الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْكَلَام إِلَّا على وُجُوه وُقُوعهَا وَعظم الِابْتِلَاء بهَا لَا سِيمَا فِي قوم نزل الْقُرْآن بلغتهم، وتعينت الشَّرِيعَة فِي عاداتهم وَلَا يَنْبَغِي أَن يُجَاوز من مُلَاحظَة كَون الطَّاعَة مُؤثرَة بالخاصية مَتى مَا أمكن، وَلذَلِك شرع الْقصر فِي السّفر دون الاكساب الشاقة، وَدون الزراع والعمال، وَجوز للْمُسَافِر المترفه مَا جوز لغير المترفه، وَالْقَضَاء مِنْهُ قَضَاء بِمثل مَعْقُول، وَمِنْه بِمثل غير مَعْقُول، وَلما كَانَ أصل الطَّاعَة انقياد الْقلب لحكم الله ومؤاخذة النَّفس بتعظيم الله كَانَ كل من عمل عَن غير قصد وَلَا عَزِيمَة أَو هُوَ من جنس من لَا يتكامل قَصده وَلَا يتَمَكَّن من مُؤَاخذَة نَفسه بالتعظيم كَمَا يَنْبَغِي - من حَقه أَن يعْذر وَألا يضيق عَلَيْهِ كل التَّضْيِيق
وعَلى هَذَا يَنْبَغِي أَن يخرج قَوْله صلى الله عليه وسلم: " رفع الْقَلَم عَن ثَلَاثَة " الحَدِيث وَالله أعلم.
(بَاب إِقَامَة الارتفاقات واصلاح الرسوم)
قد ذكرنَا فِيمَا سبق تَصْرِيحًا أَو تَلْوِيحًا أَن الارتفاق الثَّانِي وَالثَّالِث مِمَّا جبل عَلَيْهِ الْبشر، وامتازوا بِهِ عَن سَائِر أَنْوَاع الْحَيَوَان، محَال أَن يتركوهما، أَو يهملوهما، وَأَنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ فِي كثير من ذَلِك إِلَى حَكِيم عَالم بِالْحَاجةِ وَطَرِيق الارتفاق مِنْهَا، منقاد للْمصْلحَة الْكُلية إِمَّا مستنبط بالفكر والروية أَو يكون نَفسه قد جبلت فِيهَا قُوَّة ملكية، فَيكون مهيئا لنزول عُلُوم من الْمَلأ الْأَعْلَى، وَهَذَا أتم الْأَمريْنِ وأوثق الْوَجْهَيْنِ، وَأَن الرسوم من الارتفاقات هِيَ بِمَنْزِلَة الْقلب من الْجَسَد، وَأَنه قد يدْخل فِي الرسوم مفاسد من جِهَة ترأس قوم لَيْسَ عِنْدهم مسكة الْعقل الْكُلِّي فَيخْرجُونَ إِلَى أَعمال سبعية أَو شهوية أَو شيطانية، فيروجونها، فيقتدي بهم أَكثر النَّاس، وَمن جِهَة أُخْرَى نَحْو ذَلِك، فتمس الْحَاجة إِلَى رجل قوي مؤيد من الْغَيْب منقاد للْمصْلحَة الْكُلية، ليغير رسومهم إِلَى الْحق بتدبير لَا يَهْتَدِي لَهُ فِي الْأَكْثَر إِلَّا المؤيدون من روح الْقُدس.
فَإِن كنت قد أحطت علما بِمَا هُنَالك فَاعْلَم أَن أصل بعثة الْأَنْبِيَاء وَإِن كَانَ لتعليم وُجُوه الْعِبَادَات أَولا وبالذات، لكنه قد تنضم مَعَ ذَلِك إِرَادَة إخمال الرسوم الْفَاسِدَة والحث
على وُجُوه من الارتفاقات، وَذَلِكَ قَوْله صلى الله عليه وسلم:" بعثت لمحق المعازف ". وَقَوله صلى الله عليه وسلم: " بعثت لأتمم مَكَارِم الْأَخْلَاق ".
وَاعْلَم أَنه لَيْسَ رضَا الله تَعَالَى فِي إهمال الارتفاق الثَّانِي وَالثَّالِث. وَلم يَأْمر بذلك أحد من الْأَنْبِيَاء عليهم السلام. وَلَيْسَ الْأَمر كَمَا ظَنّه قوم فروا إِلَى الْجبَال، وَتركُوا مُخَالطَة النَّاس رَأْسا فِي الْخَيْر وَالشَّر، وصاروا بِمَنْزِلَة الْوَحْش، وَلذَلِك رد النَّبِي صلى الله عليه وسلم على من أَرَادَ التبتل وَقَالَ:" مَا بعثت بالرهبانية وَإِنَّمَا بعثت بالملة الحنيفية السمحة " لَكِن الانبياء عليهم السلام أمروا بتعديل الارتفاقات، وَألا يبلغ بهَا حَال المتعمقين فِي الرَّفَاهِيَة كملوك الْعَجم، وَلَا ينزل بهَا إِلَى - حَال سكان شَوَاهِق الْجبَال اللاحقين بالوحش.
وَهنا قياسان متعارضان: أَحدهمَا أَن الترفه حسن يَصح بِهِ المزاج، ويستقيم بِهِ الْأَخْلَاق، وَيظْهر بِهِ الْمعَانِي الَّتِي امتاز بِهِ الْآدَمِيّ من سَائِر بني جنسه، والغباوة وَالْعجز وَنَحْوهمَا تنشأ من سوء التَّدْبِير.
وَثَانِيهمَا أَن الترفه قَبِيح لاحتياجه إِلَى منازعات ومشاركات وكد وتعب وإعراض عَن جَانب الْغَيْب وإهمال لتدبير الْآخِرَة، وَلذَلِك كَانَ المرضى التَّوَسُّط وإبقاء الارتفاقات وَضم الْأَذْكَار مَعهَا والآداب وانتهاز فرص للتوجه إِلَى الجبروت، وَالَّذِي أَتَى بِهِ الْأَنْبِيَاء قاطبة من عِنْد الله تَعَالَى فِي هَذَا الْبَاب هُوَ أَن ينظر إِلَى مَا عِنْد الْقَوْم من آدَاب الْأكل وَالشرب واللباس وَالْبناء ووجوه الزِّينَة، وَمن سنة النِّكَاح وسيرة المتناكحين، وَمن طرق البيع وَالشِّرَاء، وَمن وُجُوه المزاجر عَن الْمعاصِي وَفصل القضايا وَنَحْو ذَلِك. فَإِن كَانَ الْوَاجِب بِحَسب الرَّأْي الْكُلِّي منطبقا عَلَيْهِ، فَلَا معنى لتحويل شَيْء مِنْهُ من مَوْضِعه وَلَا الْعُدُول عَنهُ إِلَى غَيره، بل يجب أَن يحث الْقَوْم على الْأَخْذ بِمَا عِنْدهم، وَأَن يصوب رَأْيهمْ فِي ذَلِك، ويرشدوا إِلَى مَا فِيهِ من الْمصَالح، وَإِن لم ينْطق عَلَيْهِ، ومست الْحَاجة إِلَى تَحْويل شَيْء أَو إخماله لكَونه مفضيا إِلَى تأذي بَعضهم من بعض أَو تعمقا فِي لذات الْحَيَاة الدُّنْيَا وإعراضا عَن الْإِحْسَان، أَو من المسليات الَّتِي تُؤدِّي إِلَى إهمال مصَالح الدُّنْيَا وَالْآخِرَة
وَنَحْو ذَلِك - فَلَا يَنْبَغِي أَن يخرج إِلَى مَا يباين مألوفهم بِالْكُلِّيَّةِ، بل يحول إِلَى نَظِير مَا عِنْدهم أَو نَظِير مَا اشْتهر من الصَّالِحين الْمَشْهُود لَهُم بِالْخَيرِ عِنْد الْقَوْم، وَبِالْجُمْلَةِ فَإلَى مَا لَو ألقِي عَلَيْهِم لم تَدْفَعهُ عُقُولهمْ، بل اطمأنت بِأَنَّهُ حق، وَلِهَذَا الْمَعْنى اخْتلفت شرائع الْأَنْبِيَاء عليهم السلام.
والراسخ فِي الْعلم يعلم أَن الشَّرْع لم يَجِيء فِي النِّكَاح وَالطَّلَاق، والمعاملات والزينة واللباس وَالْقَضَاء وَالْحُدُود وَقِسْمَة الْغَنِيمَة بِمَا لم يكن لَهُم بِهِ علم، أَو يترددوا فِيهِ إِذا كلفوا بِهِ، نعم إِنَّمَا وَقع إِقَامَة المعوج وَتَصْحِيح السقيم كَانَ قد كثر فيهم الرِّبَا، فنهوا عَنهُ، وَكَانُوا يبيعون الثِّمَار قبل أَن يَبْدُو صَلَاحهَا يختصمون، ويحتجون بعاهات تصيبها فِيهِ عَن ذَلِك البيع، وَكَانَت الدِّيَة على عهد عبد الْمطلب عشرَة من الابل، فَلَمَّا رأى أَن الْقَوْم لَا يرتدعون عَن الْقَتْل بلغَهَا مائَة، فأبقاها النَّبِي صلى الله عليه وسلم على ذَلِك، وَأول قسَامَة وَقعت هِيَ الَّتِي كَانَت بِحكم أبي طَالب، وَكَانَ لرئيس الْقَوْم مرباع كل غَارة، فسن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الْخمس من كل غنيمَة، وَكَانَ قباذ وَابْنه أنوشروان وضعا عَلَيْهِم الْخراج وَالْعشر، فجَاء الشَّرْع بِنَحْوِ من ذَلِك، وَكَانَ بَنو إِسْرَائِيل يرجمون الزناة، ويقطعون السراق وَيقْتلُونَ النَّفس بِالنَّفسِ، فَنزل الْقُرْآن بذلك
…
، وأمثال هَذِه كَثِيرَة جدا لَا تخفى على المتتبع، بل لَو كنت فطنا محيطا بجوانب الْأَحْكَام لعَلِمت أَيْضا أَن الْأَنْبِيَاء عليهم السلام لم يَأْتُوا فِي الْعِبَادَات غير مَا عِنْدهم هُوَ أَو نَظِيره، لكِنهمْ نفوا تحريفات الْجَاهِلِيَّة، وضبطوا بالأوقات والأركان مَا كَانَ مُبْهما وأشاعوا بَين النَّاس مَا كَانَ خاملا.
اعْلَم أَن الْعَجم وَالروم لما توارثوا الْخلَافَة قرونا كَثِيرَة، وخاضوا فِي لَذَّة الدُّنْيَا، ونسوا الدَّار الْآخِرَة، واستحوذ عَلَيْهِم الشَّيْطَان - تعمقوا
فِي مرافق الْمَعيشَة، وتباهوا بهَا، وَورد عَلَيْهِم حكماء الْآفَاق يستنبطون لَهُم دقائق المعاش ومرافقه، فَمَا زَالُوا يعْملُونَ بهَا، وَيزِيد بَعضهم على بعض، ويتباهون بهَا حَتَّى قيل إِنَّهُم كَانُوا يعيرون من كَانَ يلبس من صَنَادِيدهمْ، منْطقَة أَو تاجا قيمتهَا دون مائَة ألف دِرْهَم، أَولا يكون لَهُ قصر شامخ وآبزن وحمام وبساتين، وَلَا يكون لَهُ دَوَاب فارهة وغلمان حسان، وَلَا يكون لَهُ توسع فِي المطاعم وتجمل فِي الملابس، وَذكر ذَلِك يطول. .، وَمَا ترَاهُ من مُلُوك بلادك يُغْنِيك عَن حكاياتهم، فَدخل كل ذَلِك فِي أصُول معاشهم، وَصَارَ لَا يخرج من قُلُوبهم إِلَّا أَن تمزع وتولد من ذَلِك دَاء عضال دخل فِي جَمِيع أَعْضَاء الْمَدِينَة، وَآفَة عَظِيمَة لم يبْق مِنْهُم أحد من أسواقهم ورسناقهم وغنيهم وفقيرهم إِلَّا وَقد استولت عَلَيْهِ، وَأخذت بتلابيبه، وأعجزته فِي نَفسه، وأهاجت عَلَيْهِ غموما وهموما لَا أرجاء لَهَا، وَذَلِكَ أَن تِلْكَ الْأَشْيَاء لم تكن
لتحصل إِلَّا ببذل أَمْوَال خطيرة، وَلَا تحصل تِلْكَ الْأَمْوَال إِلَّا بِتَضْعِيف الضرائب على الفلاحين والتجار وأشباههم والتضييق عَلَيْهِم، فان امْتَنعُوا قاتلوهم، وعذبوهم، وَإِن أطاعوا جعلوهم بِمَنْزِلَة الْحمير وَالْبَقر يسْتَعْمل فِي النَّضْح والدياس والحصاد، وَلَا تقتني إِلَّا ليستعان بهَا فِي الْحَاجَات، ثمَّ لَا تتْرك سَاعَة من العناء حَتَّى صَارُوا لَا يرفعون رُؤْسهمْ إِلَى السَّعَادَة الأخوية أصلا، وَلَا يَسْتَطِيعُونَ ذَلِك، وَرُبمَا كَانَ إقليم وَاسع لَيْسَ فيهم أحد يهمه دينه، وَلم يكن ليحصل أَيْضا إِلَّا بِقوم يتكسبون بتهيئة تِلْكَ المطاعم والملابس والابنية وَغَيرهَا، ويتركون أصُول المكاسب الَّتِي عَلَيْهَا بِنَاء نظام الْعَالم، وَصَارَ عَامَّة من يطوف عَلَيْهِم يتكلفون محاكاة الصناديد فِي هَذِه الْأَشْيَاء، وَإِلَّا لم يَجدوا عِنْدهم حظوة، وَلَا كَانُوا عِنْدهم على بَال، وَصَارَ جُمْهُور النَّاس عيالا على الْخَلِيفَة يَتَكَفَّفُونَ مِنْهُ تَارَة على أَنهم من الْغُزَاة والمدبرين للمدينة يترسمون برسومهم وَلَا يكون الْمَقْصُود دفع الْحَاجة وَلَكِن
الْقيام بسيرة سلفهم، وَتارَة على أَنهم شعراء جرت عَادَة الْمُلُوك بصلتهم، وَتارَة على أَنهم زهاد وفقراء يقبح من الْخَلِيفَة أَلا يتفقد حَالهم، فيضيق بَعضهم بَعْضًا، وتتوقف مكاسبهم على صُحْبَة الْمُلُوك والرفق بهم وَحسن المحاورة مَعَهم والتملق مِنْهُم، وَكَانَ ذَلِك هُوَ الْفَنّ الَّذِي تتعمق أفكارهم فِيهِ، وتضيع أوقاتهم مَعَه، فَلَمَّا كثرت هَذِه الأشغال تشبح فِي نفوس النَّاس هيآت خسيسة، وأعرضوا عَن الْأَخْلَاق الصَّالِحَة
وَإِن شِئْت أَن تعرف حَقِيقَة هَذَا الْمَرَض، فَانْظُر إِلَى قوم لَيست فيهم الْخلَافَة، وَلَا هم متعمقون فِي لذائذ الْأَطْعِمَة والألبسة - تَجِد كل وَاحِد مِنْهُم بِيَدِهِ أمره، وَلَيْسَ عَلَيْهِ من الضرائب الثَّقِيلَة مَا يثقل ظَهره، فهم يَسْتَطِيعُونَ التفرغ لأمر الدّين وَالْملَّة، ثمَّ تصور حَالهم لَو كَانَ فيهم الْخلَافَة، وملأوها، وَسَخِرُوا الرّعية، وتسلطوا عَلَيْهِم فَلَمَّا عظمت الْمُصِيبَة وَاشْتَدَّ هَذَا الْمَرَض - سخط عَلَيْهِم الله وَالْمَلَائِكَة المقربون، وَكَانَ رِضَاهُ تَعَالَى فِي معالجة هَذَا الْمَرَض بِقطع مادته، فَبعث نَبيا أُمِّيا صلى الله عليه وسلم لم يخالط الْعَجم وَالروم، وَلم يترسم برسومهم، وَجعله ميزانا يعرف بِهِ الْهدى الصَّالح المرضي عِنْد الله من غير المرضي، وأنطقه بذم عادات الْأَعَاجِم وقبح الِاسْتِغْرَاق فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا والاطمئنان بهَا، وَنَفث فِي قلبه أَن يحرم عَلَيْهِم رُءُوس مَا اعتاده الْأَعَاجِم، وتباهوا بهَا كلبس الْحَرِير والقسى والأرجوان وَاسْتِعْمَال أواني الذَّهَب وَالْفِضَّة وحلي الذَّهَب غير المقطع وَالثيَاب المصنوعة فِيهَا الصُّور وتزويق الْبيُوت وَغير ذَلِك، وَقضى بِزَوَال دولتهم بدولته، ورياستهم برياسته، وَبِأَنَّهُ هلك كسْرَى، فَلَا كسْرَى بعده وَهلك قَيْصر، فَلَا قَيْصر بعده.
وَاعْلَم أَنه كَانَ فِي أهل الْجَاهِلِيَّة مناقشات ضيقت على الْقَوْم وصعبت، وَلم يكن زَوَالهَا إِلَّا بِقطع رُءُوسهم فِي ذَلِك الْبَاب كثأر القتلة كَانَ الْإِنْسَان يقتل إنْسَانا فَيقْتل ولي الْمَقْتُول أَخا الْقَاتِل أَو ابْنه، وَيعود هَذَا فَيقْتل وَاحِدًا
مِنْهُم، ويدور الْأَمر كَذَلِك فَقَالَ