الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَمِنْهَا أَنه إِذا كَانَ شَيْء يحْتَمل مفْسدَة كَانَ من حَقه أَن يكره كَقَوْلِه صلى الله عليه وسلم: " فَلَا يغمس يَده فِي الاناء، فَإِنَّهُ لَا يدْرِي أَيْن باتت يَده " وَبِالْجُمْلَةِ علم الله نبيه أحكاما من الْعِبَادَات والارتفاقات فبينها النَّبِي
صلى الله عليه وسلم بِهَذَا النَّحْو من الْبَيَان وَخرج مِنْهَا أحكاما جليلة فِي كل بَاب بَاب، وَهَذَا الْبَاب من الْبَيَان مَعَ الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى تلقاهما فُقَهَاء الْأمة من بَين عُلُوم النَّبِي صلى الله عليه وسلم ووعاهما قُلُوبهم بتدبر، فانشعب مِنْهَا مَا أودعوه فِي مصنفاتهم وكتبهم، وَالله أعلم.
(بَاب ضبط الْمُبْهم وتميز الْمُشكل والتخريج من الْكُلية وَنَحْو ذَلِك)
اعْلَم أَن كثير من الْأَشْيَاء الَّتِي أديرت الْأَحْكَام على أساميها مَعْلُوم بالمثال وَالْقِسْمَة، غير مَعْلُوم بِالْحَدِّ الْجَامِع الْمَانِع الَّذِي يكْشف حَال كل فَرد فَرد أَنه مِنْهُ أَولا كالسرقة قَالَ الله تَعَالَى:
{وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا}
أجري الْحَد على اسْم السَّارِق، وَمَعْلُوم أَن الْوَاقِع فِي قصَّة بني الأبيرق وَطعيمَة وَالْمَرْأَة المخزومية هِيَ السّرقَة وَمَعْلُوم أَن اخذ مَال الْغَيْر أَقسَام: مِنْهَا السّرقَة، وَمِنْهَا قطع الطَّرِيق، وَمِنْهَا الاختلاس، وَمِنْهَا الْخِيَانَة، وَمِنْهَا الِالْتِقَاط، وَمِنْهَا الْغَصْب، وَمِنْهَا قلَّة المبالاة، وَفِي مثل ذَلِك رُبمَا يسْأَل النَّبِي صلى الله عليه وسلم عَن صُورَة صُورَة هَل هِيَ من السّرقَة سُؤال مقَال أَو سُؤال حَال، فَيجب عَلَيْهِ أَن يبين حَقِيقَة السّرقَة متميزة عَمَّا يشاركها بِحَيْثُ يَتَّضِح حَال كل فَرد فَرد، وَطَرِيق التميز أَن ينظر إِلَى ذاتيات هَذِه الْأَسَامِي الَّتِي لَا تُوجد فِي السّرقَة، وَيَقَع بهَا التفارق بَين الْقبْلَتَيْنِ وَإِلَى ذاتيات السّرقَة الَّتِي يفهمها أهل الْعرف من تِلْكَ اللَّفْظَة، ثمَّ يضْبط السّرقَة بِأُمُور معنوية يحصل بهَا التَّمْيِيز، فَيعلم مثلا أَن قطع الطَّرِيق والحرابة وَنَحْوهمَا من الْأَسَامِي تنبئ عَن اعْتِمَاد الْقُوَّة بِالنِّسْبَةِ إِلَى المظلومين وَاخْتِيَار مَكَان أَو زمَان لَا يلْحق فِيهِ
الْغَوْث من الْجَمَاعَة، وَأَن الاختلاس يُنبئ عَن اختطاف على أعين النَّاس، وَفِي مرأى مِنْهُم ومسمع، والخيانة تنبئ عَن تقدم شركَة أَو مباسطة، وَحفظ الِالْتِقَاط يُنبئ عَن وجدان شَيْء فِي غير حرز،
وَالْغَصْب يُنبئ عَن غَلَبَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَظْلُوم جهرة مُعْتَمدًا على جدل أَو ظن أَلا ترفع الْقَضِيَّة إِلَى الْوُلَاة، أَو لَا ينْكَشف عَلَيْهِم جلية الْحَال، أَو لَا يقضوا بِحَق لنَحْو رشوة، وَقلة المبالاة تقال فِي الشَّيْء التافه الَّذِي جرى الْعرف ببذله والمواساة بِهِ كَالْمَاءِ والحطب، وَالسَّرِقَة تنبئ عَن الْأَخْذ خُفْيَة، فضبط النَّبِي صلى الله عليه وسلم السّرقَة بِربع دِينَار أَو ثَلَاثَة دَرَاهِم، ليتميز عَن التافه وَقَالَ:" لَيْسَ على خائن وَلَا منتهب وَلَا مختلس قطع " وَقَالَ " لَا قطع فِي ثَمَر مُعَلّق وَلَا فِي حريسة الْجَبَل " يُشِير إِلَى اشْتِرَاط الْحِرْز و، كالرفاهية الْبَالِغَة فَإِنَّهَا مفْسدَة غير مضبوطة، وَلَا متميز مواقع وجودهَا بأمارات ظَاهِرَة يُؤَاخذ بهَا الأداني والأقاصي، وَلَا يشْتَبه على أحد أَن الرَّفَاهِيَة متحققة فِيهَا، مَعْلُوم أَن عَادَة الْعَجم فِي اقتناء المراكب الفارهة والأبنية الشامخة وَالثيَاب الرفيعة والحلي المترفة وَنَحْو ذَلِك من الرَّفَاهِيَة الْبَالِغَة، وَمَعْلُوم أَن الترفه مُخْتَلف باخْتلَاف النَّاس، فترفه قوم تقشف عِنْد الآخرين، وجيد إقليم تافه فِي إقليم آخر، وَمَعْلُوم أَن الارتفاق قد يكون بالجيد وبالرديء وَالثَّانِي لَيْسَ بترفه
…
، والارتفاق بالجيد قد يكون من غير قصد إِلَى جودته، أَو من غير أَن يكون ذَلِك غَالِبا عَلَيْهِ فِي أَكثر أمره، فَلَا يُسمى فِي الْعرف مترفها، فَأطلق الشَّرْع التنبه على مفاسد الرَّفَاهِيَة مُطلقًا، وَخص أَشْيَاء وجدهم لَا يرتفقون بهَا إِلَّا للترفه، وَوجد الترفه بهَا عَادَة فَاشِية فيهم، وَرَأى أهل الْعَصْر من الْعَجم وَالروم كالمجمعين على ذَلِك، فنصبها مَظَنَّة للرفاهية الْبَالِغَة، وحرمها، وَلم ينظر إِلَى الارتفاقات النادرة، وَلَا إِلَى عَادَة الأقاليم الْبَعِيدَة، فتحريم الْحَرِير وأواني الذَّهَب وَالْفِضَّة من هَذَا الْبَاب، ثمَّ أَنه وجد حَقِيقَة الرَّفَاهِيَة اخْتِيَار الْجيد
من كل الارتفاق والأعراض عَن رَدِيئَة، والرفاهية الْبَالِغَة اخْتِيَار الْجيد وَترك الردئ من جنس وَاحِد، وَوجد من الْمُعَامَلَات مَا لَا يقْصد فِيهِ إِلَّا اخْتِيَار الْجيد والإعراض عَن الردئ من جنس وَاحِد اللَّهُمَّ إِلَّا فِي مواد قَليلَة لَا يعبأ بهَا فِي قوانين الشَّرَائِع فَحَرمهَا لِأَنَّهَا كالشبح لِمَعْنى الرَّفَاهِيَة وكالتمثال لَهَا وتحريمها كالمقتضى الطبيعي لكراهته الرَّفَاهِيَة وَإِذا كَانَت مظان الشَّيْء مُحرمَة لأَجله وَجب أَن يحرم شبحه وتمثاله بِالْأولَى، وَتَحْرِيم بيع النَّقْد وَالطَّعَام بجنسهما مُتَفَاضلا مخرج على هَذِه الْقَاعِدَة، وَلم يحرم اشْتِرَاء الْجيد بِالثّمن الغالي لِأَن الثّمن ينْصَرف إِلَى ذَات الْمَبِيع دون وَصفه عِنْد اخْتِلَاف الْجِنْس وَلم
يحرم اشْتِرَاء جَارِيَة بجاريتين، وَلَا ثوب بثوبين لِأَنَّهَا من ذَوَات الْقيم فتنصرف زِيَادَة الثّمن إِلَى خَواص الشَّخْص، وَتَكون الْجَوْدَة مغمورة فِي تِلْكَ الْخَواص، فَلَا يتَحَقَّق اعْتِبَار الْجَوْدَة بَادِي الرَّأْي.
وَمِمَّا مهدنا ينْكَشف كثير من النكت الْمُتَعَلّقَة بِهَذَا الْبَاب كسبب كَرَاهِيَة بيع الْحَيَوَان بِالْحَيَوَانِ وَغير ذَلِك، فليتدبر، وَقد يكون شيآن مشتبهين لَا يتميزان لأمر خَفِي لَا يُدْرِكهُ إِلَّا النَّبِي صلى الله عليه وسلم والراسخون فِي الْعلم من أمته، فتمس الْحَاجة إِلَى معرفَة عَلامَة ظَاهِرَة لكل مِنْهُمَا وإدارة حكم الْبر وَالْإِثْم على علاماتهما، وَأَحْكَام التَّفْرِيق بَينهمَا (مِثَاله) النِّكَاح والسفاح فحقيقة النِّكَاح إِقَامَة الْمصلحَة الَّتِي يبْنى عَلَيْهَا نظام الْعَالم بالتعاون بَين الزَّوْج وَزَوجته وَطلب النَّسْل وتحصين الْفرج وَنَحْو ذَلِك، وَذَلِكَ مرضى عَنهُ مَطْلُوب، وَحَقِيقَة السفاح جَرَيَان النَّفس فِي غلوائها وإمعانها فِي اتِّبَاع شهوتها وخرق جِلْبَاب الْحيَاء والتقيد عَنْهَا وَترك التعريج إِلَى الْمصلحَة الْكُلية والنظام الْكُلِّي، وَذَلِكَ مسخوط عَلَيْهِ مَمْنُوع عَنهُ، وهما متشابهان فِي أَكثر الصُّور، فَإِنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي قَضَاء الشَّهْوَة وَإِزَالَة ألم الغلمة والميل إِلَى النِّسَاء وَنَحْو ذَلِك، فمست الْحَاجة إِلَى تميز كل وَاحِد عَن صَاحبه بعلامة ظَاهِرَة، وإدارة الطّلب وَالْمَنْع عَلَيْهَا، فحض النَّبِي صلى الله عليه وسلم النِّكَاح بِأُمُور (مِنْهَا) أَن يكون بِالنسَاء دون الرِّجَال، فَإِن طلب النَّسْل لَا يكون
إِلَّا مِنْهُنَّ، وَأَن يكون من عزم ومشورة وإعلان، فَشرط حُضُور الشُّهُود والأولياء ورضا الْمَرْأَة، وَمِنْهَا توطين النَّفس على التعاون، وَلَا يكون ذَلِك فِي الْأَكْثَر إِلَّا بِأَن يكون دَائِما لَازِما غير مُؤَقّت، فَحرم نِكَاح السِّرّ والمتعة، وَحرم اللواطة، وَرُبمَا يكون فعل من الْبر مشتبها بِمَا هُوَ من مُقَدمَات الآخر، فتمس الْحَاجة إِلَى التَّفْرِقَة بَينهمَا كالقومة شرعت فاصلة بَين الرُّكُوع والانحناء الَّذِي هُوَ من مُقَدمَات السُّجُود، وَرُبمَا لَا يكون الشَّيْء متكثر الارتفاق كالجلوس بَين السَّجْدَتَيْنِ، وَرُبمَا يكون الشَّرْط أَو الرُّكْن فِي الْحَقِيقَة أمرا خفِيا وفعلا من أَفعَال الْقلب، فينصب لَهُ إِمَارَة من أَفعَال الْجَوَارِح أَو الْأَقْوَال، وَيجْعَل هُوَ ركنا ضبطا للخفي بِهِ كالنية، وإخلاص الْعَمَل لله أَمر خَفِي، فنصب اسْتِقْبَال الْقبْلَة وَالتَّكْبِير لَهُ مَظَنَّة، وَجعلا أصلا فِي الصَّلَاة، وَإِذا ورد النَّص بِصِيغَة، أَو اقْتضى الْحَال إِقَامَة نوع مدارا للْحكم، ثمَّ حصل فِي بعض الْموَاد اشْتِبَاه، فَمن حَقه أَن يرجع فِي تَفْسِير تِلْكَ الصِّيغَة أَو تَحْقِيق حد جَامع مَانع لذَلِك النَّوْع إِلَى عرف الْعَرَب، كَمَا ورد النَّص فِي الصَّوْم بِشَهْر