْش، ذَا همة نَافِذَة وتيه عَظِيم، وَغَضب وحسد قويين، وشبق وافر، منافسا فِي الْغَلَبَة والظهور، شُجَاع الْقلب.
وَالثَّانِي البهيمية الضعيفة المهلهلة كَهَيئَةِ الْحَيَوَان الخصى المخدج الَّذِي نَشأ فِي جَدب وتدبير غير مُنَاسِب، فَكَانَ حقير الْجِسْم ضعيفه، رَكِيك الصَّوْت، ضَعِيف الْبَطْش، جبان الْقلب، غير ذِي همة، وَلَا مُنَافَسَة فِي الْغَلَبَة والظهور، والقوتان جَمِيعًا لَهما جبلة تخصص أحد وجهيها، وَكسب يُؤَيّدهُ، ويقويه، ويمد فِيهِ
واجتماع القوتين فيهم أَيْضا يكون على وَجْهَيْن: فَتَارَة تجتمعان بالتجاذب تكون كل وَاحِدَة متوفرة فِي طلب مقتضياتها، طامحة فِي أقْصَى غاياتها مريدة سننها الطبيعي، فَلَا جرم أَن يَقع بَينهمَا التجاذب، فَإِن غلبت هَذِه اضمحلت آثَار تِلْكَ، وَكَذَلِكَ الْعَكْس، وَتارَة بالاصطلاح بِأَن تنزل الملكية عَن طلب حكمهَا الصراح إِلَى مَا يقرب مِنْهُ من عقل وسخاوة نفس وعفة وطبع، وإيثار النَّفْع الْعَام على انْتِفَاع نَفسه خَاصَّة، وَالنَّظَر إِلَى الآجل دون الِاقْتِصَار على العاجل، وَحب النَّظَافَة فِي جَمِيع مَا يتَعَلَّق بِهِ، وتترقي البهيمية من طلب حكمهَا الصراح إِلَى مَا لَيْسَ بِبَعِيد من الرَّأْي الْكُلِّي، وَلَا مضاد لَهُ، فتصطلحان وَيحصل مزاج لَا تخَالف فِيهِ، وَلكُل من مرتبتي الملكية والبهيمية والاجتماع طرفان ووسط وَمَا يقرب من طرف أَو وسط، وَكَذَلِكَ تذْهب الْأَقْسَام إِلَى غير النِّهَايَة إِلَّا أَن رُءُوس الْأَقْسَام المنفرزة بأحكامها، وَالَّتِي يعرف غَيرهَا بمعرفتها ثَمَانِيَة حَاصِلَة من انقسام الِاجْتِمَاع بالتجاذب إِلَى أَرْبَعَة ملكية عالية تَجْتَمِع مَعَ بهيمية شَدِيدَة، أَو
ضَعِيفَة،
أَو ملكية سافلة تَجْتَمِع مَعَ بهيمية شَدِيدَة أَو ضَعِيفَة والاجتماع بالاصطلاح أَيْضا إِلَى أَرْبَعَة مثلهَا، وَلكُل قسم حكم لَا يخْتَلف من وفْق لمعْرِفَة أَحْكَامهَا استراح من تشويشات كَثِيرَة.
وَنحن نذْكر هَهُنَا من ذَلِك مَا نحتاج إِلَيْهِ فِي هَذَا الْكتاب فأحوج النَّاس إِلَى الرياضات الشاقة من كَانَت بهيميته شَدِيدَة لَا سِيمَا صَاحب التجاذب، وأحظاها بالكمال من كَانَت ملكيته عالية لَكِن صَاحب الِاصْطِلَاح أحْسنهم عملا وآدبهم، وَصَاحب التجاذب إِذا انفلت من أسر البهيمية أَكْثَرهم علما، وَلَا يُبَالِي بآداب الْعَمَل كثير مبالاة، وأزهدهم فِي الْأُمُور الْعِظَام أضعفهم بهيمية، لَكِن صَاحب الْعَالِيَة يتْرك الْكل تفرغا للتوجه إِلَى الله، وَصَاحب السافلة إِن انفلت يتْركهُ للآخرة وَإِلَّا يتْركهُ كسلا ودعة، وأشدهم اقتحاما فِي الْأُمُور الْعِظَام أَشَّدهم بهيمية لَكِن صَاحب الْعَالِيَة أقومهم بالرياسات وَنَحْوهَا مِمَّا يُنَاسب الرَّأْي الْكُلِّي، وَصَاحب السافلة أَشَّدهم اقتحاما فِي نَحْو الْقِتَال وَحمل الأثقال، وَصَاحب التجاذب إِذا انْدفع إِلَى الْأَسْفَل أشتغل بِالْأَمر الدنيوي فَقَط، وَإِذا ترقى إِلَى الْأَعْلَى اشْتغل بِالْأَمر الديني وتهذيب النَّفس وتجريدها فَقَط، وَصَاحب الِاصْطِلَاح يشْتَغل بهما جَمِيعًا، ويقصدهما مرّة وَاحِدَة، وَمن كَانَت عاليته مِنْهُم فِي غَايَة الْعُلُوّ ينبعث إِلَى رياسة الدّين وَالدُّنْيَا مَعًا، وَيصير بَاقِيا بِمُرَاد الْحق وبمنزلة الْجَارِحَة. لَهُ فِي تَمام نظام كلي كالخلافة وإمامة الْملَّة، وَأُولَئِكَ هم الْأَنْبِيَاء وورثتهم، وأساطين النَّاس وسلاطينهم، وأولو الْأَمر مِنْهُم وَالَّذين يجب انقيادهم فِي دين الله أهل الِاصْطِلَاح، الْعَالِيَة ملكيتهم، وأطوعهم لأولئك أهل الِاصْطِلَاح السافلة ملكيتهم، فَإِنَّهُم يتلقون النواميس بأشباحها
وهيئاتها، وأطرفهم مِنْهُم أهل التجاذب، لأَنهم إِمَّا منهمكون فِي ظلمات الطبيعة، فَلَا يُقِيمُونَ السّنة الراشدة، أَو قاهرون عَلَيْهَا، فَإِن كَانُوا أهل علو عضوا على أَرْوَاح النواميس، وَكَانَت لَهُم مُسَامَحَة فِي أشباحها، وَكَانَ أَكثر همتهم معرفَة دقائق الجبروت والانصباغ بصبغها، وَإِن كَانُوا دون ذَلِك اهتموا بالرياضات والأوراد، وأعجبوا ببوارق الملكية من كشف وإشراف واستجابة الدُّعَاء وَنَحْو ذَلِك، وَلم يعضوا من النواميس بجذر قُلُوبهم إِلَّا على حيل قهر الطبيعة وجلب الْأَنْوَار،